خدعوها بقولهم حسناءُ
والغواني يَغُرُهُنَّ الثناءُ
- أحمد شوقي
غريب جدًّا أمر ذلك التفويض الذي يمنحه الشعراء لأنفسهم في مغازلة النساء، وكلهم يقينٌ أن ما يفعلونه تكريم لهنّ، دون أن يفكر أي منهم أن ما يقوم به مجرد اعتداء، اعتداء مسلّحٌ بالكلام على جسد أعزل.
يحدث ذلك في أمكنة الحياة اليومية، أو في التعليقات على المتداولة على المنصات الإلكترونية، إذ كثيرًا ما نسمع قصصًا عن شعراء يغازلون علنًا دون أن يقال إنهم متحرشون. أو نقرأهم في تعليقاتٍ يتركون فيها الموضوع المطروح والأفكار والجدل ويذهبون للإشادة بجمال كاتبته، دون أن يشعروا بأنهم يرتكبون خطأً، هذا إن لم نقل إنهم يفعلون ذلك وهم فخورون بأنفسهم لأنهم يكرّمون المرأة. وكثيرًا ما يكون الواحد منهم جاهزًا للدفاع عن نفسه بهذه الحجة البائسة في حال سأله أحد عن انتهاكه اللغوي ذلك.
عند التفكير في هذه المسألة نجد أن شعر الغزل العربي يقدم مادة دسمة في وصف الجسد والأعضاء والملامح، وكلها تأتي في إطار شهوة الرجال الجنسية نحو النساء، في حين أن هذا التراث، على الأقل الرسمي منه، يصمت صمتًا شبه كامل عن تعبيرات الاشتهاء الأخرى، أي تعبيرات اشتهاء النساء تجاه الرجال.
لا شك أن لكل ثقافة من ثقافات شعوب الأرض حصة وافرة من شِعر الحب في تاريخ أدبها، لكن ثمة شيء تمتاز به الثقافة العربية هو شعر الغزل، وهو نوع من الشعر هدفه الظاهر وصف محاسن النساء، لكن هدفه الباطن يمكن في أنه شكل رمزي للحصول على الجسد جنسيًا من خلال اللغة.
تعود خلفية الغزل العربي ثقافيًا إلى القصيدة الجاهلية التي قامت في مطالعها على النسيب، وعلى الرغم من أن هناك من حاولوا التفريق بين معاني كلٍّ الغزل والنسيب والتشبيب، حيث يُربط الغزل بالحب الجاد والنسيب والتشبيب بالعلاقات العابثة، لكننا في النهاية نحصل على اختلاط في المعاني. على الرغم من تلك الفوضى في هذه المعاني المتداخلة، إلا ان العودة إلى القصيدة العربية القديمة تساعدنا على فهم المعنى الذي تقوم عليه المقدمة الطَّلَلية، وهو معنى أسطوري كما سنُوضّح بعد قليل، أما القصيدة التي تأتي بعد ذلك فهي مساحة يتحدّث فيها الشاعر عن محطات من حياته وتجاربه، ليصل في النهاية إلى غرضه الأساسي، وهو المديح عمومًا.
في مقدمة القصيدة الكلاسيكية، تحضر كل ضروب الحب، العابث والجاد، لكن المسألة بسبب وقوف الشاعر مع أصحابه على الأطلال ستبدو أقرب إلى تقليد ديني، طقسي قديم، الحب يمثّل فيه الحياة، والأطلال تمثّل الموت، والقصيدة الشعرية هي الولادة الجديدة. وعلى هذا يمكن اعتبار الشعر العربي القديم قصة ميلاد من الموت، قصةَ انبعاث باللغة.
في كتابه “حديث الأربعاء“، قسّم طه حسين الغزل العربي إلى أربعة أنواع (1): 1- غزل العُذريين وهو الذي يعبّر عن الحب الأفلاطوني وله امتداده الجاهلي ممثًّلًا بعنترة بن شداد وحبه لعبلة، لكنّ حضوره الأساسي في العصر الأموي. 2- غزل الماديين الإباحيين، وهذا أيضًا غزل ظهر في العصر الأموي ويعدّ الشاعر عمر بن أبي ربيعة أبرز ممثلي هذا التيار، ويذهب مؤرخو الأدب إلى نسبة هذا النوع له، فيسمّونه “الغزل العُمَرِيّ”. 3- غزل المطالع وهو أقرب إلى التقليد الثقافي والفني كما أشرنا قبل قليل، انقلب عليه الشعراء في فترة لاحقة، لا سيما مع أبي نواس الذي راح يتهكم على كل ذلك الميراث. 4- غزل الإغاظة، أو الغزل الهجائي، وهو نوع من الانتهاك الجنسي للآخر، يقوم على ذكر مفاتن امرأة من عائلة الخصم أو العدو بهدف النيل منه، ومبتدع هذا النوع وصاحب النموذج الأشهر في ذلك هو عبيد الله بن قيس الرقيات، الذي خاصم بني أمية، فتغزل بأم البنين زوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك، لينال من رجالات بني أمية (2). إذا حذفنا النوع الأخير لكونه يقع في إطار ذكوري بعيد عن موضوعنا، والغزل في شعر المطالع، أو المقدمات، لكونه يؤدي وظيفة أقرب ما تكون إلى الوظيفة الأسطورية؛ فإن لدينا نوعين بارزين في شعر الغزل: العذري والعُمري، الروحي والجنسي، الأفلاطوني والأيروسي.. إلخ.
نشأ النوعان قديمًا لكنهما أخذا ملامحهما في العصر الأموي، فمع مجيء الإسلام حدثت تغيرات كثيرة نقلت هوية العرب من القبيلة إلى الأمة، ولأن العصر الأموي مثّل ذلك التحوّل من جهة، وشهد صراعات سياسية كبيرة من جهة أخرى، فقد انعكس الواقع السياسي أدبيًّا في هذين النوعين الشعريين، حيث مثّل كلٌّ منهما مكانًا، العُذري عن البادية، والعُمري عن المدينة، وسوى ما يمثله هذان من صراع بين نمطي البداوة والتحضر فإنهما معًا يمثلان أمرًا آخر هو التهميش الاجتماعي والتفاوت الاقتصادي الذي شهده هذا العصر.
يقول الطاهر لبيب في “سوسيولوجيا الغزل العربي“: “نما الحب العذري، والحب الأيروسي على نحو متواز، وهما استراتيجيتان جنسيتان كانت المرأة فيهما مجرد مرادف عاطفي لرأس المال الجديد. لقد قامت دونجوانية عمر بن أبي ربيعة على استثمار امرأة المجتمع الراقي النبيلة والغنية، في غير تسوية منتجة فكان النجاح المتصور والمقدم باعتباره ارتقاء أرستقراطيًا، من الناحيتين المادية والمعنوية، يُولّد إحساسًا بالرضى لا يحاول مطلقًا أن يضع النظام الاجتماعي القائم موضع اتهام. أما عند العذريين فإنّ الحب هو حب استلاب، بالمعنى الماركسي للكلمة تقريبًا: فالعمل الذي يتحمّل البطل فيه كل أشكال العناء لا ينتهي أبدًا إلى نتيجة” (3).
إذًا، المعاني التي ولدت من هذين الفنين هي المعاني الأكثر رسوخًا للحب في الثقافة العربية. لم يمتنع العذريون عن الإتيان بوصف حسي كقول جميل في بثينة: “يكاد فضيضُ الماءِ يخدِشُ جلدها/ إذا اغتسلتْ بالماءِ، من رقةِ الجلدِ”. أو حتى المجنون في قوله: “ضَمَمتُكِ حَتّى قُلتُ ناري قَدِ اِنطَفَت/ فَلَم تُطفَ نيراني وَزيدَ وَقودُها”. هذا غير الأوصاف النفسية، وهو ما امتلأت به أشعارهم. وبالقياس عليه لم يخلُ شعر العُمريين من جوانب عاطفية.
يكاد شعر ابن أبي ربيعة أن يكون معجمًا لأوصاف الجسد الأنثوي، فمن أقواله العامة: “لم يقاربْ جمالها حسنُ شيء/ غير شمس الضحى عليها النَّهارُ”، أو “ظَبيَةٌ تَختالُ في مَشيَتِها”، أو قوله “غَراءُ واضِحَةُ الجبينِ كأنَّها/ قمرٌ بدا للناظِرينَ منيرُ”. وصف شعرُه الوجهَ والفم والعيون والجلد والمشي والأرداف والخصر، دون أن يخرج في ذلك عن سياق بيئته، ومما نعتَ الأرداف مثلًا: “العجزاء” و”الهركولة” و”الرداح” و”المتراكم”.. إلخ، وهي أوصاف بصرية مستمدة من صور رمال الصحراء (4).
على الرغم من كل ما قيل بحق شعراء هذين النوعين، من كون العذريين مكبوتين جنسيًا أو مازوشيين، كما ذهب إلى ذلك صادق جلال العظم (5)، أو كونهم تأثروا بمفهوم الحب المرتبط بالعفة في الإسلام (6)، وأن العُمريين دنجوانات.. على الرغم من ذلك فإن ما يحتويه هذا المتن الأدبي الكبير هو امتداد لفن شعري يعود إلى بدايات الحضارة، وليس فنًّا عربيًّا خالصًا كما قال بعض النقّاد. لا شك أن الجديد هو اللمسة التي تضفيها التجربة الإنسانية في مرحلتها التاريخية، لكن التقليد الغزلي العشقي راسخ في الزمن، ويعود إلى أصول تمتد أبعد من اللغة العربية نفسها، وإذا ما كنا في الغزل نتوقف عند تجزيء الحبيب إلى أجزاء، فالأمر يبدو مستغربًا كثيرًا، إذ يخطر على البال السؤال: لماذا تحكي قصائد بحالها عن العيون فقط، أو عن الشفاه وحدها؟ ما الذي يجعل جزءًا من الجسد يحوز على هذا الاهتمام؟ ونجد الإجابة عن ذلك كله في عملية التحنيط عند الفراعنة، التي تقوم، إلى جانب ما تقوم عليه من عمل كيميائي وديني كهنوتي، على أفعال لغوية تسعى إلى إيصال الجسد الميت إلى مستوى “التجلي”، من خلال تراتيل مهمتها كما يعتقد المصريون القدماء تجميع الجسد الذي بعثره الموت. وعن هذا يخبرنا الباحث يان أسمان أنّ نصوص الموتى تريد أن تُحيي الميت بوسائل لغوية.
يقول أحد هذه النصوص:
“أعطيكَ عينيكَ لترى
وأذنيك لتسمع ما يقال
وفيك لتتحدث” (7).
وفي نص آخر:
“أعضائي آلهة
أنا كلي إله
لا يوجد عضو فيّ دون إله
أدخل كإله
وأخرج كإله
لقد تحوّلت الآلهة كلها إلى جسدي” (8).
لا بدّ من الإشارة إلى أن التحنيط يقوم على فكرة جمع أشلاء جسد ميّت ممزّق، على خلفية أسطورة أوزوريس الذي قتله شقيقه وبعثر أعضاءه في أنحاء مصر، وقامت زوجته وأخته أوزيس بجمع هذه الأجزاء وبكت وناحت فوق كل منها، ثم أعادت إحياءه بالسحر والكلام. لهذا يغدو تحنيط كل جسد في مصر القديمة استعادةً رمزية لهذه القصة، ومع أن الأجساد التي يُعالجها كاهن التحنيط في المعبد متكاملة وليست ممزقة، إلا أنّ تصور أن الموت قام ببعثرتها ظلّ قائمًا لديهم، من هنا راحت تُرافق التحنيط قراءاتٌ شعرية ذات طابع ديني، تتناول الأعضاء البشرية عضوًا عضوًا.
من هذه التجربة الفريدة نشأ في مصر القديمة شعرٌ أصبح أساس شعر الحب الشرقي، الذي وصل ذروته الإبداعية مع “نشيد الإنشاد” التوراتيّ، الذي ينظر إليه كأحد أهم نصوص شعر الحب في التاريخ.
يقول أسمان: “أما ما يربط هذا الشكل بنصوص تأليه أعضاء التحنيط فهو الأسلوب الوصفي الفردي لتقطيع أجزاء الجسم. فجسم المحبوبة يُقطّع هو الآخر هنا إلى أجزائه، ليعاد تجميعه من جديد عبر النص، ولكن على مستوى آخر من الصور الشعرية. وهنا لا يدور الأمر -مثلما في التحنيط- حول التقطيع، ولكن حول الإحياء. مثلما تُحيي متون التجلي جسدَ الميث تحيي أناشيد الحب جسم المحبوبة” (9).
من تعاويذ الفراعنة إلى نشيد الإنشاد إلى الغزل العربي بمختلف أشكاله، نرى أن الشعر يحوّل وظيفته من الديني في الشعر الفرعوني التأسيسي، ليصبح بيانَ معارضةٍ سياسية مع شعر الغزل الأموي، لكنه الآن، في زمننا، ينزاح عن كل ذلك ليتحوّل إلى اعتداء على جسد المرأة، فالشعراء الذين نراهم في الحياة اليومية أو في المنصات، كما أشرنا في البدء، يظنون أن المرأة تحتاج إلى الكلام لكي تصبح امرأة، أي أن كلامهم هو من يجعلها امرأة كاملة. إنها بالنسبة لهم كائن عَيِي، في حالة من البكم، هم من سوف ينطقونه. وبالتالي تلعب استعارة الشعر هنا في التقرب من تلك المرأة دور الغزو، لأنّ الشاعر، أو من يستعين بالشِّعر، يُعطي لنفسه حقّ الحيازة. إنه يحوز ما يتكلم عنه. كلامه عن تفصيل من الجسد، أو عن الجسد كله، هو بمثابة صك ملكية، كما يظن.
عم إنهم يعتقدون أن المرأة لكي تصبح امرأةً تنقصها الكلمات، وبالطبع تلك الكلمات ستكون كلماتهم هم بالذات، في تجاهل كامل لموقفها الشخصي من الحياة، ومنهم أيضًا، أو لما تريده، ولهذا يبدو هؤلاء الشعراء، أو من يستعينون بتعويذة الشعر، خارج العصر حين يخاطبون امرأة أزمنة الحداثة بأدوات العصور البطريركية. وسيغدو الجرم مضاعفًا على المنصات الإلكترونية، لأنّ الشاعر الذي يخاطب امرأةً بعينها في تعليق، أو رسالة، يُحوّل الغزل من فنّ أدبي يُخاطب امرأةً/خيالًا إلى تحرش واعتداء على امرأةٍ/ذاتٍ في السياق التواصلي.
اقرأ/ي أيضًا: عن الحب والاشتهاء في تراث العرب
بالنسبة إليه هي ناقصة الجمال (وبالطبع ناقصة عقل قابلة للخداع كما يقول أحمد شوقي في الاستهلال) حتى لو أنها جميلة فعلًا، وناقصة الأناقة حتى لو أنها أنيقة، وذلك لأنها لا تمتلك الكلمات. إن أنوثتها، بالنسبة إليه، أقل من المطلوب من دون كلماته. والمثير للسخرية فعلًا أنه يضع اللغة في مستوى أدوات التجميل والعطور والملابس.
بينما يستمر هؤلاء في إهانة المرأة، يستمرون في الوقت نفسه في إهانة التاريخ واللغة!
هوامش:
- حديث الأربعاء، طه حسين، مؤسسة هنداوي: القاهرة 2012، ص 198.
- المصدر نفسه، ص 263
- سوسيولوجيا الغزل العربي، الطاهر لبيب، دار الطليعة: بيروت 1994، ص 163.
- قراءة جديدة في شعر عمر بن أبي ربيعة، نوري حمودي القيسي، مجلة المجمع العلمي العراقي، الجزء الثالث العدد الثاني والأربعون، بغداد 1992.
- انظر كتابه “في الحب والحب العذري”، فصل “الحب العذري”.
- تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام، شكري فيصل، مطبعة جامعة دمشق 1959، الصفحات: 232 و236 و237.
- الموت والعالم الآخر في مصر القديمة، يان اسمان، المركز القومي للترجمة: القاهرة 2017. ص 106.
- المصدر نفسه، ص 101 و102.
- المصدر نفسه، ص 109.
*موقع الترا صوت