استولى اسم سليمان العيسى على الشعر الموجود في الصّفوف الأولى من الكتب المدرسية، ولأن اسمًا واحدًا هو صيغة واحدة، واتجاه واحد، تأخرنا في معرفة معنى الشعر، وفي تشكيل تصوّر طفوليّ واضح عنه مشابه لوضوح تصورنا عن القصص وقتها.
ومع تراجع سطوة ذلك الاسم على نصوص الكتب منذ الصَّف الخامس، لتدخل إلى عالمنا أسماء وقصائد أخرى، بتنا نشعر أنّ الشعر هو ابتداء عصر التنوع في الأسماء، وليس عصر الاسم الواحد.
سنعرف لاحقًا أنّ العيسى عمل موجّهًا أول للغة العربية في وزارة التربية السورية، وكان موجودًا في كل لجان تأليف الكتب المدرسية، لذلك بطُلَ عجبنا من اقتصار الكتب الأولى على أشعاره، وعلى حضوره المستمر، وإن بدرجة أقل، في مختلف الصفوف اللاحقة.
لا أريد مناقشة تجربة سليمان العيسى الشعرية، إنما أودُّ تسجيل ملاحظة حول الإضرار الذي يلحقه العقل المؤدلج على الفن، وعلى لعب دورٍ سيئٍ في تشكيل وعيٍ مقيّد.
من المعروف أنَّ الرجل من مؤسسي حزب البعث، وهو من كتب بخطّ يده العدد الأول من جريدة هذا الحزب، ولأسباب حزبية استطاع الحضور في كتبنا المدرسية، والارتباط بمرحلة جميلة من أعمارنا وإن كان هذا كله لا يُغفل أنه أسّس لطريقة جديدة للكتابة للأطفال، إلا أنَّ احتكاره تلك المساحات من الكتب شوّش كثيرًا على فكرتنا عما هو الشعر، إلى درجة أن تلاميذ جيلي كانوا يقرؤون اسمه بوصفه جزءًا من القصيدة.
أتحدّث عن الكتاب المدرسيّ لأنه لطالما مثّل مصدر المعرفة الوجيد في سوريا الفقيرة، خصوصًا في المناطق الريفية النائية، وبين أهلها الساعين وراء أسباب الحياة، وأتحدّث عنه لأن السياسات التربوية استعملت الأدب، ومنه الشعر بطبيعة الحال، لتشكيل الإنسان الذي تطمح إليه السلطة، وهو الإنسان العربيّ المؤمن بأهداف ورؤى حزب البعث.
ولأن البعث ذو مضمون ثوري، من حيث دعوته لتحدي الاستعمار، والمرتبطين به، ومحاربته للتخلف الحضاري، وتأكيده على أدوار الفئات الاجتماعية المهمَّشة، وذلك على الورق وفي أدبياته فقط؛ امتلأت الكتب المدرسية بنصوص جميلة عن دور الأفراد في المجتمع، وعن بطولاتهم الشخصية التي تساهم في تحرير بلادهم من الغزاة واللصوص والفاسدين، وضرورة رفضهم لاستغلال الفئات الرجعية لقوت الناس.. لهذه وما شابهها بدت الكتب المدرسية في سوريا التي عرفتها في طفولتي ثورية، لكنَّ المفارقة العجيبة أن ذلك تحت سقف نظام استبدادي، سجونه ملأى بمعارضيه، ويحتل بلدًا شقيقًا هو لبنان، كما يقاطع بلدًا شقيقًا آخر هو العراق، ويضرب المخيمات الفلسطينية في لبنان، ويضيّق الخناق على مخيماتهم داخل سوريا، لكنه، للمفارقة الأعجب، لا يحارب العدو الذي يحتل قطعةً من أرضه، رغم كل التعبئة التي يتحدّث عنها، ورغم كل الحفاوة التي يحظى بها الجولان لفظيًا!
جعلت السلطةُ الأدبَ في الكتب المدرسية وسيلةً من وسائل التعبئة العامة وغسل الأدمغة، ليكون جزءًا من الماكينة الاستبدادية الكبرى التي تعمل ليلًا نهارًا على تدجين البشر، لكن المفارقة، أيضًا، في بلاد المفارقات، أنّ الشعر والقصص الصالحان لتطبيق نظرة الحزب الواحد وسلطته علينا هما أول من يكشف كذبها الخبيث. ورغم كثرة الأمثلة هنا، أتذكر واحدًا شديد الدلالة، حدث في الدرس المخصص، في مرحلة متقدمة قليلًا، لنقاش قصيدة حول عذابات المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد في سجون الاستعمار الفرنسي، ووقتها ساد تعليق أطلقه أحد التلاميذ، فحواه أنّ المخابرات عندنا تفعل الأمر نفسه.
في الصّف الرابع الابتدائي، أي في عمر التاسعة، في الكتاب الذي تسيطر عليه قصائد سليمان العيسى، أي قبل مرحلة تحرّر الكتب منها بسنة واحدة فقط، تفاجئنا قصيدة “الطفل والنهر” داخل الكتاب المدرسي، وتقلب الأشياء على عقبها.
نقرأ قصيدةً حزينةً منذ المقطع الأول، حيث يخاطب طفلٌ نهرًا قائلًا:
“أيها النهر لا تسرْ وانتظرني لأتبعك
أنا أخبرتُ والدي أنني ذاهبٌ معك
فانتظرني لأتبعك”.
تمتاز القصيدة بنبرة حزنها غير المقصودة في عالم أدب الأطفال، فحتى لو عرفنا حزنًا كثيرًا في هذا الأدب إلا أنه غالبًا ما ينقلب إلى فرح، وقوة هذه القصيدة تأتي من رفضها القاطع لتلك المعادلة، لهذا تبدأ حزينة وتنتهي وهي على ذلك الحزن، بل تزيد من التهابه.
تُروى القصيدة بلسان الطفل، ومن وجهة نظره، إذ يخاطب النهر راجيًا منه أن ينتظره لأنه ينوي الذهاب معه، وأنه أحضر زورقًا ورقيًا، وأنه أخذ موافقة والده، وليس عليه سوى أن يذهب، صحيح أن الطفل لا يقول كيف، لكنّ وجود الزورق الورقيّ يبدو أنه الوسيلة التي يقترحها للذهاب، وهذا شطح يضاعف الحال، إذ يصبح الذهاب ذهابين، واحدٌ في الواقع، وثانٍ في الخيال. لكن الذي يحدث أنَّ النهر لا يبالي بكل ذلك، ويسير في طريقه دون أخذه.
أعطت هذه الأفكار البسيطة والواضحة زخمًا للقصيدة في قلوب الأطفال الذين كناهم يومًا، ولهذا ظلّت مزروعة في الذاكرة الجماعية، وقلما تحدثتُ مع من درسوا المناهج السورية القديمة ولم يأتوا عليها، مبدين، نساءً ورجالًا، درجة التأثر العاطفية ذاتها، وكأنَّ كل أحد منهم ذلك الطفل.
في سنوات النضج، عدتُ إلى القصيدة مرارًا، في مرات مختلفة، ولأنها موقّعة بـ”من كتاب الروضة” بدلًا من اسم شاعرنا المعهود، أو أي اسم بشريّ آخر، عادت الحيرة الطفولية القديمة إليّ، فغياب اسم الشاعر شكّل كسرًا لإيقاع الكتاب المدرسيّ، و”كتاب الروضة” الذي لا يعرفه حتى المعلم جعلنا نظنّ أن هناك لغزًا.
إذًا، قصيدة واضحة من كتاب غامض. هذا ما صنع حيرةً منحت القصيدة مزيدًا من السحر. ولاحقًا، حين بدأتُ البحث، لم يخفت ذلك السحر أبدًا، فهناك دلائل عديدة تؤكد أن النصوص العظيمة تأتي من أصوات مجهولة، من جهات غامضة، ولا يوجد ما هو معروف منها، أو عنها، سوى ما قالته. الأمر ذاته في الكتب الدينية.
“كتاب الروضة” هو كتاب مدرسي تعليمي أردني، طبعته مطبعة الاستقلال في عمّان، واعتُمد للتدريس في سنوات الخمسينيات من القرن الفائت، ثم مع توحيد المناهج التعليمية السورية والأردنية والفلسطينية (بحكم تبعية الضفة الغربية للأردن حتى 67) جرى الاقتباس منه، وحين غيّر الأردن كتبه ظلت الكتب السورية مستمرة حتى أواخر تسعينيات القرن الفائت، ما يعني أن قصيدتنا أثّرت بأكثر من جيل.
لننظر إلى القصيدة. إنها تحكي عن شيء غير متاح هو الذهاب مع النهر. وإلى أين تذهب الأنهار؟ إلى البحار بالطبع. والبحار بدورها تمتد حتى تندمج بالمحيطات.. هذا يعني أنَّ طفل القصيدة لا يطلب الذهاب إلى البعيد وحسب، بل يطلب بكل إصرار بعيدَ البعيد.
والقصيدة تعبّر عن نظرة الطفل للنهر. فهو يراه يذهب، في حين أنَّ الماء هو الذي يذهب فيما النهر باقٍ. لكن هنا، بعد أكثر من ثلاثين سنة على قراءتي الأولى لها، أريد أن أسأل نفسي: أيهما المحقّ، نحن أم الطفل؟ من الذي يذهب: النهر أم ماؤه؟
يعتبر الأطفال أنَّ لكل شيء روحًا، ولهذا هم يحكون مع كل شيء، مع الريح والشجرة والحيوان والدمية.. إلخ. وحين يحكي الطفل مع النهر فهو واثق من أن النهر يسمعه ويفهمه. ولعل الامتياز في هذا الأمر الطفوليّ أنه في صلب الشعر. وفعلًا، بين أهم ما في الشاعر هو الطفل. هذا ما نعرفه. لكنَّ طفل القصيدة الذي لم يكتب بنفسه، بل كُتب عنه، يُرينا كيف يجب على الشعراء أن يكونوا.
من بين كل الصحبات الممكنة، اختار هذا الطفل صحبة النهر، وهذا أمر له دلالته، فالنهر صديق في طرق مجهولة نحو البحر البعيد، بينما الأصدقاء الآخرون هم أصدقاء المعروف والمألوف، ولأجل ذلك فالصداقة في منظور طفلنا رحلة ورحيل. يكذب الطفل حين يقول: “أنا أخبرت والدي أنني ذاهبٌ معك”. لأنه لا يوجد أب طبيعي يقول لابنه الصغير: حسنًا يمكنك الذهاب مع النهر! الآباء كلهم، بما فيهم هذا الأب، سيحاولون إبعاد الأطفال عن الأنهار من الخشية عليهم، وحين يتركونهم يسبحون سيكونون معهم. ألا يعني هذا أن الطفل الذي يريد أن يترك كلَّ ما لديه، كلَّ ما يرتبط به، يريد مغادرة سلطة الأدب؟ “أخبرتُ والدي” ليس هذا باستئذان من الأب. بل هو توديع. ناهيك طبعًا أن استعمال الأب، واقتصار الحديث عليه، دون ذكر الأم مجرد ذكر، يعني أن الطفل يريد الخروج على السّلطة الأبوية، يريد الحرية، يريد أن يمتلك ما يمتلكه النهر من إرادة الذهاب أنى شاء.
ولأنه ما من شيء في هذه الحياة يجري كما تشتهي نفوسنا، يمضي النهر تاركًا الطفل وحيدًا وحزينًا عند الضفة ذاتها التي ابتدأت منها كل الحكاية. تقول القصيدة في ختامها:
“فجرى النهر مسرعًا ومضى ثم لم يعد
صرخ الطفل قائلًا بعدما المركب ابتعد:
ليتني.. ليتني معك!”.
لم أقرأ في صرخة الطفل سوى خيبة، فالنهر خانه. فعل ذلك حين أخذ زورقه الصغير وتركه عند الضفة منتظرًا خائب الرجاء، فمغامرته لم تحدث مثل سواه من أبطال الأدب الطفولي، بل كل ما لدينا حلم مخذول كما في أدب الكبار تمامًا.
العبارة الأخيرة “ليتني.. ليتني معك” تقول شيئًا مهمًا هو أن التمني هو ما يبقى، وأن الأمنية لا تموت.
لا أظن أنَّ هناك طفلًا نجا من سطوة هذه القصيدة، أو من حزنها، وإن احتوت الكتب المدرسية نصًا بهذه القوة فهذا كافٍ كي يضع الأطفال الشعر كأحد خيارات الحياة.
لم أنج من فخاخ هذه القصيدة حتى اليوم. وكثيرًا ما تخيَّلتُ نفسي فتى النهر الذي يريد التخلص من سلطة الأهل، ويخوض مغامرته المشتهاة، لكنَّ واقعية هذه الإكراهات أقوى من خيالية الرغبات.
والقصيدة أيضًا خارج صندوق التكرار المدرسي، وهي تقدم طريقة تفكير أخرى غير التي نعرف ونألف. قصيدة تأتي لتعلّم، والتعليم ذو معنيين هنا: الدرس والأثر. في البداية نحبها بلا سبب، أو دون أن نعرف لماذا، وفيما بعد تبدأ الأسباب بالاتضاح في الرأس، إنها تختضر معنى الأدب في وقت مبكر من أعمارنا، والغريب فعلًا أن الحياة تضع أسرار النهايات دومًا في البدايات. تقول القصيدة إننا نكتب الأدب لأننا ناقصون، لكي نتخلص من عبء ذلك النقصان بتحصيل شيء ما من الكمال الإلهي، لكن كل ما يصلح لأن يكون أدبًا هو ذلك الذي يقول صراحة إننا ناقصون، تمامًا مثل ذلك الطفل الحزين الذي لم يصل إلى شيء مما أحبّ.
بعد تجاوز مرحلة قصائد سليمان العيسى، وبسبب “الطفل والنهر”، بدأتُ أعيد النظر في معنى الشعر. إنه ليس ذلك الكلام الغنائيّ المنمّق وحسب، بل يمكنه أن يروي قصةً، ويمكن أن يكون على شكل لوحة، وربما يأتي مرتديًا ثياب الحكمة. ومن هذه الأشياء البسيطة رحت أعيد ترتيب العلاقة التي تخلخلت مع الأناشيد الساذجة عن الأم والأب، أو المتخيَّلة عن أمجاد غابرة، وأكثر من ساعدني على ذلك هو الشاعر إيليا أبو ماضي، الشاعر المهجري الذي وقعتُ في غرام قصائده، وأحببتُ نظرته المتفائلة إلى الحياة، وأول لقاء معه حدث في كتاب “القراءة” في الصف السادس، في قصيدة “المساء”، التي حفظتها عن ظهر قلب بسهولة، واكتشفت بعد سنوات قليلة من ذلك الوقت أنها أطول مما أورده الكتاب المدرسي.
سحرني أن القصائد التي عرفتها تسير على نهج “المساء”، فهي بيانات في الحب والتفاؤل، وربط للشعر بكل الأفعال الخيِّرة، وهذا أكثر مما راق الطفل الذي كنته، فبشكلٍ فير مقصود، فعل شعر أبي ماضي لي ما كان يجب أن يفعله النهر لطفل القصيدة. أخذني معه إلى عالم جميل مليء بتأمل جمال الحياة. وكأنني، مرةً أخرى، الطفل الذي هرب من قبح السلطة العائلية وضيق الحياة إلى رحابة الحرية والأمكنة التي لا تعرف أي حدود.
من “المساء” إلى “الطلاسم”، تلك القصيدة الفريدة التي سأعرفها بعد سنوات، حين سأغرمُ بعبد الحليم حافظ، وسأجد بمحض الصدفة أنه غنّى مقاطع من تلك القصيدة حاملةِ أسئلة الحياة الكبرى، وحيرة الإنسانية حيال أسرار العالم، في شكل فني موزون قائم على الرباعيات، وفي تصوّر أخلاقيّ للشعر منحني رعشةً من التفلسف.
“جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت”، “هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود؟”، “أأنا السائر في الدرب، أم الدرب يسير؟”، “إن تك العزلة نسكًا وتقى فالذئب راهب”، “ولماذا المرء لا يدري متى وقت الرحيل؟”، “هل أنا في القصر أم في الكوخ أرقى؟”، “أين ضحكي وبكائي وأنا طفل صغير؟”.
هذه عيّنات متفرقة من أسئلة الحياة التي تجمعها قصيدة “الطلاسم” بروح شخص حائر، إذ يُختتم كلُّ مقطع بعبارة “لست أدري!”. لم ترد هذه القصيدة، أو أجزاء منها، في الكتب المدرسية، لكنها (أعني الكتب) كانت طريقًا إليها، وإلى عالم الطبيعة الكريم الذي يستحق التمجيد لأنه يعطي دون مقابل. يقول أبو ماضي في قصيدة أخرى:
“من ذا يكافئُ زهرةً فواحةً
أو من يثيبُ البلبل المترنما”.
مع أبي ماضي نعرف أن الشعر هو الجمال والحب، وهو صلاة قلوبنا لربةٍ هي الحياة. ولا يوجد شك أنَّ صوت الشاعر النظيف جلا غبشًا كثيرًا عن البصر والبصيرة في آن. الشعر، بحسب أبي ماضي، يأتي من الجانب المشرق من الحياة، ومن الجانب الطيب في الإنسان.
أبو ماضي شاعر النّهار وليس الليل. قصائده تشبه فترات الضوء والوضوح، على الرغم من أني قرأت عنه في سنوات بعيدة من ذلك أنه لم يكن بالصورة التي تتحدث عنها قصائده، بل كثيرًا ما ظهر حاسدًا، أو ممالئًا، أو صانع مؤامرات. ومع أن هذا شأنًا آخر لا دخل له بالتكوين الذي لعبه في حياتي وحياة غيري، ممن اقتصرت مصادرهم الشعرية الأولى على كتب المدرسية، التي لم يرضوا لها أن تظلَّ أنطولوجيات للصوت الأحادي.
ابتداءً من الصف السابع، أي من عمر الثالثة عشرة، تصبح المختارات الشعرية في كتابنا أكثر أدبية وأقلّ أدلجة، أي أن النصوص الأدبية، بما فيها الأشعار، التي تحكي عن مسائل تهم السياسة التربوية العامة في البلاد، من مقاومة الاستعمار وتركيز على الفئات الكادحة ودعم نضال الشعوب.. وغيرها، تحضر من خلال أدب حقيقي كتبه أصحابه على شكل تجارب حية، مثل قصيدة “ترصيع بالذهب على سيف دمشقي” لنزار قباني التي وردت أبيات منها في الكتاب. أي أنّ القصيدة المفتعلة المكتوبة بغاية وعظية، أو تعبوية، راحت تتراجع لصالح تجارب حرّة.
وعلى ذكر نزار قباني وقصيدته تلك، أتذكر أنني قضيت وقتًا دونكشوتيًا في البحث المحموم عن بقية أبياتها، في ربوع بيئتي التي اعتادت على أخذ معارفها من الشفة إلى الشفة، لا من العيون التي تحرث الصفات. وكم شقَّ أن أجد شخصًا يحفظ بعض الأبيات لأنه قرأ القصيدة في مكان ما وعلقت أجزاء منها في ذاكرته. وحين أجده أقوم بتسجيل ما لديه على ورقة، ثم أجمعها بترتيب لا ينتمي إلى ترتيبها الأصليّ الذي سأعرفه لاحقًا، لكنّ ذلك لا يساوي شيئًا أمام ذهاب، دون دراية، إلى زمن آخر يجعل من سعيي وراء قصيدة نزار أشبه برحلات الرواة وراء الأبيات، أو تنقيب النحاة في الأفواه والذواكر عن معاني الكلمات وتواريخها، في صحراء قديمة وبعيدة لا أعلم كيف غدت مستودعًا لكل شيءٍ.
ولأنني لم أكن في صحراء فعلية، بدت رحلتي العفوية لا تستحضر آليات زمن سابق وحسب، بل ومكانه أيضًا.
الشعّر يفعل ذلك مثل السّرنمة. وإذا كانت تفعل فعلها بسبب سلطة اللاوعي على الجسد فإن الشعر يفعلُ فعلَهُ لسلطته على الجسد والخيال معًا.
ولأنَّ نزار قباني أول من يمدّ عقول الصّغار، وقلوبهم بالطبع، بمعنى ممكنٍ للشعر، ولأنَّ شعره يعبّر عن شيء فينا لا نعرفه قبل القراءة، ولأنه يحكي عن علاقتنا مع أنفسنا ومع الأشياء على نحوٍ لم يسبق لنا أن قلناه، أو أننا فكرنا به لكننا لم نجد الطريقة الملائمة لقوله. لأجل هذا بحثت عن أبيات نزار الناقصة، الضائعة من وجهة نظري كطفلٍ، لأنني شعرت أنها كلماتي التي لا أريد لفمي أن ينشغل بسواها.
في هذه المرحلة بدأت تحضر قصائد من الشعر الحرّ، أو شعر التفعيلة، ولعلَّ القصيدة الأبرز في تلك المرحلة هي “بطاقة هوية” لمحمود درويش التي تُعرف شعبيًا باسم “سجل أنا عربي”.
تسبّبت هذه القصيدة وما يشبهها بصدمةٍ مضاعفةٍ، نفسيةٍ وعقليةٍ، جاءت نتيجة لشكل القصيدة وليس لمضمونها، ووقتها غدا السؤال المضني: هل نحن الذين تربينا على أن الشّعر مكوّن من أبيات أصبحنا مشردين بلا بيوت. فالبيت الشعري الذي رأيناه يخسر معناه المجازيّ بعد خسارته لاتساقه المعماريّ دفع أحدنا ليقول قولةً ساخرةً، لكنها تبدو لي الآن صالحةً لتدخل في تاريخ الأدب الحديث: “القدماء كتبوا الشعر ليكون بيتًا، الحديثون يكتبونه ليكون شوارع”.
تبعثُرُ الشكل وعدمُ اتساق السّطور مثلما اعتدنا مع الشعر التقليدي، جعلنا نتصرف بردة فعل تشبه ردات الفعل الأولى على هذا الشكل، حيث بدأ الشعراء يكتبونه في البدايات الأولى، والأمر مثير جدًا حيث يبدو المرء شاهدًا على زمن غير زمنه.. على كل حال، ذلك التبعثر دفعني نحو السؤال الأهم: هل يكمن الشعر في شكل الكلام أم في جوهره؟
وقتها ذهبت الإجابة، بعد حيرة قصيرة، إلى خيار المضمون، واعتبار الشكل تحصيل حاصل، ولهذا ملت إلى كتابة قصيدة التفعيلة في صفواتي تلك وحتى منتصف عشريناتي. ومع الوقت رحت أدرك أن السؤال ليس سليمًا على هذا النحو إطلاقًا، لأنه يضع الشكل والمضمون في موقعين متعارضين، بدلًا من أن يكونا في إطار من التكامل والانسجام.
ساعدتني في هذه المرحلة المكتبة المدرسية البسيطة، التي قرأت من كتبها أشعار القدماء، وبعضًا من الشعراء الفلسطينيين المعاصرين في تلك الدواوين الحمراء التي اشتهرت بها “دار العودة”.
مرحلة الدراسة الثانوية شكّلت فرقًا هائلًا في حياتي على أكثر من صعيد، أولها الخروج من الفضاء الريفي المحدود إلى المدينة، ثانيًا الحصول على الكتب من مكتبة الثانوية الكبيرة وشراء الصحيفة اليومية، وبالتالي تشكيل نظرة واسعة نحو الأدب العربي من خلال الكتب، ومتابعة حركة الثقافة المحلية من خلال الصحيفة وما يأتي معها من ملاحق ثقافية.
ترتيب منهاج المرحلة الثانوية على تسلسل تاريخي ساعد جيلي على فهم المسار العام للأدب والشعر العربيين، إذ قُسّمت المراحل إلى: الأدب الجاهلي والإسلامي والأموي والأندلسي والعباسي في الصفين العاشر والحادي عشر، أما المرحلة الأخيرة، في الصف الأخير (البكالوريا)، فهي للأدب الحديث.
سجّلت المرحلة الثانوية افتراقًا عن المراحل السابقة في موضوع الكتابة، فبعد أن مضت السنوات ونحن نكتب مواضيع إنشائية في فصول السنة والصداقة، وفي حب الوطن والدفاع عنه، وفي وصف الحياة الاجتماعية والتأكيد على نضال مجتمعنا.. إلخ، وكل ذلك وغيره في كتابات بليدة مقولبة، تتمتع بنظرة إيجابية ولا تشير إلى خلل سوى إن تعلّق بالمستعمرين أو بالفاسدين وحسب. لكن الآن، في الثانوية، سوف تتحول الكتابة باتجاه المقال البحثي الذي يناقش الإشكاليات الفكرية والفنية التي يطرحها كل محور من محاور الكتاب. كأن نكتب عن المقدمة الطللية في القصيدة الجاهلية من خلال مطالع شعراء المعلقات، وبالطبع السائد هو صيغ محددة، من يحفظها كما هي ويقدمها للمعلم ينال الدرجة التي تخوله للنجاح، ومن لا يفعل سيرسب.
من هراء نصوص رومانسية وخطابية فارغة، إلى هراء آخر في مقالات ببغائية، والمؤلم أن ترى ذلك مرتين؛ الأولى تلميذًا خاضعًا لذلك الإكراه اللعين مع أنك تطمح إلى تعلّم أسرار حرفة الكتابة، والثانية معلمًا فاشلًا في مقاومة ذلك لدى تلاميذه الذين يرغمونه على الخضوع لأنَّ ذلك ما تعلموه في صفوف سابقة.
ربما تختصر مسألة الكتابة الجانب السيئ من الكتاب المدرسيّ، في عمله على خلق قوالب صلبة يضع فيها العقول والأذواق، ويعيد تشكيلها على مبدأ التشابه ومحاربة نزعات الاختلاف، ومثلما تصبح النصوص نصًا واحدًا، والمقالات مقالًا واحدًا، يصبح النقاش حول قصيدة لامرئ القيس هو النقاش نفسه حول قصيدة للسيّاب، في قفز فوق كل الاختلافات، وفي عملية طويلة من إعدام الرغبة في التذوق الفني، وذلك عبر أسئلة سخيفة تريد تجديد عاطفة الشاعر، وتسأل بكل جدية عن مدى صدق هذه العاطفة! طبعًا الجواب السليم والأبدي في المدارس السورية التي عرفتها أن عاطفة الشاعر صادقة. هذا إلى جانب نقاشات عبثية حول جزالة ألفاظ القصيدة وقوة سبك جملها، على الرغم من أن الكتاب المدرسي لم يحدث وأن اختار قصيدة ضعيفة في لفظها وجملها، فحتى لو وجدتْ لن يقبل المعلم رأيًا سلبيًا.
كل ما نتحدث عنه هنا لا يساوي شيئًا أمام كارثة شرح القصيدة. وهو شكل من أشكال الجرائم الأدبية. فالجميع يشرح البيت بطريقة تقتل الشعر وتمثّل بجثة الفِكر، وتحول القصائد إلى هراء صبياني لا يختلف عن افتتاحيات الصحف المحلية. في حين أنه بالإمكان الاستعاضة عن ذلك بأن يكتب كل تلميذ ما فهمه، أو ما خلص إليه، في فقرة مختصرة، لا بشرح الأبيات بيتًا بيتًا بطريقة أقرب إلى هدمها وتحويلها إلى أنقاض.
من بين الأشياء التقليدية الكثيرة، هناك سؤال حول تحديد الموقف، يأتي في المرحلة الثانوية، ومما يرد فيه تقديم رؤى شعرية فكرية مختلفة، مثل بيتي أبي العلاء المعري وأبي فراس الحمداني، حيث يقول:
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
ويقول الثاني:
معلّلتي بالوصل والموت دونه
إذا متُّ ظمانًا فلا نزال القطر
بالطبع كل من يمرون على هذا الدرس يقفون مع أبي العلاء ونزعته الخيّرة، ولا أحد على الإطلاق يؤيد النزعة الأنانية لأبي فراس، مع أنه يعبّر واقعيًا عن حقيقة البشر عمومًا.
ليست المسألة اختيار إجابة مريحة وحسب، بل هي تضمر رغبة في التلطي خلف القناع الأخلاقي زورًا.
ترى لو ولدتُ في بيئة توفّر كتبًا، أو معلمين خارج أطر المدرسة، هل كنت سأنشغل بالكتاب المدرسي الذي أنتجته المدرسية التي أنتجت كل هذا القهر الذي تحول إلى حرب أطاحت بنا وبأحلامنا؟ لأستعرْ عبارة أبي ماضي: “لست أدري!”.
*الترا صوت