رائد وحش: العالم كما تحبّه ذرة غبار

0

يحكي لنا لطيف ناصر، في سلسلته الوثائقية “Connected” (مترابط)، قصةً عن غبار ينطلق من الصحراء الكبرى عابرًا المحيط الأطلسي في رحلة طويلة تنتهي به إلى غابة الأمازون المطيرة التي يريد تغذية أشجارها، ولأنه غبارٌ قادم من المنطقة التي تعرضت للجفاف من بحيرة تشاد فإن أجساد الأسماك الميتة تتحوّل إلى فسفور مغذٍّ لتربة غابات الجزء الآخر من الأرض، كونها تفقد الكثير من موادها الهامة نتيجة استمرار الأمطار.

هذه هي حكمة الأرض؛ موتٌ هنا يدعم حياةً هناك، سوف تدعم عما قليلٍ الحياةَ في كل مكان.

ولا ننسى أنَّ حبات الغبار نفسها تدعم في طريقها صناعة الأكسجين في المحيط، لأنها تساهم في تغذية نباتاته وعوالقه بما يساعدها على القيام بالتركيب الضوئي، لكنْ مهلًا، أحيانًا يغدو هذا الغبار الشهم ذو المهمة الرسولية مدًّا أحمر في خليج المكسيك فيُسمم حياة البشر والحيوانات.

هذا مثال بين مئات الأمثلة التي تقدمها تلك السلسلة الوثائقية عن ترابط وتلاحم عالمنا، وهو ليس بالأمر الجديد من حيث الفكرة طبعًا، لكن القصص التي يقوم عليها أمثلةٌ مدهشةٌ على نحو صاعق.

هذا التوجه في النظر إلى العالم ككلٍّ متكامل جزء من سعي حثيث نحو حياة مستدامة، يغذّ الخطى نحوه علماء وباحثون ونشطاء يعيدون النظر في الأسس التي بُنيت عليها طرائق تفكيرنا، خصوصًا كما تمثّلها النظرة السائدة القادمة من السياق الغربي، إذ إنه آن الآوان للتوقف عن اعتبار أن ما يصنع الحياة هو الصراع لأجل البقاء، أو جنون البقاء للأقوى، في إطار من العدوانية التنافسيّة، لأن قصةً مثل عبور غبار الصحراء إلى الغابة المطيرة تقول شيئًا آخر يخصّ الانسجام والتكامل لا الصراع والتنافس.

قام الفكر الغربي على أساس الفصل الصارم بين العقل والجسد، انطلاقًا من رؤية أفلاطون القائمة على وجود تمايز كبير بينهما، ثم جاءت المسيحية وعزّزت ذلك الفصل، إلى أن أتى ديكارت ونظر إلى الإنسان بوصفه حاملًا لجوهرين مختلفين، الجوهر الجسدي الذي لا يفكر ويختار، والجوهر النفسي الذي يفكر ويختار. وذلك كله أوصلنا إلى العالم الذي نعيش فيه، والقائم في جوهره على فكرة السيطرة، سواء سيطرة الإنسان على بني جنسه، أو سيطرته على الطبيعة. ومن الذي يريد أن يسيطر يا ترى إن لم يكن يشعر أنه ضعيف، بل ضعيف إلى درجة أنه مهدّد؟

في حين أن فلسفة الصين القديمة التي ظلت مستمرة لأربعة آلاف عام، خصوصًا في الطاوية، نظرت إلى أن الجسد والروح وحدة واحدة، ويمكن تحقيق التوازن بينهما بالتأمّل، وهذه المساواة الداخلية ستقود إلى مساواة بين البشر وبين الكائنات، وبينهما معًا مع الطبيعة. ذلك هو التفكير القويّ الذي لا يداخله ضعف. لا يفكر بالتوازن والمساواة سوى قلبٍ مملوء بحكمة العدل.

قادنا التصوّر الذي وضع العقل خارج أو فوق الجسد إلى النظر إليه على أنه المسيطر على الجسد، ومع الثورة العلمية بات من المنطقي أن يقودنا إلى مشروعية السيطرة على الطبيعة، من خلال منح العلم الحق في التسيّد، وحين جاءت فترة الاستعمار بات على فكرة السيطرة على الطبيعة أن تتحول إلى سيطرة على الآخرين وعلى طبيعتهم معًا.

وكما نظروا إلى أنفسهم بوصفهم عقلًا نظروا إلى الطبيعة والآخر بوصفهما أجسادًا. ولأن النظرة بالأساس ممزّقة، أو محطمة، فها هي ذي تقودنا إلى تمزيق العالم وتحطيمه، بعد أن أدت إلى الوصول إلى مجتمع الاستهلاك الذي يوشك أن يُعطل الأنظمة البيئية، ويضع كثيرًا من الكائنات على حافة الانقراض.

لا يعني هذا نكران دور العلم والفلسفة في تطوير الحياة، وتحقيق شكل هيّن ويسير من العيش مكّن الناس من السعادة، لكن المشكلة التي لا يجب أن تغيب عن البال أن العقلانية القائمة على فكرة المصلحة لم تَقدْ بسبب إفراطها لغير الخراب، حيث عجزت على اعتبارنا جزءًا من الوجود. وأحد الأمثلة الدالة أن المستعمِر نظر إلى الأصلانيين بوصفهم كسالى إذ لم يكونوا يحصدون كامل المحاصيل، في حين أن إجابة الأصلانيين أنهم يتركون حصصًا للطبيعة، للأرض والطيور والحشرات، في شعورٍ من التناغم الكامل في أنهم جزء من كلٍّ هو هذا العالم، بينما يبدو واضحًا أن المستعمِر لا يرى نفسه جزءًا منه على الإطلاق.

لأجل هذا باتت النظرات والأفكار على الساحة الفكرية الجديدة أقرب ما تكون إلى محاولات تصحيحية لمسار يمضي بنا قدمًا باتجاه طريق مسدود، وحين تجد غايتها في الفلسفات التي تكوّنت خارج الغرب فذلك لأنها تعيد ضبط موقع العقل في الجسد، وموقعهما معًا في الطبيعة.

إلى أن يحدث ذلك، ستظلّ ذرة الغبار التي تغادر أفريقيا عابرةً المسافات بصبرٍ ومثابرةٍ، من أجل تلبية نداء أشجار منطقة الأمازون، مثالًا أخلاقيًا ساطعًا في الإيثار والعطاء، في مقابل نزعة الشركات العابرة للقارات إلى امتصاص دم العالم.

*الترا صوت