لكلّ طاغية الحقُّ في إعادة تاريخ الطغيان من ألف إلى يائه، دون أن يخطر على باله أنّ ما يقولُهُ ويفعلُهُ قالَهُ وفعلَهُ من قبل آلافُ الطغاة، ولهذا لنا الحقُّ في أن نفعل بهذه الفصيلة العجيبة ما نفعله دائمًا: نرمي بهم إلى الموت إن ظفرنا بهم، وإلى العار إن ظفر بهم الموت قبلنا.
لا يتعلّم الطغاة على الإطلاق، لأنهم فيما يظنون أنهم أكبر وأعزّ من كلٍّ أحد آخر، يظنون أنهم أكبر من المعرفة، ويمكن فهم ذلك تمامًا إن فهمنا المعنى العميق لأنْ يضع الكائن البشري المحدود يده على مفتاحين من مفاتيح الألوهة: الحقيقة والقوة.
على الرغم من ذلك كله، بينما يظنّ الطاغية أنه مؤهّل لصناعة قصة كبرى تُحيي أمثولة القائد الاستثنائيّ، سيُعيد علينا وعلى نفسه حبكةً قصصيةً معروفة إلى درجة الإملال لشدة تكرارها؛ حاكمٌ منبوذ مطارد، وسيظلّ على ذلك الحال حتى لو أنهى الموت وجوده الفيزيائيّ، لكن ليس هنالك ما يمنع أن يفاجئنا الواقع بخروج قائدٍ جديدٍ من الشعب المظلوم ليجعل القصاص من الطاغية القديم، أو من ميراثه، قربانًا يصعد عبره إلى سدة العرش الجديد، وكم هو مؤسف أن تنتهي القصص في مكان ابتدائها، كما لو لم تحدثْ أصلًا.
ربما ينجح الطاغية في النجاة من القتل أو النفيّ كمصير محتوم، ويموت سعيدًا في قصره متخمًا بسلطته، منجزًا التوريث، أشقّ المهمات الطغيانية وأخطرها. ويحدث أن يحفظ الوريث للأب المكانة التي تليق بالمُؤَسِّسين العظماء، فيُبقي ذكره حيًّا في الإعلام والكتب، ويجعل من قبره مزارًا، لكن ذلك ليس بالضرورة نجاةً كاملة وأبدية لمشروع العائلة الدكتاتوريّ، فقَدَر الأنظمة الشمولية أن تحفر قبورها بأيديها لشدّة ما تقيم من حروب ومجازر، ولما تفرضه في الفضاءات العامة من قمعٍ وقهرٍ وفساد. ناهيك أنها منكوبة أيضًا بطبيعة شخصيات دكتاتوريْ كلٍّ منها، فكثيرًا ما يتبوَّأ سدة الحكم متوحشون مجانين، أو لعلهم يصيرون كذلك، فيُطلقون العنان لأهوائهم وغرائزهم، دون اكتراث لنصحٍ أو إصغاءٍ لمشورة، ويخوضون مغامرات كارثية، داخليًّا أو خارجيًا، تصل بهم إلى إشعال الحروب الإقليمية أو الأهلية، وبالطبع مع ما يتبع ذلك من إبادات جماعية وتهجير عرقي، يغدو الانهيار أمرًا واقعًا ولا يتعدى كونه مسألة وقت فقط، وحين تأتي ساعة سقوط مملكة الأبناء، أو الأحفاد، سوف يشمل الانتقام كلّ شيء، حتى عظام الطاغية المؤسّس، بل حتى حجارة ضريحه مزيف القداسة.
إذًا فلا يُخدعَنَّ أحدٌ بضروب الظفر المزيّفة، لأنّ عرشًا غير شرعي لن يكون بوسعه سوى الانهيار، فلم نعد في زمن الطاعة القديمة التي يُفتي بها الفقهاءُ السلطانيون لجعل المتمرد شيطانًا يصنع الفتن ويجلب شرور ضياع الأمم، ولم يعد الحاكم قادرًا بعد على ترويج أكذوبة التفويض الإلهيّ وتنصيب نفسه نائبًا لله على الأرض، مهما سعى إلى ذلك وكدَّ وبذلَ وحاول، فالناس صارت تعرف الفرق جيدًا ما بين دولة وإمارة.
لطالما أصرَّ الطغاة على الاختلاف عن بعضهم البعض، ولطالما امتلكت شخصياتهم قدراتٍ عجيبةً على التّشابه، حتى ليخال المراقب نفسه ساهيًا وهو يرى أمامه شخصية واحدة رغم التاريخ الدموي الطويل للدكتاتوريات.
نعم، الطغاة كلّهم شخصية واحدة مكوّنةٌ منهم جميعًا، سواء لبسوا بدلاتٍ عسكريةً أو ثيابًا مدينة، فالجميع جاؤوا بطرق ثابتة مكررة: الوراثة في الممالك، الانقلاب العسكري عبر الجيش أو سيطرة الحزب على الديمقراطية في الجمهوريات. وفي النهاية، يصبح رأس الجيش أو الحزب كالوراث ملكًا عندما يطرح كلٌّ منهم نفسه ساعيًا للنهضة والتجديد، أو ضامنًا للاستقرار وتحسين المعيشة، أو معيدًا الأرض المسلوبة إن كان في تلك البلاد قضية سلب.
ستظلّ القصة تعيد نفسها مرارًا وتكرارًا، فإذا قالت العرب في أزمة سابقة “المُلْكُ عقيم”، قاصدين في ذلك أنّ الأب يُعطي الأولوية لمُلكه على أبوَّته، حيث لن يتوانى عن حزّ عنق ابنه حين يريد الاستيلاء على التاج؛ إذا قالوا ذلك فإننا اليوم نقول إن الطغيان أُمِّيٌّ لا يتعلّم، ويبدو أنه لا يُعلّم أيضًا، ولهذا فأغلب الترجيح والظنّ أنه سيظل حاضرًا مقيمًا في عالمنا إلى أنْ يحقّق الإنسان في تطوره البيولوجي (إن استطاع ذلك قبل فناء الكوكب) أن يُسجّل نقلة في المناعة الحيوية ضد أن يَطغى أو يُطغى عليه، بالطريقة ذاتها التي تطورت مناعته ضدّ كثير من الأمراض
(ألترا صوت)