لم يتمكّن مسلسل «النار بالنار» من الصمود أكثر من بضع حلقات. الشخصية التي أحببناها (مريم) خسرناها قبل حلول الحلقة العاشرة، بعد أن تحوّلت مريم، بقدرة قادر، من دون أي مقدمات ومسوغات درامية تستحق، إلى شخصية أقرب إلى الفجور، منها إلى تلك الشخصية الخجولة، خفيضة الصوت. لا نتحدث عن مفاجأة التحول، الثابت الوحيد في الحياة، بل عن تسويغ التحول.
ليست المشكلة في إنصاف السوريين، أو اللبنانيين، أو مصداقية صورة كل من الجانبين بين الواقع والدراما، فإن كان لدينا، في الجانب السوري «شايلوك» الشرير المتنفذ، وآكل لحوم البشر، لبنانيين كانوا أم سوريين، فإن لدينا في الجانب ذاته، مريم، بنقائها ونبلها الأصيل، برغم الفجور والشر الطارئين، وإن كان لدينا في الجانب اللبناني عزيز (جورج خباز) الذي علق تلك اللافتة العنصرية (يمنع تجوال السوريين..)، وكراهيته تُفَسَّر بأن والده من بين مفقودي (مخطوفي) الحرب الأهلية، فإن لدينا بالمقابل جميل (طارق تميم) الذي يقف في وجه صديقه بضراوة لمواجهة تلك الكراهية (وللإنصاف فإن كلا الممثليّن هدية من هدايا العمل).. والأمثلة عديدة.
هنالك قدر كبير من المجانية في المسلسل، ومن التكرار، تبدأ من كاميرا “الدرون” التي أرادت أن تعيد إلى الأذهان «كفر ناحوم»، فيلم نادين لبكي الذي وظفَ الكاميرا لتصوير رعب العشوائيات وفظاعة ألوانها، فيما جاءت “الدرون” هنا بحركات بهلوانية ومجانية، لتصوّر براعة مستخدمها الذي بإمكانه أن يدخل بها من طاقة صغيرة، أو عمودي منزل، أو شرفة بيت، حتى لو لم يكن للبيت علاقة بالحدث، بل هو غالباً لا يمتّ للأحداث بصلة.
تحتشد رموز عديدة في العمل، ليست عفو الخاطر، فالحي يحمل اسم «حي السرور»، الاسم الذي يذكر بمسرحية زياد رحباني «نزل السرور»، هذا الذي كان فندقاً في مسرحية معروفة للفنان والموسيقي اللبناني. زياد يحضر بقوة من خلال جدار أساسي في منزل المثقف اليساري اليائس جميل (طارق تميم). هناك حشد هائل من الصور غير واقعي في ثباته على الحائط، حيث يتغير كل شيء في البيت، وخصوصاً المكتبة التي هي تاريخ هذا المثقف، وتاريخ أحلامه، ولا تتلف صورة على الجدار: غيفارا، كاسترو، مانديلا، زياد رحباني (أكثر من صورة)، جوزف صقر، يوسف عبدلكي (صورتان)، سليم بركات، الشاعر والروائي السوري الكردي (سنرى إن كان سينطق في النهاية، على غرار بندقية تشيخوف).. صحيح أن مبرر وجود تلك الصور حائط المثقف اليساري، لكن لا بد أيضاً أنها تحية، أو ربما مرثية، لليسار. لا يخفى أيضاً أن في العمل تحيات شخصية، ليس عبثاً أن تمر لافتة مكتب في الشارع تحمل اسم «أحلام المدينة»، وهو عنوان فيلم لمحمد ملص، وكذلك المقهى الذي يحمل اسم «مقهى صندوق الدنيا»، ولا ندري إن كان الإشارة هنا إلى فيلم أسامة محمد «صندوق الدنيا».
إن عدنا إلى شخصية اليساري، المحببة جداً بفضل الحضور الشخصي اللطيف والآسر للممثل طارق تميم، سنجد أنه زُج في مشاهد مكررة ومؤسفة مع زوجته، مؤسفة لأنها، تقريباً، حوارات ليست سوى شتائم، يبدو أن ابتكار الحوار تُرك للشخصيتين فوصلا به إلى حد مضجر من الإعادة، والسبّ غير المقبول.
شخصية أبو رضا (الممثل جمال العلي) مضجرة أيضاً في تكرارها، لقد بدا في أول المسلسل معقولاً إلى حد ما، ظننّا أنه السوري الذي اضطرته الحياة في الجوار اللبناني لتعلّم لغات ولهجات مختلفة، لكنه سرعان ما عاد إلى شخصيته هو، تلك التي تراها في مختلف المسلسلات، والتي لا يبدو أنه سيكون مسلياً ومتقناً إلا بها، وعلى رأسها دوره في «ضيعة ضايعة».
ولا يقل مجانية وتكراراً دور الفتى بارود (تيم عزيز)، بياع اليانصيب (أو اللوتو باللبناني)، الذي أعطي مساحة أكبر بكثير من فاعليته الدرامية، مثله مثل فتاة التيكتوك.
يفرد المسلسل قصصاً، ومشاريع شخصيات، لكن لا يعرف بالضبط ما يفعل بها، خصوصاً الحوارات الفارغة في الغالب، حوارات خاوية في بلد مليء بالقضايا والنقاشات والمشاجرات الحارة اليومية في كل الاتجاهات.
مع كل ذلك، لا يخفي المرء إعجابه بأداء بعض الممثلين، مثل كاريس بشار، وجورج خباز وطارق تميم.
كما يمكن الإشارة إلى مشهد مبدع حقاً هو نموذج للإطالة التلفزيونية المحمودة: مريم (كاريس) تتلفن لامرأة في دمشق، لأن هذه لديها أخبار عن زوجها المخطوف. كان يمكن أن ينتهي المشهد بكلمتين، لكن السيدة على الطرف الدمشقي ستعطي الهاتف لشاب يجلس على الدرج، وهذا بدوره قبل أن ينقلنا إلى شخص آخر على السطح، هو الخارج من السجن حديثاً، سيظهر “كاركتراً” مشغولاً، رغم الظهور القليل.
لم ينته المسلسل بعد، لقد بدأنا للتو ثلثه الأخير، سنرى ما الذي تخفيه الحلقات العشر الأخيرة، فللحديث إذاً بقية.
ملابس اعتباطية
علقت مصممة ملابس مسلسل «الزند» رجاء مخلوف على ما كتبتُ بخصوص ملابس بعض شخصيات العمل المكوية، بالقول إنها، وفريقها، جهدوا في تعتيقها، وما عليها إلا أن تعود فقط لملاحظة صور «الثائر» الزند (تيم حسن)، ويفترض أنه يعيش في الغابات والمغر في الجبال، لترى إن كانت تناسب حياة هذا الثائر.
لكن الحلقات الأخيرة أتحفتْنا بمشهد يقلع العين، فعندما يسطو الزند ورفاقه الثوار على بنك، سيخرجون منه بعد ارتداء ملابس موظفي البنك الرسمية، ملابس لا نحسب أن موظفي البنوك المعاصرين في أيامنا هذه قادرون على المجيء بمثلها، وقد كان لهؤلاء الثوار، سكان الجبال والغابات، المعرفة والصبر لارتداء البدلات الرسمية من دون أي خطأ، حتى أنهم لم ينسوا ربطات العنق (البابيونات) التي تؤهلهم للوقوف على السجادة الحمراء لحفل الأوسكار.
*القدس العربي