المثقفون العراقيون الهاربون من نظام صدام حسين، ممن مرّوا بدمشق وأقاموا فيها كمحطة إلى بلدان اللجوء، ظاهرة تستحق التأمل والكتابة، ولا يستثنى منها إلا عدد قليل، حتى تلك القلّة قد تشكّل ظاهرة هي الأخرى تستحق التأمل بما الذي جعلها تنجو من قدر المثقف الهارب من الديكتاتور ليقع في غرام ديكتاتور مجاور، أكثر توحشاً ودموية، كما ثبت بالصوت والصورة والأرقام.
ما الذي يجعل ملحناً بارزاً مثل كوكب حمزة، صاحب لحن «يا طيور الطايرة» مغناة سعدون جابر الشهيرة والجميلة، يغادر وطنه الدنماركي، بلد لجوئه، ليحط الرحال في دمشق على سبيل الإقامة لا العبور هذه المرة، في وقت هجّ فيه نصف الشعب السوري! لماذا يحق له وحده العودة إلى دمشق فيما لا يحق لأصحاب البيوت التي استضافته يوماً، أي صفقة عقدها الرجل كي يحظى بمجد العودة!
قد يقال إن الرجل وفيّ لأصدقاء وبيوت لم تتمكن من الذهاب إليه للقائه، أو لعلّها لا ترى في الوطن فندقاً تتركه عندما تسوء الخدمة فيه، وتلك حكمة بعض مؤيدي النظام الخالدة، فذهب بنفسه شوقاً إليهم، لكنه حطّ الرحال، حال وصوله، على شاشة تلفزيون النظام، مانحاً إياهم شرف إطلالته محطماً قراره بعدم الظهور الإعلامي، استمر لسنوات، كرمى لعين التلفزيون الذي طال ما ساق أبرياء السوريين للاعتراف بجرائم لم يرتكبوها.
مع ذلك، لا ينكر المرء أن هناك بعض المفاجأة في منشوره منذ أيام بخصوص الحرب في أوكرانيا، والتي قال فيها: «اليوم فقط بدأت أتحرر من الخوف، من مشاريع الصهيونية العالمية والماسونية، شكراً بوتين وريث الفكر الإنساني النبيل، شكراً لك يا ابن بوشكين و ليرمنتوف و دستيافسكي». يستحق هذا السطر الكثير من النقاش والاعتراض، لا بدّ أن بوتين نفسه سيتلفّت حوله إن بلغه سطر كوكب حمزة. لكن المفاجأة كانت في انحياز حمزة لبوتين ضد وطنه الدانماركي الجديد، ففي حال انتصاره، لن يوفر بوتين هذا البلد وأياً من سواه من دول الجوار الأوروبية.
بوتين قبل ذلك دمّر سوريا وبيوتها التي أوت كوكب حمزة ورفاقه أياماً وليالي، وربما سنوات، وها هو اليوم يحرق الأخضر واليابس في بلد طامح للعيش في وطن ديمقراطي، ويجد أن من حقه اختيار موقعه في السياسة والاقتصاد وسواها.
لا نحسب أن أحداً يطالب حمزة بردّ أي دين لشعب سوريا، أو الوفاء للدانمركيين الذين احتضنوه لسنوات طوال، فقد يرضى هؤلاء بانكفائه السياسي، وصمته، على أمل أن يظل صوته ولحنه يصدح في الأرجاء: يا طيور الطايرة»، و«الكنطرة بعيدة»، «بساتين البنفسج».
جيني إسبر
يبدو أن البرنامج الإذاعي «المختار» على إذاعة «المدينة» السورية الخاصة (لصاحبه باسل محرز، النسخة المحدثة من مذيع «الشرطة في خدمة الشعب»، علاء الدين الأيوبي)، بات المطهر الذي على بعض الآثمين، الزّالة ألسنتهم بحق النظام، أن يعبروه قبل نيل الرضا، والعودة إلى حياة طبيعية. بعد اعتذار الفنان عباس النوري وتقهقره بعد انتقادات لاذعة لحكم العسكر السوري، ها هي الممثلة والموديل ونجمة الإعلانات السورية جيني إسبر تظهر في مقابلة، بعد تغريدة أبدت فيها تعاطفاً مع «الشعب الأوكراني المسالم»، بل وأبدت إعجابها بشخصية الرئيس الأوكراني «وما يحمله من فكر لبلدها»، هو «الممثل والفنان المهم جداً والمحبوب».
هوجمت الفنانة بقسوة، فكيف تسوّل لها نفسها التعاطف مع بلد هو في دعاية سوريا الأسد نازي شرير ويهدد أمن روسيا. عندما أطلقت جيني تغريدتها كانت مخلصة لأمها الأوكرانية، وأقارب وأصدقاء وأخ لها ما زال يعيش في أوكرانيا، ولم يكن في الوسع إلا أن تخشى من بطش بوتين على أحب الناس إليها. ليس في الأمر كلام سياسة ومواقف، إنها تسمع شهادات مباشرة من فم الناس تحت القصف، ولم تستطع أن تكذّب ما تسمع.
سيقت جيني إلى الاستديو لتقول ما أُمْلي عليها، إنها فقط ضد الحرب، «لأنه لا يجوز النظر إلى الحرب كلعبة كرة قدم». لم تتحدث هذه المرة عن شعب مسالم أو رئيس مثقف وعن أي خوف على مصير الناس العاديين.
سيكون مثيراً أن نشهد مناظرة سياسية بلا قيود بخصوص الوضع في أوكرانيا بين كوكب حمزة، البوتينيّ الهوى، وجيني إسبر، المعجبة بفكر وتمثيل الرئيس الأوكرانيّ.
بيرقدار
كان لافتاً بالفعل وصول أغنية حربية عن أوكرانيا فقط في أول أيام الغزو، كانت تلك أغنية «بيرقدار» التي سرعان ما ترجمت إلى العربية وتداولها متحمّسون على مواقع التواصل الاجتماعي. شريط ساخر يصوّر حطام الأسلحة الروسية ثقيلها قبل خفيفها، يتحدث عن «الخراف القادمين من الشرق»، وسيكون البيرقدار (الطائرة التركية من دون طيار، والتي استعملت بكثافة في مقاومة الأوكرانيين للغزو) راعيها. قالت الأغنية إن لدى الأوكرانيين ما يحوّل «عديمي الشرف» إلى أشباح، وما يضيف إلى قاموس «غريب الأطوار»، بوتين، كلمة جديدة: «بيرقدار».
تتحدث تقارير عديدة هذه الأيام عن محاولات أمريكية عديدة لتوريط تركيا في مواجهة مباشرة مع روسيا. أثيرت مثلاً قضية صواريخ «إس 400» التي طالب الأمريكيون تركيا بالتخلي عنها لأوكرانيا، فكان جواب أنقرة أنها تتخذ موقفاً وسطاً في الحرب بين البلدين، وأنها فقط تقود جهود وساطة.
اللافت أن محاولات التوريط الأمريكية شملت الحديث بكثافة عن الإنجازات الهائلة للمسيرة «بيرقدار» ودورها في صمود أوكرانيا. وكان جواب تركيا أن أوكرانيا اشترتها من شركة تركية خاصة.
هكذا إذن! حتى الأغنية هي جزء من بروباغندا غير نزيهة، ليس فقط لإثارة الحماس عند المتحمسين أصلاً، بل كجزء من مشروع توريط دول في الحرب.
حتى الأغاني لم تنج من الأجندات.
*القدس العربي