العديد ممن شكّكوا بنسبة عبارة في أغنية المغنية اللبنانية كارول سماحة «ستنتهي الحرب» لمحمود درويش لم يحسموا الأمر تماماً، احتفظوا بهامش خطأ، رغم اليقين الذي أبدوه في المقابل، بأن درويش لا يمكن أن يقول شيئاً رديئاً كهذا. حتى أكثر النقاد التصاقاً بشعره، لم يجزموا. مع أن في الإبقاء على نسبة من الشك يكمن اعتراف بأن درويش يمكن أن يقول شيئاً كهذا أيضاً، وإذا كان تبيان الحقيقة صعباً إلى هذا الحد، فلأن للشاعر مئات المقالات المنشورة هنا وهناك، غير المجموعة في كتاب، على غرار ما نشره الشاعر بنفسه في «يوميات الحزن العادي»، و«وداعاً أيتها الحرب، وداعاً أيها السلام» . محركات البحث لن تقودنا إلا إلى المقطع الذي بات يعرفه الجميع، مذيلاً باسم درويش، من دون إشارة إلى المصدر. وهو رديء بالفعل، ومتداول بكثرة، على غرار عبارات أخرى كثيرة تذيَّل باسم دوستويفسكي أو جبران أو حتى علي بن أبي طالب. اُنظر خطورة التزييف في وسائل التواصل الاجتماعي: «مجنون رمى حجراً في بئر، مئة عاقل ما بطالعه» .
نعرف جميعاً أن درويش ليس قالباً واحداً، ولعل جزءاً من معجزته الشعرية تلك القفزة الهائلة بين دواوينه الأولى، والتي قد تكون نصف شعره، والنصف الآخر. هو نفسه لا يمكن أن يكون راضياً تماماً، لطالما شطب، وعدّل، ورمى قصائد بحالها من أعماله الكاملة. وكأني أتذكر مانشيتاً صحافياً عريضاً قال فيه إنه لو استطاع لرمى ما نسبته الشيء الفلاني من شعره.
هو واحد من أجرأ الشعراء على فعل ذلك. رفضه لإلقاء «سجل أنا عربي» في أمسيات عربية، رغم إلحاح الجمهور، يؤكد تلك الجرأة، والرغبة في التجاوز. وصحيح أنه كان يجيب بأن «سجل أنا عربي» كانت ضرورية في الداخل الفلسطيني، في وجه الإسرائيلي، فأي معنى لها عندما تقول لجمهور تونسي «سجل أنا عربي» ، لكن في جوابه اعترافاً بقلة الشعر في القصيدة. كانت صرخة مقفّاة، ضرورية في وقتها، علامة لا تنسى في النضال الفلسطيني، لكنها ليست شعراً، وربما يستطيع من ينكر «ستنتهي الحرب»، بقليل من التدقيق (والجرأة) إنكار «سجل أنا عربي» أيضاً، لن يكونوا أكثر رأفة من شاعرها بها.
لكن ليست هذه المشكلة الوحيدة في غناء كارول للقصيدة المنسوبة لدرويش، فالمغنية تصرفت فخلطت بين ذلك المقطع «اللقيط» وقصيدة أخرى، تجرأت عليها أيضاً فعدّلت فيها، وكسّرت في النحو. في التجربة شيء من الادّعاء، في الرقص وفي الحضور وفي التصوير والإخراج. يصعب أن تعثر على علاقة بين الكلام والمشهد المرسوم في الفيديو الكليب، تسأل ماذا تريد كارول سماحة من محمود درويش بالضبط، وهي قد غنت له اثنتي عشرة قصيدة جمعتها في ما سمّته «الألبوم الذهبي». ما المكانة التي جاءت تبحث عنها عندما غنت درويش. أسئلة كثيرة يمكن أن يسألها المرء، ستحدد أهمية التجربة وفرادتها أو قلّة قيمتها. لكن لن يصل الأمر إلى حدّ إنكار حق كارول في غناء درويش باعتباره مقدساً، تحت عبارات مثل «هذا محمود درويش»، أو «هذا درويشنا» و«من واجب المعنيين أن يطلعوا الناس مسبقاً على التفاصيل، وعلى الجهة التي أعطت سماحة حقوق أدائها، وبناء على ماذا، ولماذا هي بالتحديد» .
حتى كلام الله يرتّل من دون إذن مسبق من جهة رقابية، أو ختم جاهز. أكيد أن هناك أصواتاً لا حصر لها من مرتلي القرآن، وبالطبع تختلف الأصوات وتتفاوت، هناك عبد الباسط عبد الصمد ومصطفى إسماعيل ومرتل سوداني أسبغ على الترتيل مقامات محلية، وهناك الكثير سواهم، وبالطبع فإن بينها أصواتاً غير محببة للكثيرين، لكن مع ذلك لم نسمع مرة عن منع أحدهم من الترتيل لضعف في الصوت أو عدم الإتقان أو لأنه لا يحمل ختماً بالسماح. أغنية كارول سماحة، كما الفيديو كليب، هزيلة حقاً، لكن يمكن للحياة أن تستمر بعد هذه التجربة، من دون أن يهتز «درويشنا» ، أو تتأثر مكانة شعره في قلوب محبيه.
دوام الزلزال
إن أردتَ مرصداً مميزاً للزلازل ما عليك إلا أن تتوجه إلى إعلام النظام السوري، فهو لم يفرّط بأدنى هزة ارتدادية، لقد سجّل كل التفاصيل، واعتنى بكل خبر عن الزلازل، بات الوصي على باطن الأرض وصفائحها. إنها حبل خلاصه، تماماً مثلما كان الكوفيد التاسع عشر حبل خلاص النظام الجزائري من الحراك التاريخي في البلاد.
لا يكفّ النظام عن الإعلان أن لديه زلزالاً، فمع كل خبر سيأتي زائر دبلوماسي ليتضامن، برلمانيون، وزراء خارجية، مثقفون، والحبل على الجرار. وهو لم يكتف بمشاهد الدمار التي أحدثها الزلزال في الجهة السورية، فقد بدأت صور بالانتشار يقول أصحابها إنها لبيوتهم التي دمرها النظام نفسه، لا صور الزلزال. يستثمر النظام بالكارثة إلى آخر ما يستطيع، يحلبها، فهذه وكالة أنبائه تتحدث عن فيلم سينمائي بعنوان «12 سنة ريختر»، فما دامت الكارثة مجدية إلى هذا الحد، لماذا لا يسمي العشرية السورية الأخيرة كلها زلزال. مؤكد أن النظام لا يتمنى دوام شيء في العالم قدر ما يتمنى دوام الزلزال.
القدس العربي