ما أسهل أن يقع المرء في غرام هذه السلسلة التلفزيونية المسماة «من نقطة الصفر» (ثماني حلقات على نتفليكس). هي خلطة حب، يمتد فيها أول الحب اللذيذ أربع حلقات بحالها، فيها الجمال الأسود الفتّان، ووصفات طعام ومذاقات إيطالية تحرج كل أصناف الريجيم، ويمضي الحب إلى جانب تلك المذاقات في شوارع فلورنسا الحانية وأضوائها الرومانسية الخافتة، كما لو في فيديو كليب همّه الصورة أكثر من أي شيء.
حمل المسلسل وعوداً لم يف بها تماماً، حيث يحسب المشاهد أن انقلاباً في الخيارات المهنية للبطلة (تؤديها زوي سالدانا) سيكون في صلب الدراما. هي رسامة، ما زالت على مقاعد التعلّم، يشي النقاش مع أستاذتها بعدم الرضا الذي يمكن أن يدفعها إلى خيار ما بعيداً عن الفن، والبدء من جديد من نقطة الصفر، كما يوحي عنوان العمل نفسه، لكن، حتى لو تخلل المسلسل بعض نقاش عن الخيارات إلا أنه سينقلب إلى دراما أخرى، عندما يصاب العاشق بالسرطان، وتبدأ رحلة العلاج المضنية، وآثارها التي سيكون من بينها عدم القدرة على الإنجاب، واختيار تبني طفلة.
يبدو المرض العضال هنا كما لو أنه استنجاد من لا يعرف أين سيذهب بالحكاية، والسرطان قادر على اختراع أكبر دراما، كما أنه، مثلما في الحياة، لا يحتاج إلى إشارات ومقدمات، بإمكانك أن تزجّ به من دون حساب أينما أردت في حلقات المسلسل.
في المسلسل أفكار سياحية بعض الشيء، لا على مستوى الصورة فقط، بل حتى في عمق النقاش والتناول. فأنت دائماً أمام فكرة أن فلورنسا مدينة لها مركز، فيما المدينة الأمريكية (مدينة البطلة) لا مركز لها، لا قلب، وهو ما يصوره المسلسل بالفعل عندما يظهر المساحات الهائلة، والشوارع والأمكنة التي لا حدود لها. لجاهلٍ بالمدن الأمريكية قد تبدو الفكرة مقبولة، مع أن خمسمئة عام من تراكم الأحياء والأبنية والشوارع والمقابر في تلك الولايات البعيدة لا بد أنها خلقت مركزاً ما.
ينجح العمل على المستوى السياحي، فهو لا يجعل المرء شغوفاً بالمدينة الإيطالية عموماً وحسب، بل سيجرّه من أذنه إلى جزيرة صقلية، التي يتحدر منها البطل العاشق. سنقضي آخر المسلسل نتمشى في حاراتها ونتفرج على أبنيتها، ونعاين ناسها، أولئك الفطريين (قل الجلفين)، الواقفين على تضاد كامل مع مفردات الحياة الأمريكية، ولكن الطيبين الأقرب إلى القلب.
سنرجع، ولكن إلى أين!
بينما كان كارلوس مارستن بيلونغو، النائب في البرلمان الفرنسي بصدد طرح سؤال على وزراء الحكومة المعنيين حول «مأساة الهجرة غير النظامية» في المتوسط، ومصير المهاجرين العالقين على متن قوارب ولا يجدون أي ميناء أوروبي للترحيب بهم، قاطعه زميله غريغوري دو فورناس، النائب عن حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف، حزب مارين لوبين، بعبارة «ارجع إلى أفريقيا».
عبارة لن يكون من السهل أن تمحى من الذاكرة، لا باعتذار النائب المتطرف، ولا باعتذار من حزبه، وعلى أي حال هي ليست المرة الأولى التي تقال عبارة عنصرية من هذا النوع. إنما لنائب برلماني فرنسي!
لا نحسب أن العنصرية في أي مكان في العالم يمكن أن تفاجئ أحداً، إنها متوفرة إلى حد تظن أنها تأتي مع الجينات. راقب، حتى في تلك الضيعة البعيدة المنسية بلا ماء وكهرباء وغذاء، كيف يسارع الأفرقاء فيها على اختراع مواصفات تساعدهم على التفوق على شركائهم. في مناخات كهذه تولد العنصرية، إنما يصبح على المرء أن يربّي نفسه للتخلص من براثنها. إنها تقريباً في جيناتنا، ومن المؤكد أنها تتغلغل في لغاتنا، وثقافاتنا.
إنها متوفرة، هذا أكيد، لكن المفاجئ هو وقاحة التصريح بها، الإعلان عنها. المفاجئ هو وقاحة الشرّ، وقاحة أثارت الاستهجان إلى حد أن النائب المتطرف قدم اعتذاره لزميله، وحاول، مع حزبه، ربما تحسّباً لعقاب البرلمانيّ، التلاعب بالكلمات، بأنه قال «فليعودوا إلى إفريقيا»، لا «عد إلى أفريقيا»، أي أنه يقصد المهاجرين، لا مواطنه الفرنسي.
هذه الوقاحة تذكّر المرء بهتاف وقح، ومفاجئ حينها (لأنه على الملأ)، عندما هتف موالو بشار الأسد على الملأ، وفي دار الأوبرا السورية، إثر خطاب لسيدهم: «شبيحة للأبد، لأجل عيونك يا أسد». ستقول بسيطة، فالدم والقتل في الشوارع أكثر وقاحة ووضوحاً. ونحسب أن الكلام والهتاف أكثر فداحة، فقد تجد أحياناً تفسيراً، وتمويهاً، تسويغاً للقتل بألف سبب، ما دام القتل بعيداً عن عيون الجموع، لكن كلام الشر المطلق لا تفسير له، وهو (الكلام) على أي حال الأرضية التي تنمو فيها كل احتمالات القتل.
«ارجع إلى أفريقيا»، هي، من جهة أخرى، صيحة معارِضة تماماً لما يذهب إليه المغني الفرنسي جوليان كلير حين يقول «كلنا جميعاً لاجئون»، وبودّنا، لو نسأل النائب اليمينيّ أن يجري فحصاً لـ «دي أن أي»، فقد يكون لاجئاً من مكان ما، في زمن ما، لماذا نذهب بعيداً، فهو قد يجد الجواب في الزعيم الجديد لحزبه، بارديلا، المنتخب حديثاً، والذي تقبع الجزائر في جزء من جيناته. هل عليه أن يعود إلى مكان!
الصرخات
أحفظ عن مخرج تلفزيوني سوري، في مقابلة قديمة، عبارة، هي الشيء الوحيد الباقي في الذاكرة من مقابلتي مع المخرج صاحب المسلسلات الذائعة. قال ما معناه، إن كنتُ نادماً على شيء في حياتي فهو أنني لم أصرخ عندما وجب عليّ أن أصرخ. وعلى الرغم من أن المخرج لم يظهر في الشكل أن لديه تلك الرغبة الحقيقية في الصراخ، فقد كان منغمساً في تفاهة التلفزيون ومكتسباته وعوالمه إلى آخره، شعرت بأن رغبته تلك كانت عميقة وصادقة. تماماً كما ظللت أعتقد أنه لو شاء، أو لو قيض له ظرف أفضل، لكان مخرجاً آخر، مقبولاً ومحترماً إلى حد بعيد. لم يكن قادراً على التمام، على قولة المتنبي.
عندما حان وقت الصراخ لم يهمس مخرجنا ببنت شفة، أو لعله وجد أن عمره وحنجرته لم يعودا يساعدان على الصراخ.
أتذكر عبارة المخرج كلما شارفت على أن أصرخ، كلما استبدت بي رغبة جارفة بالثورة على شيء ما، لكنني أعرف: إننا مشدودون إلى تفاهة العيش، التمسك بما نظن أنه خلاصنا، وهناءة عيشنا.
كم من الصرخات تحت جلودنا.
*القدس العربي