راشد عيسى: نبيه بري مقتبساً محمود درويش … ومحمد رمضان مهاناً في العراق

0

يصادف المتابع لأخبار لبنان تقريراً إخبارياً عن استقبال رئيس مجلس النواب نبيه بري لنقابة المحررين. الموضوعات كلها متوقعة. تحدث بري عن أشياء كثيرة، شهيته كانت مفتوحة على الكلام في مختلف الشؤون، تحدث عن أولئك الذين لا رغبة لديهم بتطبيق «الطائف» ، وعن تطيير القاضي بيطار، ملف الكهرباء، الانتخابات النيابية، أموال المودعين، انفتاح العرب على إسرائيل في وقت الإقفال في وجه لبنان.. وفجأة، في خضم كل ذلك تقفز العبارة التالية: «واستشهدَ بالشاعر محمود درويش قائلاً: الليل نحن إذا انتصفَ الليل» ، ولبنان الآن في منتصف الليل»!

كيف زُجّ بدرويش وعبارته المستلّة من قصيدة له تتحدث عن خروج العرب من الأندلس في قلب خبر سياسي، أي علاقة، وأي مقاربة؟! صعب أن نفهم كيف، وفي الوقت نفسه لا نحسب أن لدى المرء الوقت الكافي لدراسة القصيدة وخلفيتها التاريخية، وإسقاطها على واقع لبنان اليوم، في ليله المديد. الانشغال كان أكثر بعلاقة نبيه بري، السياسي المخضرم، وأمير الحرب العتيق، و»بطل» حرب المخيمات وحصارها المرّ، بشعر محمود درويش، ليس من باب أن الشاعر فلسطيني، أبداً، بل هي محاولة لتخيّل علاقة السياسي (خصوصاً أنه ليس وزير خارجية فرنسا) بالشعر، متى يقرأ؟ ولماذا الشعر؟ ما الذي يتوخّاه عندما يخوض في قصيدة ليست عن الخيل والليل والبيداء؟ أين يقرأ؟ وكيف؟ مبطوحاً على بطنه فوق أرضية البيت؟ تحت عريشة العنب الظليلة؟ أين يكون المسدس في هذه الأثناء؟! مئة سؤال وسؤال، من بينها أيضاً سؤال عن المشترك الذي نشأ للتوّ بيني، كقارئ لشعر درويش، وبين نبيه بري كقارئ على الضفة المقابلة. ماذا تبقى لي من فرادة بعد الآن؟ أين أذهب؟
لقد دمّر نبيه بري ركناً عزيزاً من حياتي.

جنّة العماء السورية

إنه أمر يدعو للرثاء لا الاحتفال ألّا يجد شعب واقع تحت حكم نظام مستبد (كسوريا الأسد مثلاً) ما يثابر على قراءته طوال عقدين من الزمن سوى صحيفة واحدة، بل زاوية في صحيفة لا تتعدى ثلاثمئة كلمة، سقفها التجرؤ على شرطي المرور وموظف البلدية. فوق ذلك سيظل الشعب يعجب بها ويشيد بجرأة صاحبها، حتى لو انقلب العالم رأساً على عقب، حتى لو أتيحت صحف أخرى، وفضائيات، وسوشال ميديا، ومكتبات العالم كلّه بصيغة «بي دي أف» ، وهموم أخرى أكثر إلحاحاً من زاوية اختارت لنفسها اسم «قوس قزح» ، لا تتّسع إلا لبضع مفردات: سمنة، زيت، سكّر، مواطن، زفت.

مرّت الأيام، وأصبحنا في زمن الثورات، وظل الكاتب وزاويته في قاموس الزّفت إياه. المواطن نفسه، الذي يزعم اليوم أنه تربّى على تلك الزاوية الصحفية، خرج ذات يوم من عام 2011 ليقول لمستشارة في القصر، يوم وعدت المتظاهرين بزيادة الرواتب: «الشعب شبعان كرامة» ومع ذلك لم يتّسع القوس لهموم الناس الأوسع. ظننا أنه صمتَ وحسب، لكن الرجل توّج مسيرته القزحية بالدعوة إلى المشاركة في انتخابات كان محسوماً إلامَ، وإلى مَن، ستفضي: «سأصوّت لثلاث سنوات ونيّف (كان ذلك في العام 2014) من الصمود الأسطوري في وجه جحافل ملطخة بالقار والعار.. سأصوت ضد النازية الجديدة في تل واشنطن، وأذنابها النفطيين المتخلفين المنبطحين، المتوجهين في صلاتهم المخادعة وجهة تعاكس قبلة من يدعون أنه نبيهم.. ولهم قبلتهم المنحرفة، ولي قبلتي التي تبدأ من دمشق الصمود وتنتهي إليها.. سأصوت بنعم للرمز الذي أراه الأجدر.. الإنسان الأقرب إلى قلبي، وعقلي».
تغيّر الرجل أم لم يتغير، كتبَ أم لم يكتب، ليست هنا المسألة، لن يصدم السوريين بأكثر ممن صدموا بهم، المصيبة كلّها في أن بعض الشعب ما زال معجباً بتلك الزاوية، مع أنها كانت نموذجاً لخديعة النظام، على غرار مسلسل «جريء» كـ«بقعة ضوء» ومسرحية لدريد لحام كانت تفشّ الخلق، أو أخرى لهمام حوت.
ليس الحديث هنا في جواز الترحّم أم لا على كاتب رحل للتو، أبداً، هذا حديث في أن البعض لا يرحمون أنفسهم عندما يتركونها مشدودة إلى ذلك الركن الضيق الغابر مع أن الحياة انكشفت على عالم مليء بالدهشة وأجمل الكتابة وأقواس قزح لا نهائية.

محمد رمضان في العراق

ليس سوى رجل دين متوحش ذاك الذي صدرت عنه أفظع الكلمات العنصرية بحق الممثل والنجم المصري محمد رمضان إثر حفله في العراق. من بين شتائمه قال الشيخ المعمم جعفر الابراهيمي، إنه أسود. شتائم نقلها رمضان في تغريدة، وبرحابة صدر قال إنه متسامح مع كل ذلك، ولو أنه يستغرب أن يعيب الشيخ من قلب بيت الله لوناً من صنع الله.
برنامج «تريندينغ» على «بي بي سي» تناولَ تصريحات الشيخ. استضافَ المحاميةَ العراقية ونقيبة المحامين السابقة أحلام اللامي للتعليق على ما قال. وهي بدورها هوّنت مما قال الشيخ، قالت إنه كان يدافع عن الجياع، وإنها لم تكن سوى زلّة لسان، وإن «الشعب العراقي لا ينظر للإنسان بحسب اللون، والدستور العراقي يؤكد ذلك» !
إنها بلادنا ونعرف جيداً كيف تفكّر، وما موقع الأسود فيها. يكفي أن تبحث على الشبكة العنكبوتية قليلاً لتجد تقارير مصورة يتحدث فيها أصحاب البشرة السمراء من مدينة البصرة عمّا يعانون. حيث استبعاد السود من المناصب الحكومية والوظائف المرموقة، وترك الطلاب لمدارسهم بسبب تنمّر يتعلق بلون البشرة، إلى إساءات عنصرية وصلت حدّ القتل.
النقيبة اللامي أرادت أن تظهِر كم أنها حنونة على السود. جهدت لإثبات أن العراق يسميهم أصحاب البشرة السمراء، لا بدّ أنها تظن أن كلمة أسود بحد ذاتها شتيمة، وهنا على ما يبدو جزء كبير من المشكلة، في اعتبار اللون ذاته نقصاً. كذلك يظن المدافعون عن «زلّة» الشيخ أنهم فالحون عند تفسير كلامه بأنه أراد أن يصف أفعال رمضان بالسوداء. لا يا شيخ! على حدّ علمنا أن المشايخ مهنتهم الأولى اللغة، ولا يجب أن تخونهم أداتهم الأولى هذه.
لكن العطب ليس تماماً في اللغة، العطب في الإنسان.

*القدس العربي