ظللتُ على الدوام أنظر إلى الأمير البريطاني هاري على أنه أمير بحق، لا لأنه يتحدّر بالفعل من جينات ملكية، بل لأنه أثبت على الدوام انشقاقه عنها، أولاً بقفزته الهائلة عندما تزوج الممثلة الأمريكية السمراء ميغان، ثم عندما تخلى، معها، عن مهامه الملكية قافزاً بالمرة خارج أسوار المملكة.
لم أفوّت أياً من صورهما معاً، وبتّ مفتوناً بنظرتها، نظرتها إليه بالذات، كما كانت عين الكاميرا نفسها، والمصور، مفتونة بها بالأساس. أتذكر خصوصاً صورتهما في أقدم مسجد في جنوب أفريقيا، عندما جلسا مع أطفال البلدة على الحصير، حافييْن، متربعيْن، على عادة ملايين البسطاء.
ومثل ملايين القراء كان المرء ينتظر، في كتاب مذكرات الأمير، تفاصيل «انشقاقات» صغيرة قادت للانشقاق الكبير. وكان مفهوماً أن ما سُرّب منها سيغضب العائلة الملكية والإعلام البريطاني إلى حد الهيستيريا. ثم جاءت المفاجأة أمس في مقطع من مذكراته يتحدث عن قتله خمسة وعشرين أفغانياً أثناء خدمته العسكرية في أفغانستان. ما دام المرء قد اختار أن يكون عسكرياً لا بد أن يجد نفسه يوماً ما وجهاً لوجه أمام خيار القتل، وهو، على أي جهة كان، سيقنع نفسه أنه لا بد على حق، ما يخفف من وقع أي ممارسة وحشية. هاري اعترف بأنه «لا يفكر في القتلى كأشخاص، ولكن اعتبرهم مثل «قطع الشطرنج» التي أخرجها من اللوح». وأنه «راض، ولا يشعر بالخجل»، وأنه سافر في ست بعثات مماثلة، فيها «إزهاق أرواح».
لا نحسب أنه يمكن لأحد في العالم، ومهما اعتقد أنه على حق، ألا يبدي أسفه لأنه مارس القتل، مضطراً، أو مختاراً، فما بالك بأمير! ماكبث نفسه، القاتل المتمرس الملوثة يداه بالدم لم ينج من كوابيس ضحاياه. وعرف أن كل عطور العالم لن تتمكن من غسل جرائمه.
لا يهم من كان على الطرف الآخر، تحت رصاص «الأمير» هاري، ليست المسألة في مقدار شرّانية الآخر، بل في مقدرتك على كبسة زر الإعدام، حتى لو كان صادراً من أكثر المحاكم عدلاً.
لقد خسرنا أخيراً أميراً، ما حسبنا أنه أمير، وكنا سلفاً خسرنا ملوكاً متوجين وأمراء، ثبت أنهم أقرب إلى الحثالات.
كان علينا أن نصدق هذه المقدرة لدى الملوك على إفساد الأمكنة.
السبع بحرات من زاوية أخرى
استفاق سكان دمشق أخيراً على أعمال هدم وتجريف لإحدى أشهر وأقدم ساحات المدينة، ولما استهجنوا وتساءلوا، جاء الجواب بأن هناك تصميماً جديداً حديثاً لساحة السبع بحرات، وهنا اندلع الجدل، والنقاش، والاحتجاج والسخرية. السخرية أولاً من جواب الجهات الرسمية التي قالت إن «المجتمع الأهلي» هو من تبنّى النهوض ببناء الساحة وتمويله. فجأة اكتشفت البلاد أن بين جنباتها مجتمعاً أهلياً يعتد به.
قيل الكثير بخصوص تاريخ الساحة (الذي يعود إلى حوالي مئة عام) وهويتها ورمزيتها وعلاقتها بمحيطها، وصولاً إلى سؤال ما الحاجة إلى ذلك، واقتراح أولويات أخرى لصرف أموال «المجتمع الأهلي»، على الأقل لأبناء الشوارع المشردين حول الساحة نفسها.
حدث حافل بالعناوين الجذابة؛ المعايير الجمالية، التناغم مع روح المدينة، ذاكرة دمشق، وكلها تدفع الناس إلى الشعور بالغيرة على بلدهم وأمكنتهم. وكلها لا تخلو من وجهة نظر تستحق الاهتمام.
لكن تعالوا نفكر من وجهة نظر نصف السوريين الذين هُجروا من منازلهم… دُمرت بيوتهم وشوارعهم وحتى مقابرهم، بل وخصوصاً ساحاتهم، حتى لا تتيح اجتماعاً لإنس، ولا لجن. كيف ينظر هؤلاء الآن، من خيامهم على الحدود، إلى نقاش بخصوص جماليات وهوية وذاكرة وتأهيل ساحة السبع بحرات!
وكذلك النصف الآخر من السوريين، الغارقين بسؤال واحد تقريباً؛ أين الكهرباء؟ إن سمعوا بمشروع السبع بحرات من أساسه (بسبب انقطاع الكهرباء) كيف ستكون مشاركتهم في هذا الجدل «الجمالي» الخالص؟
جواد الأسدي
اليوم هو يوم المسرح العربي، وفي المغرب تستمر فعاليات مهرجان المسرح العربي الذي يروج منذ أيام لكلمة المسرح العربي التي كتبها هذا العام المخرج العراقي جواد الأسدي، في محاكاة للكلمة التي تكتب كل عام في يوم المسرح العالمي في السابع والعشرين من آذار/مارس.
أعترف أنني ذهبت لكلمة جواد الأسدي وأنا أعرف سلفاً ما فيها. بلى، أنا هنا أسير الأحكام المسبقة، ذلك لأن هناك عِشرة عمر بيننا وبين عروض ونصوص جواد، أبرز المخرجين العرب المعاصرين، وربما أكثرهم حضوراً في المهرجانات والندوات والأسفار وخشبات المسارح وشاشات التلفزيون (هو مولع بتلفزيون النظام السوري خصوصاً). كتابته بالذات كشفت، بالنسبة لي، زيف هذه الأيقونة المسرحية. إن كان في عروضه المسرحية ما يشدّ، فغالباً بفضل كاتب عَلم (سعد الله ونوس في «الاغتصاب» مثلاً)، أو بحكم جهة إنتاجية (المسرح الوطني الفلسطيني)، أو بفضل ممثلين استطاعوا بحضورهم رفع سوية العروض. كان هناك أحاديث ونقاشات مع ممثلين شاركوا في مسرحياته وتحدثوا صراحة عن مساهماتهم هم في جعل العرض على السوية التي جذبت الجمهور.
دعك من كل ذلك، لنقرأ نصوص الأسدي، المسرحية منها، أو تلك التي يسجل فيها يوميات البروفة، إنها فضيحة كاملة الأركان لنصوص ركيكة، إنشائية، لا تليق البتة باسم مخرج مسرحي على هذا القدر، بل على أي قدر كان.
إن أردت التعرف على واحدة من أكاذيب المسرح العربي فما عليك إلا أن تعاين هذه التجربة، لكن إياك واليأس، ثق أن هناك عشرات التجارب المسرحية المدفوعة قسراً إلى العتم، وما عمل مهرجان المسرح العربي إلا إنكارها، أو إبعادها، إن لم يكن عن قصد، فعن طريق الاحتفاء بالتجارب المزيفة.
*القدس العربي