راتب شعبو: عدنان المقداد.. شاعر رفض الخروج من السجن لأسباب أخلاقية!

0

عتقل الشاعر عدنان المقداد في أكتوبر/تشرين الأول 1980 وكان له من العمر 21 عاماً، بعد أن ألقى قصيدة في ندوة عقدت في كلية العلوم السياسية في دمشق. اعتقل عدنان بتهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، وفي أكتوبر 1995، أفرج عنه وكان في السادسة والثلاثين، وهو لا يقل طفولة عما كان عليه قبل خمسة عشر عاماً.
بين هذين التاريخين، كان عدنان، ابن درعا الغالية، يرفض عروض الإفراج المشروط التي كان يقدمها الأمن للمعتقلين السياسيين كل بضع سنوات، وكان آخرها، بالنسبة لعدنان، في ديسمبر/كانون الأول 1991. حينها أفرج فعلاً عن الكثير من رفاقه (تعارفنا في السجن على ذلك اليوم باسم «الإفراج الكبير»)، لكن عدنان رفض العرض مع مجموعة من رفاقه، وعادوا إلى السجن. أما نحن الذين استثنتنا الأجهزة الأمنية من كرم عرضها المشروط، فقد احتفلنا بعودتهم بتلك الجديلة الشعورية الغريبة، التي تجمع الفرح الأناني (أن يبقى أصدقاؤك هؤلاء معك يشاركونك ويقاسمونك محنة السجن) إلى غصة الغيرية (أن تحب خسارتك الشخصية لهؤلاء الأصدقاء وتحب لهم أن يخرجوا إلى عائلاتهم وحياتهم).
عادت مفرزة الأمن في اليوم التالي لتأخذ المجموعة التي رفضت، إلى المساومة مجدداً. حاول الفرع الاستثمار في الألم الذي يجتاح نفس السجين، حين تجد الباب مفتوحاً ولا تخرج، حين تجد أصدقاءها يخرجون ويفرغ المكان من حولها وتبقى سجينة. لكن عدنان رفض مجدداً، وعاد إلينا، مع مجموعة أقل، ليقدم بعد ذلك، مع بقية رفاقه، إلى محاكمة، وليصدر بحقه حكماً مبرماً بالسجن لمدة 15 عاماً، من قبل محكمة عسكرية استثنائية في دمشق، اسمها محكمة أمن الدولة العليا (ليس لها من اسمها أي نصيب)، وذلك بعد أن كان قد قضى حوالي 13 سنة في التوقيف العرفي، ثم بقي عدنان في السجن حتى آخر يوم من مدة الحكم القرقوشي.
كان يبدو لي أن رفضه المساومات (كنا نسمي عرض الإفراج المشروط «مساومة») لا ينبع من منطق سياسي، بل من منطق «شعري» بالأحرى. لم يكن عدنان ذلك الرجل الذي تختاره السياسة، فقد كانت الأخلاق الرفيعة سيدة عليه. لم يكن صامت الضمير، لم يكن يحسب المعطيات، ويجيد لعبة الربح والخسارة، ولا يعترف بـ»علم» موازنة الشرور، فلا مفاضلة بين الشرور. ليس من موقع سياسي عقلي محسوب، بل من موقع الكرامة الشخصية، ومن موقع الوجدان والبراءة التامة، ومن موقع الرفض المطلق للشر، كان يأتي رفضه الدائم والمطلق للمساومات. بعد ذلك «الإفراج الكبير»، وتعليقاً على رفض مجموعة من المعتقلين الشيوعيين المساومة، نشر الفنان السوري علي فرزات كاريكاتيراً يقف فيه رجل وراء أربعة قضبان فيما القضبان التي على يساره ويمينه مكسورة، في إشارة تهكمية إلى «تمسك» هؤلاء بالسجن. كان عدنان من بين هؤلاء «المتمسكين» بالسجن. كأنه يقول طالما أن هناك سجناء رأي فلا بد أن أكون بينهم. و»تمسك» معه بهذا الموقف «الشعري» الصديق الراحل الأديب رضا حداد مع أصدقاء آخرين.

كان عدنان يقاوم السجن بالشعر، يقاوم بالطيبة والصدق ونضارة الروح، كان يستطيع أن يبدد غبار السجن الذي يتكثف على رموشنا، فيقطع حبل الزمن الشديد بضحكة متقطعة، وهو يطلب منك من بعيد أن تضع الركوة على السخانة، لأنه قادم لزيارتك. بكل جمال هذا الأسلوب الذي لا يليق بأحد كما كان يليق به. يجلس ليقرأ لك آخر ما كتب، بشفتين متلجلجتين كأن قلبه ينبض فيهما، أو ليسمع منك همومك أو كتاباتك أو أي شيء، وهو يتأملك بتلك الابتسامة العذبة التي تجاور شفتيه، والتي يثير غيابها لديك شعوراً بانكماش المكان من حولك. كان عدنان يقاوم المحنة بالتضامن القلبي. كان حين يجلس إلى جوار سجين فقد أمه وهو في السجن، لا يجلس كما يجلس المعزون، بل كما يجلس أصحاب المصاب. لا يتكلم، ولكنه ينقل إليك بصمته وارتجاف شفتيه وبالرفرفة اللاإرادية في عينيه، تضامناً صافياً يسند القلب.
في سجن الشيخ حسن، حيث يتنفس السجناء (حين يتنفسون) في ممر ضيق على شكل مربع حول مبنى السجن، ممر محاط بسور عال لا يمكن للسجين أن يرى منه سوى فروع عالية من شجرة كينا. هناك كتب عدنان:
وكانت ثمّة شجرة غريبة
تطلّ من خلف السور
وتبحث عمّن تشدّه
إلى صدرها
ومنذ أن أطلّت
أصبح يسير باتجاهها
كلّ يوم
ولا يصل
في ليلة سجن ثقيلة، ضاقت روح أحد السجناء في المهجع، وراح يصرخ بصوت مقلوب كأنه يريد أن يحرر روحه على حبل من الصراخ، كتب عدنان: «ولكن ماذا بعد الصراخ؟». وأمام بزوغ الحب بين سجين وزائرة تفصل بينهما شباك لا تنتهي، كتب عدنان: «أين يداي أيها البحر؟ حبيبتي ستأتي الليلة. أين يداي؟»
طفل يضع يده على النار فتحرقه ولا يتراجع، أم طفل يتجرأ فيضع يده على نار لا تسمح له بالتراجع والتدرب على الخوف. أيهما كان عدنان؟ مهما يكن، فإن المشترك بين الحالتين أن عدنان كان طفلاً مؤبداً، وكان أن اقتحمت براءتُه شراً أزلياً مؤبداً، واشتبكت معه وقاومته وثابرت، ولم تمت إلا حين مات عدنان. الآن حين أقرأ أو أسمع من يقول «الله يرحمه» أشعر بغصة زائدة، وكأن هذه العبارة هي التي تنقله إلى ذلك الجانب الآخر الذي لا عودة منه، أو كأنها هي التي تختم على غيابه الأبدي، أو تغلق الطريق على عودة ممكنة أو على معجزة.

المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here