على شكل غناء، يهبط علينا رثاءٌ ممزوجٌ بالصبر والحنين، فيُبدل المكان الآمن الذي نسكنه إلى خيمةٍ. يحذف الصوت السقف من فوقنا، والجدران من حولنا، ويضع بدلًا منها قماشًا سرعان ما تخفق الريح فيه، محوّلةً إياه إلى طبول تُقرع عليها إيقاعاتُ تلك الأغاني.
لا تحتاج فيديوهات الغناء في المخيمات إلى شرح، وليس انتشارها عائدًا إلى تعاسة المكان الذي تأتي منه، ولا إلى بؤس أحوال من يغني، إنما السرّ في أنها تمثّل كل ما سيكون.
لا تستعطفنا لنشعر بمن يغنيها، إنما تهبط هبوط تميمة سحرية من أجل تبديل العوالم، وبينما تنشد المنشدةُ أو المنشد عن مخيمهم، المليء وحلًا وغبارًا وعقاربَ ومذلةً، أو عن البيت القديم الذي أحاله صاروخٌ أنقاضًا؛ تغدو الأغنية منزلًا، لهم ولنا. يسكنونها فيحضروننا إليها، أو يمضون إليها فيأخذون معهم كل من يسمع دبّ صوتهم.
اولأنّ كلمة “منزل” تعني النزول بالعربية، موحيةً بأن من يسكن ينزل من مكان عالٍ إلى آخر أوطأ. ولأنه نزولٌ من الراحلة أو الركب يبدأ السكن من لحظة الترجّل. بهذا المعنى، تنزل أغنيات السوريات والسوريين القادمة من مخيمات اللجوء لكي تصبح منازل تُؤوي خوفهم وضياعهم، وفي الوقت نفسه تُدخلنا إليها فننزل معهم فيها بحثًا عن سكن وإقامة.
في الأغاني المنازل، أو المنازل الأغاني، لا نبحث عن موسيقى أو عن شعر، لأننا ندرك أن الموسيقى الموجودة بسيطة للغاية، لتكون مجرد خلفية للقول. والكلام أيضًا بسيط، وساذج في كثير من الأحيان. لا شكّ أنه لا يخلو من صور ومفارقات وأفكار، لكنه لا يهدف لشيء أكثر من أن يدبّ الصوت بذلك المعنى العميق في ثقافتنا، أي كاستغاثة، أو كعودة إلى أصل العالم.
تتشابه هذه الأغاني مع الأراجيز القديمة، تلك التي لم تطلب أكثر من مواءمة الكلام مع إيقاعات أخفاف الإبل على الطريق. وبالطبع إن كل أغانينا الموروثة تشكّلت على هذا النحو، بمعنى أنها في العمق حداء، إلا أن اتخاذها من المخيم منصةً جعلها تظهر على حقيقتها، وهي أن هؤلاء الذين يطلقونها حداؤون، ونحن قافلة تتبعهم مثلما تتبع النجوم، ويبقى السؤال القديم مفتوحًا: هل تمشي القافلة بسبب الغناء، أم يخرج الغناء من مشي القافلة؟
ما نعرفه أنّ الغناء طوال التاريخ هو محاولة التسلي عن الطريق، محاولة نسيانه، من أجل تقصيره، وتهوين بلوغ النهاية. لكن الأصوات التي تدبُّها فينا المخيمات تقلب المعادلة مجددًا: الغناء ليس سوى طريق!
لنوضّح بعض الأشياء. الحداء والحداؤون جزء راسخ من تراث بلدان شرق المتوسط، ولا شك أن هناك أصلًا صحراويًا لكل ذلك، ولا تزال فنونهم حاضرة في تفاصيل يومنا، لأن جميع من نعرفهم يرددون أبياتهم في الحزن والفرح على السواء، إلا أن الحدّاء، أو الزجّال أو القوّال أو الشعّار، على اختلاف المسميات وتنوعها، هو شخص يحمل تطورات هذا الفن. وكل ما نسأله حول مصدر الألم الذي يحملونه يأتي من قوة التقاط جوهر تراثهم، وهم عمليًا أبناء ميراث الفراق، والفنون الغنائية المعروفة عندنا ليست إلا فراقًا، منذ ما عرفته القصيدة الجاهلية من بكاء على أطلال الراحلين، ومن قبلها ما تركته أناشيد الملاحم العراقية والسورية القديمة من ندب وبكاء على تموز وبعل، وفي تراث الموت الفرعوني القائم على رحلة نحو الموت، تبدأ منها رحلة أخرى نحو الأبدية. الحدّاء (على اختلاف أسمائه) حامل لهذا العبء ومطوّر ومُعصرنٌ له، لكنَّ حداة المخيمات شيء آخر، لأنهم عودة مظفرة إلى زمن أول، حيث العالم طريق والناس راحلون، ولذلك يسكنون في الأغاني ريثما يجدون منازل.
الحدّاء الذي نراه في عرس محلي، أو في برنامج تلفزيوني، هو مستقبل هذه الفنون. أما الجدة العجوز، المتلفعة بلحاف من الأمم المتحدة تحت خيمتها، فلا تختلف عن الكهنة الذين يعالجون جسدًا ميتًا بالتراتيل في معبد. إنها أفضل من يمحو الفوارق بين المخيمات والأهرام.
ثمة ما يقول صراحةً إننا حين نغني نصبح بدوًا، سواء خرج ذلك من فلاحٍ أو مدينيٍّ، ففي طقوس الغناء الممتد من جنوب الجزيرة العربية حتى شمال بلاد الشام، إلى الديار المصرية فالمغاربية.. تتحدث الأغاني عن ترحال مستمر، بلا بداية أو نهاية، وكأن الناس كواكبُ سيّارةٌ، أو أنهم كانوا كذلك يومًا، ولشدة رغبتهم باستعادة فضائهم المفقود اخترعوا الغناء.
من حركة السفر، من وضع الحادي في مقدمة القافلة، من استعمال لهجة محددة وكأنها منطوق الآلهة، ومن جعل الموسيقى إيقاعات، والشعر تراتيل.. تصبح الأغنية زمانًا ومكانًا، ويغدو حاديها، اللاجئ الذي أنهى علاقته مع المكان والزمان، مالكًا لمفتاحها السحري الذي لم يملكه أحد قبل سوى الصوت: العبور!
*الترا صوت