1
عندما قابلته كان لطيفًا. بدا ساذجًا إلى حدٍّ ما، لكن لطفه جعل الأمور مقبولة. لاحقًا حين تصفّحت إنستغرامه راح إعجابي يتناقص درجةً درجةً، مع كل “ستوري” من جزر البحر الكاريبي، ومع كل صورة من مدنٍ لم يحلم بالتجوال فيها رحّالة بمستوى ماركو بولو.
في وقت قصير فهمتُ أنه لا يفعل شيئًا في حياته سوى العيش مؤمنًا بفلسفة عميقة، عميقة إلى حد اختصارها في عبارةٍ كالآتي: “إذا كنتَ إيجابيًّا فكلُّ شيء جيد سيحدث لك”.
وددتُ أن أكتب له تعليقًا، مكرّرًا إياه تحت كل صورة وفيديو: عزيزي.. الأشياء الجيدة لا تحدث بسبب صفاء سريرتك أو طيبة قلبك، ولا تأتي كرسائل عاجلة من الكون، وإن كان ثمة نقطة انطلاق لها فتلك النقطة الوحيدة هي الحساب البنكي لأبيك.
الآن أشكره في أعماقي لأنه نبّهني إلى أن الذين يؤمنون بمبدأ الجذب الفكري (Law of attraction) هم بالأساس أغنياء، أو من عائلات غنية. أي من أصحاب الامتيازات. وهؤلاء حين يقولون إنك تحصل على الأشياء لأنك تستحقها فهم يجسّدون التعبيرات النفسية للرأسمالية، التي كثيرًا ما تدفع الناس نحو اعتناق الفلسفات الشرقية لكي يصمتوا. ثمة شواهد كثيرة عن شركات كبرى تطلب من موظفيها أن يلتحقوا بجلسات يوغا، لا لشيء سوى لأجل أن يشعروا بأن ما يجري لهم مجرد لعنات خارجية، وليس عليهم سوى تنقية نفوسهم من شوائبها، كي لا يُقال إن هذه التعاسة ناتجة عن الاستغلال الذي يُمارس على الإنسان بالثانية والدقيقة، من ضغط العمل غير المجدي، إلى شروط الحياة المختلة، وصولًا إلى هلاكه.
حسنًا، إذا كانت الفكرة الأساسية لهؤلاء تقول بشكل واضح وحاسم إن الإنسان يحصل على ما يستحقه، فالسؤال البديهي: لماذا لا يحصل على واحد بالمائة من ذلك كله شاب من سوريا، أو فتاة من غزة أو من أفغانستان؟
بالتأكيد لن نحصل على أي جواب.
2
لو نحّينا شعورنا بالاستفزاز قليلًا لرأينا أنّ ما يقوم به نشطاء البيئة حاليًا ليس سوى خلط للمفاهيم. ففي الوقت الذي يريدون فيه إرسال رسالة، يحدث الخلط بين الرسالة والترند، لأنّ ما يفعلونه يدور بالكامل حولهم كأشخاص، وليس حول القضية التي خرجوا من أجلها. صحيح أنه من سمات عصر السوشيال ميديا محو الحدود بين الشخصيّ والعموميّ، لكنّ إصرار هؤلاء الشباب الجدد على إظهار الجانب الشخصيّ بقدر يوازي الهدف العام، إن لم يفقْهُ، يضع الأفكار التي يحملونها محلَّ تشكيك، حتى من قبل من يشاركونهم الإيمان بها، لأنَّ ما يفعلونه يدور حولهم هم، لا حول فكرتهم.
لا يمكن لمن يحمل فكرةً أن يخرج بها إلى الناس صباحًا، متوقّعًا منهم أن يؤمنوا بها مع حلول المساء. هذه أشياء تحتاج إلى وقت طويل، يترافق مع جهد كبير يبذله الإنسان في محيطه الصغير، وفي الفضاء العام، عبر التواصل مع الناس بالكتابة، أو بشكل مباشر في لقاءات خاصة، وصولًا إلى الوقفات الاحتجاجية في الشوارع.. وغيرها.
يمكن لمن يريد أن يصنع ترندًا أن يهاجم لوحةً لفان كوخ، ويقول لنا عبر تلطيخها بالطماطم إنه مناصر للطبيعة ومحتج على السياسات الرأسمالية، لكننا لن نقبل منه أن يجعل فان كوخ قربانًا، فإلى جانب أنه لم يستفد من فنه بقرشٍ ظلَّ وفيًّا للطبيعة بشكلٍ استثنائيّ وكأنّه أحد حراسها.
3
لا يوجد بؤسٌ ينافس بؤسَ من يكتبون مراجعات كتب على منصةٍ ما، ويبنون تقييمهم على أنَّ “الكاتب استعمل كلمات لا داعي لها”.
يا ناس.. ما من بذاءة في الكتب، لا في “رجوع الشيخ إلى صباه” ولا “ألف ليلة وليلة”. البذاءة إن تجلّت فهي هذه النظرة نحو الأدب.
*الترا صوت