عبده خال، روائي وناقد من السعودية
أوراق 19- 20
الملف
أقول حقا، أن الحروب حجارة تُلقى في بحيرة الهوى، فتتعكر مواعيد الأشواق.
كم شهيق تلقته الرئة أو نفثته منذ أن كنت بين أكناف الشام؟
الان، تحاول الذاكرة لملمة ما بعثرته الأيام من ذكرى جميلة حين كنت في أحضان سوريا.
فأي ذكرى غارت، ومُحيت، وأي ذكرى ابتعدت، وأي منها تلاشت، وأي منها بقيت ثابتة صلدة، فلم يتغرغر بها الزمن وينفثها؟
حين طُلب مني الكتابة عن ذكرياتي عن مهرجان العجيلي، عمدت على التسويف، وبقيت منزويا بذاكرتي في البعد، أي آلات نبش أحتاج اليها لتقليب المواجع أو الافراح، أو الأحزان، فركام الحروب قوضت كل الجمال الذي استقر في القلب، وفي البال، ومع الحاح الصديق المبدع الدكتور نبيل سليمان، دعوت عليه سرا وجهرا، ماذا تفعل يانبيل؟
أي ذكرى يمكن الخروج بها من بين كل أنقاض الزمن؟ سوريا مصابة بندوب الحروب عبر التاريخ؟
ركضت الذاكرة بعيدا، تقفز من مكان لآخر، كل الصفحات بها (محو وازالة) .. ومن بعيد، ومن الأبعد، أي حضارة مرت من هناك، وأين ذهب: الكنعانيون، الأموريين، الفينيقيون، الأراميون، وأين اللسان السرياني الذي حمل الحضارة ونزل بها إلى أعماق تربة الذاكرة البشرية، ومن أشعل تراب الشام منذ تلك العهود السحيقة؟
وكلما اجتزتَ وهدا، انخفضت بك أوهادٌ، وفي عز قوتها طردت جحافل الطامعين، فهل عاد أحفاد هرقل لمحو عبارة جدهم “وداعا يا سوريا الجميلة، وداعا لا لقاء بعده” .. هل عادوا لتثبيت أن سوريا ملعبا أمميا لحرق حقول الياسمين؟
جاهدك الله يانبيل!
كيف أعود بالذاكرة وأنا يوميا أشاهد قنوات الاخبار وهي تغسل رداء سوريا الممزق، كل يوم ودمعة السوري تتصبب من كل مكان، فكيف أتذكر لحظات الفرح حين كنت هناك، نعم تتقافز وجوه مبدعة نسيناها من كثرة دق طبول الحرب حتى أنّ امتداد نهر الفرات أصبح شحيحا في تدفقه، وأصبحت الأغاني لا تجد سبيلا لأن توصل مواعيد الهوى، كل قلب ارتحل في أوردة الارض حتى وإنْ كان ماكثا في مكانه، أي جرم حدث حتى أن الأغاني تموت؟
بالنزر اليسير أتذكر، هي أربع زيارات تباعدت زمنيا في حضوري للشام، تصور يانبيل بعيدة هي، ومتقوضة في داخلي، كتقوض الاماكن والقلوب في الشام .. تصور أن تتقوض المخيلة فلا تُخرج من بين أطنان الركام شيئا حيا، كل ذكرياتي عن الزيارات الأربع لم يعد باقيا منها إلا أشلاءً ميتةً، هل تستوعب – يانبيل- أن تُقطع المخيلة، ليس بفعل الزمن، بل بتلاشي الضحكات، ورحيل الغناء، وتيبس مياه الناس، وتفتت الأحلام، وجدب الفرح، أي مصير أريد بقلب سوريا؟
أعتذر ياصديقي، لم يعد بالذاكرة سوى أنقاض ذكرى لا تقيم مشهدا (فراحيا)، كل الذكريات مصلوبة في شوارع دمشق، أو حمص أو منبج أو حلب، أو اللاذقية، أو طرطوس، أو الرقة أو حماة.
بطلبك -أن أكتب- تحولت الى خياط ليس لدية قطعة سليمة ليفصل منها هنداما (مقالا) لائقا، وجدّت في ذاكرتي قطعا ممزقة لا تصلح لشيء، حتى أنّها لا تصلح لأنْ تكون زاوية للكلمات المتقاطعة في جريدة سقطت ولم تعاود الاصدار في زمن موت الصحف الورقية ..جاهدك الله يانبيل على طلبك وتلبيتي له!