يختصرون التاريخ والحداثة بصورة. الصورة عندهم دليل، والأدلة لا تُناقش لأنها موجودة لتحسم النقاشات وتنهي الجدل.
لا يهمهم أنها واحدة من ملايين الصور التي يمكن أن تقول أشياء أخرى، فبالنسبة لهم حين يعرضونها عليك يجب أن ترى في لقطة فتيات يرتدين تنانير قصيرة، سواء كنّ غاضبات في مظاهرة ضد الاستعمار، أو في وقفتهن كصديقات يحملن الكتب في ركن من مدرسة ثانوية أو جامعة. عليك أن تضع المنطق والحقيقة جانبًا وأن ترى أن الحداثة، بالمعنى الغربيّ، وجدت موطئًا لها في مجتمعاتنا، منذ وقت مبكر، غير أنَّ هناك من أضاعوها.
لا يمكن لوم هؤلاء الحالمين بحداثة غربية، يمكن قياسها بالمكشوف من الجسد، سواء في الشَّعر أو الأيدي والأرجل. لسنا ضد ذلك. ما يثير سخطنا ليس الاعتداء على التاريخ وتلفيقه العلني، فهذا أمر يحدث على مدار الساعة، حتى بات هواية شائعة تنافس الشطرنج ومتابعة كرة القدم. سخطنا يأتي من اعتبار هذه الصور طليعية أو نهضوية، في حين أنها ذكورية، فيها الكثير من التحيز ضد النساء، ذلك أن النظر إلى الحداثة بمقدار ارتباطها بالجسد لا يمكن أن يصدر سوى عن عقل يُحدد للمرأة كيف تكون، وفي الوقت ذاته يجعل من جسدها مقياسًا لما هو حداثي، وبذلك يُمثل الوجه الآخر للفكر المحافظ، الذكوري بطبيعة الحال، الذي يحمّل الجسد معاني العفة والطهارة، ويفرض عليه قيودًا مادية ومعنوية.
لا تُقاس الحداثة بصور الفتيات، بل بموقع المرأة في المجتمع، وبمقدار مشاركتها المؤثرة. أي باستقلالها وعدم خضوعها لسلطة الأمر والنهي. وليس بكثافة حضور شعرها وساقيها في الصور الأرشيفية.
لماذا على الحداثة أن تدخل إلى المجتمعات على شكل تنانير؟ أو رؤوس سافرة؟ ولماذا عليها ارتداء زي أوروبي وخلع الملابس المحلية؟ ألا يعني هذا المنطق في العمق أن صورة امرأة ريفية تركب حمارًا في قرية مجهولة صورةٌ معادية للحداثة؟ وبالمثل طبعًا فإن الرجال الذين يرتدون دشاديش وعباءات، أو قنبازات، أو شراويل، وعلى رؤوسهم حطّات وعُقُلٌ، أو طرابيش، هم أناس مسيئون لسمعة التطور والأجدى النظر إليهم ككائنات من زمن آفل.
لا يغيب عنا أن أصحاب الصورة الأولى يخوضون صراعًا مع الأصولية الدينية، ويريدون البرهنة على أنه في هذه الأرض، وبين هذه المجتمعات، لا يوجد جذر راسخ للأصولية، وأنها لم تكن سوى حالة طارئة لا بد من زوالها، ولأجل هذا تكتسب التنورة والقميص والملابس الضيقة والسُّفور معاني رمزية، تجعل من الصورة نهضوية، بل ثورية، في مقابل الرجعية التي تريد أخذنا إلى حياة مقيّدة.
على الرغم من حسن النية في ذلك إلا أنه منطق خطير، فسوى ما فيه من عدم تقدير للنساء المحجبات والحرّات في الآن ذاته، مالكات زمام إرادتهن، والصلباتُ الجسوراتُ الشجاعات، اللواتي لا يعيقهن الحجاب عن عمل أو حب، ولا هو قادر على حجب هوياتهن الجنسية المغايرة، غير أن مشكلة المثال، غير ذكوريته الصلبة كما أشرنا من قبل، تكمن في تركيزه على مثال يريد تحميله ما يريده هو، لا ما يحمله في حقيقة الأمر. فلماذا لا يخطر لهم أن هناك تيارات متشددة جدًّا في المسيحية لا تمنع الفتاة من ارتداء شورت قصير بحجم اللباس الداخلي، وهن في قمة التقيّد بالقواعد الصارمة للبطريركية. ما يعني أنه لا يوجد تناغم بين الأفكار والملابس إطلاقًا، بحيث إن ربط السفور بالحرية والتحجب بالعبودية جائر إلى حدّ بعيد.
لم تكن المعركة يومًا ضد الحجاب بحد ذاته، بل ضد السلطة التي يمثّلها، وهي سلطة غبية كانت تريد منع المرأة لا من التعليم والعمل، بل من الخروج من البيت، ولهذا غدا تحدي الحجاب تحديًّا لهذه السلطة بالذات، لكن اليوم صار الأمر أكبر وأبعد، لأن الخلل الأساسي يتجسّد في غياب المساواة، حتى حين لا تكون المرأة مُحجبة، أو حتى من بلدان الشرق، فاستغلالها وقهرها يمتد من العمل إلى التمثيل السياسي إلى إشاعة أنماط قهرية ضدها، بفرض مقاييس جمال ذكورية تقتصر على نُحل الجسد وشبابه في الإعلام والثقافة الترفيهية، وهي نماذج مصنوعة من قبل رجال لأجل أن تعجب الرجال، تمامًا مثلما يُسعد رجال المجتمع المحافظ أن يغدو جسدها غير مرئي.
ين رجال يقررون ظهورها أو اختفائها على كيفهم، تبقى الأولوية أن تكون المرأة مواطنة، لها كامل الحقوق والواجبات، وتلك هي الطريقة الوحيدة التي تمكنها من تغيير طبيعة الدولة، كما قالت فاطمة المرنيسي.
أما الصورة التي تظهر أمامنا بين حين وآخر فمجرد مثال لحلم بائس تحمله تيارات وأفراد منفصلين عن الواقع، ينظرون إلى الماضي نظرات فيها من خيالهم البسيط أكثر مما فيها من حقيقة واقع أولئك النساء. يردون على خراب أفغانستان بصورة من زمن آخر لفتيات في الجامعة، وعلى سيطرة تنظيم جهادي على بلد ما بصور نسائه في الشوارع أو المعامل. والقاسم المشترك بين الصور كلها أن الملابس علامة الحرية، وأن الحداثة والغرب شيء واحد، ولهذا لا نستغرب أن يصل هؤلاء إلى صناعة ثورة اجتماعية بنزع الحجاب في الشوارع على طريقة قوات رفعت الأسد في سوريا.
كم هو مضحك ذلك التاريخ الذي يمكن اختصاره بلقطة عابرة! وكم هو مؤسف ألا تكون الحياة عصرية إلا مقدار ما تتشابه مع النمط الغربي!
يقول المنطق إن الحياة الحديثة كلٌّ متكامل ومترابط، من السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة، وليس بالضرورة أن يكون التطور ناطحات سحاب أو تقنيات الكترونية جديدة، إنما هو حريات وقانون. ما نفع أن تحصل دولة على أحدث التقنيات، وتقدم أفضل الخدمات، وفي الوقت ذاته لا يزال مواطنوها يختفون من الوجود بسبب آرائهم؟
ربما تكون فتيات تلك الصور، فوق هذا كله، من ضحايا العنف المنزلي أو الزواج المكبر، وبينما نتناقل صور أجسادهن دليلًا على الحداثة لا يخطر لنا أننا نواصل انتهاكًا قديمًا، وأننا نضيف إلى العنف المباشر الذي نلنه عنفَ التأويل.
*الترا صوت