قال صديقي الذي نزل في جواري مؤخرًا إنه فهم حنيني إلى دمشق حين صار منفيًّا مثلي. صحيح أنه في منفى اختياري قابل للانتهاء في أية لحظة، وصحيح أنه من بلاد لا تزال قائمة الأركان لا يُهددها من نزوات الحكّام – ولا بد من الغيرة- أكثر من طمعهم وفسادهم؛ إلا أن وجوده هنا، على هذه الأرض الغريبة، في فترة استشراء الوباء وتمديد فترات الحجر جعل من منفاه اللطيف قاسيًا وشرسًا، ومن تلك الغربة الإرادية والطبيعية عدوانًا عاصفًا على قلبه، ولهذا بات يحبّ البلاد التي جاء منها وكأنها إحدى البلاد الضائعة.
ما من شكّ في أن الفقدان أكبر مُشعلِي حرائق الحنين إلى الأمكنة في دواخلنا، لكنهما (الفقدان والحنين) ليسا السبب الوحيد وراء إقامة القلب الحسّاس علاقته مع المكان، فثمة إلى جوارهما: تخيّل الحاضر بطريقة تجمع بين ما عرفه القلب بنفسه وما عرفه بعد الغياب بطرق متعددة في صورة عامة، والتهيؤات التي تقود إلى الدخول في ذلك التخيّل في لحظات نفسية خاصة.
إذا كان مضي السنوات في عمر البشر هو من يقودهم إلى النضج، أي إلى أن يكونوا أشدّ تحديدًا تجاه كل شيء: الحب والصداقة والسياسة والدين، وأوقات الكذب والصدق.. وطريقة شرب القهوة. فحيث يكتسبون مع الزمن رؤى خاصة تزداد صلابتها مع الوقت إلى تلك الدرجة التي يغدو الواحد منهم قادرًا على اختصار موقفه، أو شعوره، بعبارة هي حياة مضغوطة بشكل مثالي في كلمات.
ولأنّ المنفى زمان فقط، زمان بدون مكان، فإن ما يحدث للمنفي فيه سريعًا هو ما يحدث للإنسان في الزمان الطبيعي خلال عقود، لأنه حين يغيب المكان المألوف يغدو من مهام الوعي أن يحوّل الزمان إلى مكان صالح للعيش، ولهذا سوف يكثر من الاستعادات والتذكّرات بمقدار ما يكثر من التهيؤات والتخيلات، فيأخذ المكان في داخل نفسية المنفي شكلًا لم يعد فيه في واقعه الحالي، كما يأخذ ملامح لن تكون فيه أبدًا، وذلك لأن المنفي يقوم بعملية تحرير مستمرة، بين تخيله ما كان وما سيكون، مضيفًا إلى المكان الذي في داخله وكأنه لوحة يرسمها، أو قصيدة يكتبها. لهذا سوف يصبح المكان على الصورة التي يشتهيها الشخص، وعلى النحو الذي يشعر أنه قادر أن يكون في مختلف أنحائه في اللحظة ذاتها.
هنا، عند هذه النقطة، يصبح المرء جديرًا بمكانه. وعلى هذا قلت لصاحبي: في المنفى، صرتُ جديرًا بدمشق كما لم أكن يومًا.
المأساوي الذي لا يحتاج إلى شرح أن هذه الجدارة محكومة بالغياب، وستظل غير قابلة للتحقق والحدوث. فحيث يعيش الإنسان الحياة كلها ليفهم، في زمن متأخر، ما الذي يريده منها، يعلّمنا المنفى في وقت قياسي ما الذي نريده من أمكنتنا، وبأية كميات، ناهيك أنه يعطينا لأجل ذلك ألف حاسة للتذوق.
غير أن تلك الجدارة تظل بلا معنى ما دمنا خارج المكان، إذ ننسى ما نعرفه عن جدارة أنفسنا، ونفقد الثقة بأن لدينا ما يكفي ليجعل منا مستحقين لحبّ الأمكنة التي جئنا منها، ثم في لحظات القوة والتماسك نعاود بناء كل ذلك مجدّدًا من الصفر. كأننا سيزيف بصخرته التي تتدحرج على السفح، مرة تلو المرة، وإلى الأبد.
*الترا صوت