رائد وحش: مؤرّخو المنصّات

0

المنصات مشغولة دومًا بأطروحات تاريخية يخرج بها أناس يبحثون عن حلول لمشاكل الحاضر في الماضي، فتراهم لا يوفرون جهدًا في تقديم رواية تتوافق مع ما يسعون إليه، حتى لو كلّف ذلك حقدًا بدلًا من المعلومة، وهذيانًا بدلًا من المنطق.

ليست مهمة المؤرخ الذي ظهر في المنصة أن يقدّم مادة تاريخية قابلة للنقاش، بل تقديم الدعم الأيديولوجي اللازم لجهة يصطف معها، وهي أحد اثنين؛ نظام كان ميليشيا أو ميليشيا تريد أن تغدو نظامًا. مع وجود طموحات فردية لدى البعض في تشكيل ميليشيا.

نقرأ عند هؤلاء أن المسلمين الذين جاؤوا من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام قوم أقرب إلى عفاريت خارجة من القماقم، في حين تبدو الشام قريبة من حال بلد معاصر محكوم بنظام برلماني، وفيها حريات للرأي والصحافة، وقانون ومواطنة، لكن ما إن وصل أولئك العفاريت حتى صارت خبرًا بعد عين.

في المقابل، لا تقرأ في منشوراتهم المستوى ذاته من الغضب حين يشيرون إلى بلاد الشام في حالات غزو أخرى، كالإغريقي أو الروماني، فهذه لمجرد عدم ارتباطها بالإسلام مُبرّأة سلفًا من تهم الجلافة والهمجية.

يحنّون طوال الوقت إلى شام مُختفية، غير موجودة، أو لم توجد أصلًا، ولديهم كامل الاعتقاد أن كتاباتهم هذه هي السبيل إلى استعادتها ثانية إلى الحياة. وبسبب هذا، تتخذ هذه الكتابات فوق قلة موضوعيتها ودقتها لمسةً حالمةً تجعلها تستقطب أناسًا يمزجون التاريخي والهوياتيّ بمسحة أقرب إلى الإيمان، وهكذا يبدؤون بإنتاج هويات مُتخيَّلة.

بلاد الشام والعراق ومصر الجزيرة العربية، وغيرها، بلاد كانت مفتوحة على بعضها البعض، تتأثر وتؤثر، لكن كيف نقنع مؤرخة فيسبوكية، أو عالم آثار إنستغرامي.. أن الإسلام ليس هجمة برابرة أطاحت بالحضارة، وليس ضروريًا أن يكون المرء آراميًّا أو كنعانيًّا ليكون بريئًا من شرّ البدو، الغدّارين، هادمي الحواضر، فالشرّ موجود في الإنسان وليس لدى البدو وكالة حصرية له؟

وبالمثل لا يمكننا أن نقنع نسّابةً تويتريًّا من بلدان الخليج أن الشعب اليهودي الذي يمنحه الحق في العودة إلى أرض إسرائيل القديمة، كما يقول، ليس سوى وهمٍ دون أي سند تاريخي أو آثاري، فالشعب اليهودي مفهوم حديث نشأ مع الصهيونية ولا يخص الديانة اليهودية، وكذلك الحال أيضًا مع مفهوم أرض إسرائيل. وأن الفلسطينيين شعب تعرّض لخطة استعمارية طويلة المدى، هدفها تطهير أرضهم منهم، وأنهم لم يبيعوا الأرض لكي يستبدلوها بالتشرد في الخيام.

هكذا ستغدو المهمة شاقة للغاية مع دعم جهات سياسية لهذه المنشورات، لأنها تمثّل إحدى الطرق لتكريس حقائق جديدة. وهذا ما رأيناه في سياق الترويج لصفقة القرن، ولا نزال نراه في التبخيس المستمر لكل ما يتعلق بالثورات والتغيير.

بالعودة إلى مؤرخينا هؤلاء، لا سيما حين تصل بهم حمى الاجتهاد إلى الهجوم على الجغرافيا عندما لا تكفيهم كتابة التاريخ، فيبدؤون برسم خرائط مصابة بالالتهاب القومي الحاد، الرافض لكل من لا ينتمي إلى العرق الذي تريد الخريطة أن تمنحه الأرض وتطرد من سواه عنها. وبهذا يمضون قدمًا من تاريخ يهيئ لمحو الآخر إلى جغرافيا صالحة للتطهير العرقي.

هي دائرة متصلة من الكراهية والأحقاد تهدّد المستقبل، لشدة ما تقوم بصناعة عداوات أبدية لا يصعب التخلص منها وحسب، بل يستحيل ألا تكسب المستقبل صبغات طائفية، تقود إلى حروب أهلية، وممن؟ من أغبياء يستمدون موادهم من الأقاويل والإشاعات، ومن قوى تستثمر في الشعبوية التي تكفل لها الديمومة عبر جعل ذلك الهراء مشروعًا.

في النهاية، ماذا يعني أن يكون هناك من ينحدرون من مخترعي الأبجدية أو من بناة الأهرام وهم الآن في حضيض الحضيض؟

*الترا صوت