“دبي بلينغ” أحدث إنتاجات “نتفليكس”، سلسلة من تلفزيون الواقع، لكن ولا في الخيال، بدأ عرضها الخميس الماضي.
واقع فاحش، يعرض لشخصيات مليونيرية، يجهد في تصويرها كقصص نجاح. فهناك من جاء الإمارة لا يلوي على ثلاثمئة دولار، فيما يقعد اليوم على ملايين. عقارات رخامية شاهقة وفسيحة. ثراء يدفع للقول هل حقاً يحتاج الإنسان كل ذلك!
وددنا حقاً لو نرى كيف أن قصة النجاح هي الحكاية، وتَشَوَّقنا لأن تصور الكاميرا معجزات التحوّل بين ما قبل وما بعد، لكن أحياناً قد تخجل الكاميرا من الذهاب إلى بعض المطارح، هل نحتاج إلى تفسير “قصة نجاح” فاتنة لبنانية تزوجت سعودياً يكبرها بثلاثين عاماً، هل نحتاج لوثائقي يفسر مصدر ثروتها!؟
لكن لنترك كل ذلك جانباً، دعك من عالم الـ “ما قبل” ، والسحر والمعجزات.
لنتحدث عن “الآن”؛ ما الاهتمامات؟ ما هي العوالم الفاتنة؟ أي شيء غير النميمة والدسائس، والكلام المهين الذي لا تعرف كيف يقبل “أبطال” المسلسل أن يقال بحقهم على الملأ. أي شيء يعرضه المسلسل غير الحاجة الملحة لغرفة ملابس أكبر تدفع المرأة للتفكير بشراء الفيلا المجاورة برمتها، وبالطريقة ذاتها تفكر باستئجار رحم امرأة أخرى لتنجب طفلاً يلح الزوج في طلبه.
نفكر بنموذج أكثر قرباً وأقل سطحية، إعلامية تكرر أنها في المصلحة منذ 17 عاماً، فيما نرى بأم العين أن قصرها لم يقدر عليه حسنين هيكل، وحقائب يدها تُحَفٌ قد تعيش مي زيادة وغادة السمان ونوال السعداوي عشرة أعمار قبل اقتناء مجموعة منها. هي نفسها تؤكد أن عمر الإعلامية قصير، ذلك يعني أن “الخبرة الإعلامية” ذات نفسها ليست الفيصل. وهي نفسها توضح: في الغرب لا يهمّ الإعلامية إن زاد وزنها قليلاً أو كثيراً، ولا إن كبرت قليلاً في السن.. تعرف أن المطلوب في الإعلام خارج كل هذا.
بالمصادفة، نقرأ أمس ما ورد في الـ “صاندي تايمز» عن «الوجه المظلم لدبي..”، عن” شمس الشقاء”، و”المدينة التي يلمع فيها الزجاج والفولاذ”، كما تلمع الإقامات الذهبية، وأصبحت ملاذاً للمليارديرية الروس الباحثين عن مكان بلا عقوبات، جنة الشعراء العرب، على ما يقول شاعر، والفلاسفة المزعومين، وجوانب عديدة معتمة في حياة المدينة (العربية!) الأشهر.
لا نريد أن نقع في هجاء المدينة، لكن لا شك أن لها، مثل أي مدينة في العالم، وجوهاً كثيرة، ليس مسلسل “دبي بلينغ” أحسنها، إن لم نقل إن هذا بالذات أكثرها ظلمة، رغم كل أضوائه الساطعة.
فيلم «الإفطار الأخير»
بات النظام السوري يمثل كل ما هو شرير في العالم، ولا يبدو أنه بذل أي جهد لإخفاء شياطينه أو تمويهها، إنما يتساءل المرء أحياناً: ألا يلزمه بعض التمويه (فيما يتصرف على نحو طائفي مثلاً) والتمثيل على أبناء الطوائف والأقليات الذين ما زالوا تحت سقفه، لهذا السبب أو ذاك؟! ألا يلزمه أن يتصرف كما لو أنه دولة، وأن أتباعه مواطنون؟
الجواب، على ما هو موثق في الواقع، وفي أفلام سينمائية: لا. إنه يتصرف، حتى في سينما موثقة، وستبقى شاهداً للأيام، كرجل عصابة لا يخشى لومة الحاضر ولا التاريخ. نرجع إلى فيلم “مطر حمص” لجود سعيد، على سبيل المثال لا الحصر، لنجد التفسير الطائفي المحض لما حدث في البلاد، التمترس الطائفي والأقلوي الصريح. أما النظام فهو يوسف المسكين الذي اجتمع عليه الذئب وإخوته لإلقائه في الجب، على ما يقول أيضاً “مطر حمص” .
فيلم عبد اللطيف عبد الحميد” الإفطار الأخير” (من إنتاج المؤسسة العامة للسينما) ينظر باحتقار شديد للمواطن السوري عموماً، فما بالك للمنتفضين على النظام، الخارجين عن طوعه!
يحكي فيلم “الإفطار الأخير” ، السيناريو والإخراج لعبد الحميد، قصة خياط سوري (عبد المنعم عمايري)، عمله الوحيد تقريباً خياطة بدلات رسمية لكبار المسؤولين في بلده.
سامي، وهذا هو اسم الخياط، رجل نزيه للغاية، كما يريد الفيلم أن يوحي، مخلص بعمله، ومواطن صالح، طالَ ما قدم خدمات لجيرانه ومعارفه من دون أن يطالبهم بأي مقابل. بدا الفساد عند معظم هؤلاء بديهياً، ووحده (سامي) المستقيم. لا ليس تماماً وحده، فالمسؤولون أيضاً، الذين يخيط لهم، هؤلاء الذي يأنفون من تذلّله لهم، المعطاؤون، الذين لا تشوبهم شائبة. اللهم إلا عدم اكتراثهم بحزنه على زوجته المتوفاة للتو بقذائف المسلحين، لقد طالبوه وألحوا عليه بالعمل على الرغم من ذلك، هذا هو عيبهم الوحيد.
الأشرار هم الناس، هذا يتوسط لديه من أجل أخيه الشرير الذي عاندَ على الحاجز فأخذوه من أجل «فركة أذن»، وهذا من أجل مكان أفضل لأخيه في الخدمة العسكرية الإلزامية، وهناك أخيراً الدلال، أي وكيل العقارات، الذي طال ما شتمه وجهاً لوجه، فيما يأتي الآن للاستنجاد بالخياط من أجل أخيه المسجون، فيظهر أن الأخير كان يحمل عبوات ناسفة للإرهابيين. وليس من المستبعد، كما يلمح أحد رجال السلطة لسامي، أن يكون الدلال نفسه إرهابياً، وهو ما ستثبته نهاية الفيلم بالفعل.نعرف ما تعني شخصية الدلال في المجتمع السوري، فهو حتماً نمط، إنه “القواد”، ورجل المخابرات، وآكل أموال الناس، لكن في الفيلم لا تدري بالضبط لماذا يعادي الدلال جاره الخياط سامي، يبدو أنه مجرد طبع شرير وحسب، هو الشخص الذي يتودّد لك لمصلحة، ويطالبك بإسداء خدمة، لكنه في قلبه، ومن وراء ظهرك لا يكف عن شتمك. بالمناسبة؛ لا تدري لماذا فقط في النسخة السورية لسمسار العقارات هو شر مطلق. هل يأتي ذلك في “كاتالوغ” المهنة، أم أن هذا السمسار هو وليد سوريا الأسد بالذات؟!
سامي، في الفيلم، يقولها صراحة: كيف تعارضون النظام وتنتقدونه، ثم عندما يضعكم في السجون تهرعون للتوسط هنا وهناك للفكاك من العقوبة! إنه يأخذ على الضحايا صراخهم، يأخذ على المساجين استنجادهم وضعفهم تحت الجلد والتعذيب.
أغرب ما يفعله عبد اللطيف عبد الحميد هنا هو تقديمه هذه الصورة غير المعهودة لرجل السلطة، نعني الشخصية المفتاح للمسؤولين، سامي، فهو جاهز لخدمة الجميع من دون مقابل، هذا غيفارا غير مألوف ولا في أي مكان في العالم، في وقت من المعروف للجميع أن هناك تجارة هائلة في سوريا الأسد تقوم على هؤلاء الأشخاص؛ يقبضون من الناس أموالهم وتعب أيامهم، من هؤلاء اللاهثين وراء رائحة خبر عن ذويهم في سجون النظام، وغالباً من دون الوصول إلى أحبائهم. هناك قصص لا تنتهي، إلى اليوم، عن هذه التجارة.
بالمناسبة، ماذا يفعل المستشاران الدراميان، الشاعر عادل محمود والسيناريست والروائي حسن سامي اليوسف، في هكذا فيلم؟ هل وُضع اسماهما على تيترات الفيلم على الرغم منهما؟!
*القدس العربي