حسين جرود
مجلة أوراق- العدد 15
أوراق النقد
يُفاجأ السيد فاضل (صاحب محل المواد الغذائية) بأن أحد الشباب يجلس فوق مظلة دكانه كل ليلة ليراقب النجوم… بهذه القصة القابلة لتأويلات عدة، وتحمل عنوان “عبور بين النجوم”؛ يبدأ القاص والشاعر السوري نجيب كيالي مجموعته الجديدة (دير القصائد) الصادرة عن دار موزاييك، وتضم 26 قصة بين قصيرة وقصيرة جداً.
عم يبحث ذلك الشاب في سماء الليل، وهو المشرد في إحدى دول الجوار؟، وكيف يتحمل ليالي البرد تلك، التي لا تلبث أن تقضي عليه؟. بينما يلاحق الكاتب عيون الشاب، يعترف ضمناً بصعوبة المهمة، فالشاب يبحث عن حبيبته التي قتلت في سوريا، وصاحب الدكان يتابع الجلوس على المظلة في المكان ذاته، كأن حلول الأرض جميعَها انتهت، بل كأن ما حدث في سوريا جعل الإنسانية تشك في نفسها.
وفي “مأدبة العصافير” نتعرف على السيدة منال، وكيف توطدت علاقتها مع عصافير حديقتها، فصاروا يجلبون لها أسرار بيوت المدينة؛ لتساعد الناس. ولكن لا يمر هذا دون أن تُحارب ويُحرق مركز عملها، وتعدها العصافير باكتشاف الجاني. وفي “الكتب الطائرة” تُصبح الفراشات بديلاً عن نصوص كاتب مات قهراً، وفي “رجل آخر” يعود شاب من الحرب، فلا يتعرف أهله عليه لولا الموّال الذي غناه، وفي “الأحمق الجميل” يتمنى أن يفني الموت ليلتقي بالراحلين، وفي “سؤال عَطِش” ينبش بطل القصة القبور ليحصل على الإجابات، بينما يتساءل في قصة: “من حكواتية القرن الحادي والعشرين”، أليست رواية القصص تعويضاً عن نقص، ومداواةً لكبرياءٍ جريح؟.
وفي “دير القصائد” نرى رحلة القصائد نحو منفاها، بعد أن زهد الناس بالمشاعر، في حين يزداد طمع حيتان الثروة ويرغبون في التخلص من “كبار السن، والمرضى، والجيل القادم”. يهرب بعض الخائفين إلى الجبال، ويكتشفون الدير؛ كأن علاقة الإنسان بالشعر كُتب عليها أن تبقى ملتبسة، فهو القريب البعيد، وكل لقاء معه كأنه اكتشاف النار الأول. تقول القصة (في النهاية) أن أربعة فئات لا تتخلى عن الشعر: المستيقظون من وهم المال، والخائفون على مصيرهم، والورق الجديد في شجر الجبل، ونحلٌ يجمع الرحيق من الزهور.
وفي قصة “الجزيرة الصغيرة النائية” يصف لنا الجزيرة وأهلها وعاداتهم الغريبة واحتفالاتهم: “ارتفع مستوى البهجة، فأخذت جماهير الجزيرة الجعلوكية تتراشق بكرات الطين، وكل منهم يعلِّق حول رأسه تاجاً من عيدان البقدونس المباركة عندهم! أما خاتمة الاحتفال، فكانت قنبلة صغيرة قذفوها في الهواء كمفرقعات العيد. تحوي القنبلة في داخلها حفنة من شعرات ذيل سيدهم جعلوك تمّ تلوينها، وعندما تناثرت الشعرات في الفضاء قفز الناس لفوق وتسابقوا، لعل كلاً منهم يحظى بشعرة تذكارية!”، وبعدها يقول ملك الجزيرة أنه سيحولها إلى إمبراطورية للتفاهة تنشر التفاهة في الأغاني وتصبح مقصداً للسياح، وكلها إشارات إلى الحياة في الدول الدكتاتورية، أو بالأحرى الكاريكاترية، قبل أن يسأل في قصة “من جنس إلى جنس” هل الحيوانات كانت بشراً ثم تعرضت لقمع سياسي؟.
وفي قصة: “شرودي الجميل” يرثي فقاعة الشرود التي سرقتها الحرب، في إشارة إلى العطب الذي يصيب الأدب في أوقات التحولات. فليس الأمر فقط فقدان القدرة على التعبير (أو بصياغة أخرى: إن كل شيء مأساة تستحق أن تروي حتى تفقد الرواية معناها)، بل ضياع الإنسان عن ذاته. إنه هاجس يعيشه الكتاب، فلم تكتفِ الحرب بسرقة بيوتهم ومدنهم وأعمالهم وأحلامهم، بل حرمتهم حتى عالمهم الثاني الذي أصبح عقيماً أمام الحدث العظيم.
نجيب كيالي؛ كاتب سوري يكتب القصة والشعر وكتب الأطفال. وعموماً، تتميز قصصه بنزعتها الإنسانية وبساطتها وقابليتها للتأويل من جميع الأعمار، إضافةً إلى وفائه الخاص لفن القصة، إذ استطاع تطويعه على مدى ثلاثين عاماً؛ لإيصال أي هاجسٍ يشغله، فلا ننسى قصتَه التي كتبها منذ عقدين عن النشال الذي يتسلل بين الحشود ليحظى ببعض الدفء، أو قصتَه عن العصافير التي ترمي فضلاتها على الحارس انتقاماً للعشّاق.
إنه يكتب تلك اللوحات بتلقائية وسلاسة دون أن يحمِّلها الكثير من التوصيفات الاجتماعية والهموم الثقافية (كأنه شاعر غنائي)، وينزع دائماً إلى التجريد والومضة الشعرية التي تُضيء القصة بمجملها وتسقط ركام التوصيفات إن وجدت، وهي قليلة كما ذكرنا.
هذه المجموعة، تتناول مآسي الحروب وضحايا الديكتاتورية والقمع بوضوح دون أن يُنقص ذلك من فنيتها وسحرها، ودون أن يغيب صدق التجربة والتقاط صور طازجة تصلح مجازاً لهواجس طازجة أيضاً، فإضافةً إلى قصة السيدة منال وحرية النساء في مجتمعنا، هنالك قصة بعنوان “اعتذار ناقص” تتوجه فيها فتاة يافعة برسالة إلى زوجة أبيها الطيبة بعد أن تسببت هي وأخوتها بموتها… لمن هذا الاعتذار يا ترى؟ من يقصد الكاتب بزوجة الأب الطيبة التي أساء أبناؤها إليها، ولم يقبلوا بها رغم حنانها ومحبتها والمستقبل الجميل المختلف التي كانت ستصنعه لهم؟.
“ابقَ حيث الغناء، فالأشرار لا يغنون”، هذه القيم التي تربينا عليها، أصبحت أيضاً موضع شك؛ في زمن التكنولوجيا المتسارعة، والموت الصامت، وجشع الليبرالية الجديدة التي مسخت كل القيم، وحوّلت الناس إلى فئران يركضون خلف قطع الجبن الفاسدة المغلفة بأوراق خضراء، وفي هذا السياق أتذكر نجيب كيالي أستاذاً للغة العربية في مدرستي الثانوية، وأتذكره يلاحقني ويسألني: أين قصائدك؟، قد يتساءل قارئ: ومتى كانت القصائد حلاً للمشكلات؟، ولكن قد يتساءل آخر: ومتى لم تكن؟، لا سيما إنْ كان شخصاً كثير الشرود تأتيه العصافير بأنباء الناس مثل نجيب كيالي.
*****
الكتاب: دير القصائد، المؤلف: نجيب كيالي، الناشر: دار موزاييك، في اسطنبول، 2021، عدد الصفحات: 131 صفحة من القطع المتوسّط.