بما يشبه الأمومة، تبدأ علاقة الإنسان بمكانه، من جهة الالتصاق لأجل الرعاية: حمايةً وعنايةً وتغذيةً. وحين يبدأ في النمو يمنح المكان صورًا عاطفية تبعًا للتجارب التي يخوضها: ركن المشاجرة سيظل مخيفًا أو مثيرًا للغضب، ومسرح القبلة الأولى يبقى مهما مرّت عقود منعشًا وكأن الشفاه لا تزال تطبق على الشفاه.
من حاجة الإنسان إلى المكان تولد حاجة المكان إليه، فالأمكنة مثلنا تتنفّس وتأكل وتشرب، وذلك ليس سوى تجاربنا، سواء كنا بشرًا أو طيورًا أو أعشابًا. وربما يعبّر عن ذلك المثال الآتي: يحتاج الطريق، بوصفه مكانًا، إلى الأقدام، بوصفها كائنًا، بمقدار ما تحتاج إليه. هي تريده كي تصل، وهو يريدها كي يتمدّد ويتسع.
مع الوقت، يبدع الأفراد في تحويل المكان من مسرحٍ إلى مرآةٍ، رغبةً باستمرار حدوث الأشياء بالتذكّر. حين يكون المكان مسرحًا لأحداث الحياة سرعان ما تحدث وتنتهي، لكنه حين يغدو مرآة تتعاقد الذاكرة مع المكان على الاستمرار، أي على البقاء. تلك طريقة البشر في تأبيد أنفسهم من شدة ما يدركون حتمية الفناء. وهو ليس تأبيدًا بطموحات إلهية بمقدار ما هو تأبيد إنساني هدفه الامتلاء بالحياة، عبر توسيع الممكن وتضييق المستحيل، لأنها تحدث مرة واحدة.
من أجل ذلك ربط عقلنا الحياة بالمكان، بالهُنَا، والموت بالمنفى، بالهناك. وسيحتاج من يشكُّ بصحة هذه الحقيقة التاريخية أن يُنفى، ليرى رؤيةَ العيان أن أول ما يفقده الإنسان في المنفى هو الجهات، ثم الحدود، ثم الهندسة. ولكي يحلّ المنفيّ تلك المأساة يجعل المكان خطًّا مستقيمًا تتابع فيه الأحياء. أي يجعل الأمكنة في المخيلة على شكل قائمة، أو مشابهة للخريطة التبسيطية لمواقف الباص أو القطار وهي ترسم المكان على شكل تتابعي: 1، 2، 3، 4.. وبهذا يتواطأ عقل المنفيّ وروحه على رفض التداخل والتجاور حيث يعيش. وحين يصبح المكان خطًا ستصدمه حقائق بسيطة مثل أن الحي “س” يجاور الحي “ع”، دون أن يكون بينهما أي انقطاع. لماذا يُصدم؟ لأن المنفى مكان ممزّقٌ في داخله، وأن يراه في لحظة إشراقٍ كتلةً متلاحمة فذلك ما لا يسهل استيعابه.
الأمكنة كلها مفقودة في آخر الأمر، ليس بسبب الخروج منها، ليس بسبب خرابها، بالحروب أو الكوارث الطبيعية، إنما لأنها تتغيّر مثلنا بالنمو المستمر، بالتوسيعات من جهة، والإصلاحات من أخرى.
كأنّ الأمكنة نصوص تحت تحرير مستمر، ومن كثرة التدخلات يشعر كل أحد منا أن هناك أصلًا ضائعًا، من المدينة أو البلدة أو الحي، في جيله، وهذا الأصل الضائع هو صيغة المكان التي عاشها في صغره ثم شاهدها تتغيّر حتى الضياع، حتى الاختفاء. ولأجل هذا فكل الصيغ الجديدة المحتملة، في أي مستقبل مقبل، ستجد من يراها أصلًا ضائعًا، كي لا نقول إن اختلال هذه العلاقة يحدث في المنفى وحسب.
يعاني اﻹنسان طوال حياته كي يفهم ويعرف مكانه، بموجوداته وتفاصيله وأوقاته، لأن هذه المعرفة جزء من معرفة الذات، وحين يُرمى شخصٌ إلى مكان جديد دون أن يُعطى حياة جديدة من أولها، ليضيع في الشوارع طفلًا، ويشاغب ويعشق في الأرجاء مراهقًا؛ سوف تكون ذاته على رأس قائمة المفقودات. لهذا لا يعود المنفى مكانًا بل مغادرة للأمكنة كلها، والمنفيّ في المكان الجديد يراقب ما لا يستطيع أن يكونه مثل أهل المكان، ويظلّ يتذكّر المكان القديم متحسّرًا إذ لا يمكنه أن يكون فيه، ولحلّ تلك المعضلة يبني حياة غريبة من المادة المتوفرة لديه: ماضٍ صار سرابًا مخلوطٌ بحاضرٍ سيظلّ سرابًا.
المنفى سراب مكان، ما من فيزياء تراه فتفسّره، وما من لغة تحيط به فتكتبه، ولأجل ذلك يستمر الخلل: أناس يعيشون في السراب.. في أمكنة بلا جهات!
*الترا صوت