بعد الحرب، نشأت في سوريا لغة باتت تسمى «لغة سهيل الحسن»، والأخير ضابط أسدي سفّاح، يقال إنه مدعوم من الروس، إلى حدّ شاع أنه البديل المحتمل لبشار الأسد.
كان «النمر»، وهذا هو لقبه، يلقي بخطب إلى ثلة من رجاله، أو إلى مراسلين ميدانيين، توحي في الظاهر بأشياء فلسفية عميقة، ليس من اليسير بلوغها. لغة لعلّها نتاج أشياء ثلاثة؛ مدرسة البعث، بما تعنيه هذه من ولع بالمنبرية والعنتريات، السّورنة (وهذا اصطلاح نحته البعض رغبة بالقول إن السوري نيقة على الخليقة)، ثم الولع بالنص الديني، بالغامض منه، بحيث يبدو أن كل غامض مقدس ورفيع.
وفّرت الحرب عدداً من تلك الخطب، لا عجب أن من بينها فيديو لشاب «على البَرَكَة»، ودائماً كان يشار إليها بالاسم أعلاه: «لغة سهيل الحسن». ولربما كانت تستحق أطروحة دكتوراه، تبحث في أصل الظاهرة وفصلها، وأبطالها، ومصادرها، وأبرز نصوصها.
بسهولة يمكن إدراج مقابلة الممثل فايز قزق مع رابعة الزيات ضمن تيار اللغة إياه.
لقد سئل الرجل عن الفساد في مسلسل «كسر عظم»، الذي لعب أحد أبرز أدواره، وبدلاً من أن يتحدث عن المعادل السوري للفساد، راح يتحدث عن «الولايات المتحدة التي تقود فساد الأرض»، تحدث عن القوة المسيطرة في التاريخ تمنع الآخرين من التطور العقلي، عن أمريكا التي تقود نظاماً رأسمالياً يدفع باتجاه أن لا يقف شعب على رجليه، تمنعه من الوصول إلى مستقبله.
ثم تكلم قزق كيف أنه اضطر لقطع حدود سايكس بيكو (المصنع السوري اللبناني) للوصول إلى الاستديو.
في النهاية علينا أن نستنتج أن أي مشهد تحرش في المسلسل لن يكون ممكناً إلا بدعم أمريكي، وأن أي رشوة لموظف لن تتم إلا بقيادة رأسمالية متوحشة، وأي عملية تهريب ستكون مغطاة من قبل السيّدين سايكس وبيكو.
في المقابل لن يفوت قزق المرور على الحضارة السورية.
أرادت المذيعة فقط، كما بدا في خلفية حديثها، أن تسأله إن كان فعلاً مسجلاً كلاجئ في السويد، (ومعلوم أن الرجل أرسل زوجته وابنه إلى هناك، ثم لمّوا شمله، وبدأ بالفعل بتعلّم اللغة السويدية في الكورسات المخصصة للاجئين)، لكنه مرّ على ذلك بسرعة، قائلاً إنه عاد، وإن بقية العائلة فقط في السويد.
آثر الرجل أن يتحدث عن «جواز سفر حضاري». سوريا الحضارة التي عمرها آلاف السنين، وحروف أبجديتها التي امتدت لتصل إلى الهند وباكستان وإيران، وقرأ بيتاً من الشعر بالفارسية ليثبت صحة كلامه.
هنا، ألقى سؤاله القنبلة، الذي لا بدّ أن يشكل حرجاً كبيراً للدوائر الغربية: لا يتمّ الاحتفاء بالحضارة السورية في أوروبا، عبر مكاتب سياحية وخلافه، بينما الترويج لمصر.
لا يتركنا قزق نفكر كثيراً، سيجيب على الفور: السبب هو أن سوريا حضارة الخصب، أما هناك (في مصر) فمربوطة أكثر بالرمال، ثلاثة قبور ورمال. حضارة الموت. تمجيد الموت. أما هنا فيُمَجَّد الخصب.
لقد اختار الغرب إذاً أن يُمَجِّد الموت على الحياة والخصب السوريين، ولو ترك الفنان السوري ليسرح في استنتاجاته لأوضح أنه الغرب نفسه الذي يشجع الفساد والإرهاب والتوحش والحروب وتفكيك البلاد وإسقاط أنظمة الحكم.
يحتقر فايز قزق الغرب إذاً (حيث تركَ عائلته وحدها في لجّة التوحّش الرأسمالي)، لكن ماذا عن مصر؟ لماذا كل هذا الاحتقار، الذي لم تخفف منه عبارة «مصر كلها على راسي»، إن لم تؤكد سوء النية بالفعل.
هل يدرك الرجل حقاً ما يقول، أم أنه يريد أن يملأ الوقت بأي كلام، خصوصاً أنه جاء إلى مكان يحتفي سلفاً به، إذ تقول الزيات في تقديمه: «فخامة الاسم وحدها تكفي»! (أرجوكِ فسّري لنا كيف). عندها لا بد أنه اعتقدَ بأن أي كلام سيكون مثار إعجاب.
بالنسبة لنا، إن فهمنا شيئاً، فبمعجزة.
إذا شعرتَ بأنك تستمع، تُمْعِن، تشغّل كل قواك ولا تفهم مع ذلك، فأنت أمام أحد اثنين، سهيل الحسن، أو فايز قزق.
رفقاً بنفسك من نفسك
من النادر مشاهدة مقابلة تلفزيونية مليئة بالـ «أكشن» من دون أن تكون مقابلة بين ديكين متصارعين، كما في برامج «الردح» ولأن الممثل السوري فراس إبراهيم مفاجئ دائماً، فقد استطاع أن يقدّم ساعة برامجية مشوّقة للغاية مع اللبنانية رابعة الزيات، بل لعلها الحلقة الأكثر تشويقاً.
يقول الفنان السوري لرابعة إن ثلاثة حوادث غيّرت حياته، قَلَبَتْها، على الأقل من ذاك المنتج التلفزيوني الغني، الذي أوشك على اقتناء طائرة خاصة، فيما عجز لاحقاً عن سداد أجرة بيته.
الأول، كان حادث سير رهيب، وكان إلى جواره الفنان مارسيل خليفة، في طريق عودتهما من التحضير لمسلسل عن محمود درويش. كل أطراف الحكاية تدفعك للمتابعة بانشداد (بما فيها تكفّل بشار الأسد بتكاليف علاج الممثل إبراهيم)، كما لو أنك أمام فيلم أكشن هوليوودي.
بعدها يتعرّض الفنان لسطو يجري فيه تشليحه مئة ألف دولار. اعتداء يؤدي إلى تعطيل مسلسل. وخسارة كبيرة، إلى جانب خسارة المبلغ المسروق. نكسة مهنية ثانية.
أخيراً، وليس بعيداً عن الحادثة الأخيرة سينقلب باص/ بولمان عمومي على طريق سفره إلى الإسكندرية، وسيكون، حسب الفنان نفسه، المقذوف الوحيد خارج الحافلة هو فراس، ومجدداً؛ مشافي وتعطيل وقصص.. (بالمناسبة، ليس من بين احتياطات الأمان أن تحجز كرسيين لنفسك في بولمان مصري. كرسي إضافي يحميك من غلاظة الآخر، أو يحمي الآخر من غلاظتك، لكن لا يحمي من الانقذاف والتحليق خارجاً).
الحوادث رهيبة، مؤثرة للغاية، ولا يتمناها المرء لعدو، لكن الخلاصات التي يتوصل إليها فراس إبراهيم مزعجة بعض الشيء:
يصرّ فراس على أن يظهر وكأن الله ابتلاه بتلك الحوادث لأنه أراد أن يوكله برسالة ما من ورائها، على الفور يتحوّل صوته إلى نبرة رسولية. هكذا يفسّر الرجل حوادث بهذا الحجم، ونجاة على هذا المستوى، وكأن المصادفات كلها كُرّست لتكون برداً وسلاماً على فراس إبراهيم.
من بين خلاصات إبراهيم هناك سؤال سيقلب الأكشن إلى ميلودراما: لماذا أنا؟ مثلاً: لماذا أنا الوحيد الذي انقذفت خارج الباص! قالها فراس، وأظنه بكى مع العبارة. فانشلع القلب المشاهد.
لكن كيف يعرف الفنان أن بائع سجائر عابراً برقبته خمس عائلات، من المحتمل أن يكون قد أصيب بالحادث نفسه، ولم يعد قادراً على إعالتهم وإعالة نفسه، ولا هو بالمنتج، وليس لديه بشار أسد يسدد له تكاليف المشفى.. ليس لبائع السجائر صوت، ولا طريق له إلى رابعة، كي نعرف كيف بإمكان حادث واحد أن يدمّر قبيلة.
النبرة الأكثر إزعاجاً في مقابلة إبراهيم تتعلق بالأنا المنتفخة بعض الشيء. تعليقات مثل كيف يجرؤ فلان أن يقترح عليّ خمسة مشاهد في مسلسل، أو أن ألعب دوراً هامشياً.. أنا الذي كانت تأتي رحلات من المحافظات السورية كي ألوّح لها من شرفة بيتي!
رفقاً بنفسك أولاً يا فراس، من نفسك ومن الميلودراما، ومن السطو على مكانة ليست لها.
*القدس العربي