عُريٌ
اعلمْ أنّي غاضبةٌ منكَ وأنتَ تتفرّسُني هكذا. رغم أني أتحمّلُ وِزر نضوي لثيابي، ووقوفي عاريةً أمامك. غاضبةٌ لأنّكَ أعمى، وأنا في حضرة بصيرتِكَ النافذة. أعمى وتخترقني بينما لا أرى أنا نفسي، أو أني لا أودّ سماعَ ما أقولُ ولا تصديقَ ما أرى، خشيةَ خيبتي مني. أعمى تجلسُ بعيداً أجهلُ أين، بينما أصابعُكَ تجولُ، تمرُّ بنُدَبٍ لا أذكرُ قِصَصَها مع جسدي، حارقةً وهي تتلمّسُ جِلْدي، تدور فيتوتّر ما تشاء. أنا الأخرى لا أراكَ، لا نرى كلانا، ولكني أحسُّنا كما لو أننا قطَعْنا تذاكر إلى المطلق كي نتشظّى هناك. اعلمْ أنّي متماسكةٌ، ولكنّي أوشكُ على السقوط في هاوية الأفكار القاتلة، متشبثةً بدوّارٍ مُخيفٍ، لذيذٍ لحين. أعمى ومِن على مَبعدةٍ تُباعدُ ما بين ساقيّ المرتجفتين بنَفْخِكَ لهذه الريحِ العاصفة. مَمَرُّ الخَلْقِ يبدأ بآهةٍ! والكون من صنعِ اثنين، وألف حجارة تسقط من الأعلى نوافير من ضوء. غُضَّ طرفَكَ واستدرْ قليلاً. امحِ ما شهدته بي من جنون. رماد. انشغلْ بقديمِكَ الخامد لحين… الولادة، محاولةُ خَلْقِ أخرى مني لنعاودَ المبارزةَ بها من جديد. اتحادي بكَ مآلُه التيه. مَقْصَدي. وبرضاكَ، ستنتظر، تنقسم خلايا، تتجدّد خلايا، ولحين تنمو الجروح تغمسُ يديكَ في الطين البارد، تعجنه، تفركه، تتحسّسه، تسحقه لتغالبَ الحنين والشهوة المستعرة.
خريفٌ له عين التمساح
أبكاني الغصنُ الذي انكسر، خرجْتُ إلى الشرفة أسقي نباتاتٍ نادراً ما أتبرّع من أجل الاعتناء بها. عينٌ لا تبيّنُ لنظرتها وجهة. حيرةٌ بائتة في اختيار المكان الذي ننتمي إليه. لا بدّ من إتمام الواجبات التي لم نحسم حلّها بعد. أعود إلى فوضى الطاولة من جديد. الفوضى تسيء إلى أجسادنا وأرواحنا. أجمّدُ حساباتِ تواصلي، ذلك يترك ارتياحاً يظاهر العادة في الضغط على زرّ الحروف وأيقونات الاختزال. نعوم ما بين سفنٍ غرقى لا زالتْ تلوح لنا من مرفأٍ نُهِبَتْ أرصفتُه، ومن قاع البحر امتزجتْ خيول محمد خضير الصاهلة. تخبّ بحوافرها فتقلبُ الرملَ الذي يخفي كائناتٍ لا تشبه العوام في محاولتها الانسحاب. عفريتٌ أودَعَ البحر البعض منها في صندوقٍ بسبعة أقفال. ذلك ما تقوله الليالي، وهو غير نص نهارات الحقيقة. الرملُ في أكياس الحروب التي تغلق النوافذ من خلفي في الصورة: كلّي مُستعادٌ بلحظةٍ لا زلتُ أدافع فيها عن الزيّ الجامعي، وحقَّنا باسترداد ما نَسَفَتْه القذائف. تنسكب القهوة في الكوب. تعبر إلى البلعوم بطعم التمر، ممزوجاً بصوتٍ يبكي فلسطين. الريحُ الخريفية مثلُ أمٍّ مع طفلها الأوّل، تلاعبُ أوراقاً صغيرة بأصفرَ شفّافٍ. أنفاسٌ طيّبة تخترق الروح، تختفي في كهف الرَّقَبة. قيلولةٌ تحت الشَعْر المبلول.
الماء في القدَح بمقدارٍ يترك للغصن أن يُطلقَ جذراً: سيفعل وسأُهمِله، وإن أثبتَ لي حماقة ما نحن فيه هذا الصباح!
في الصحو
لا أعرفُكَ. سأختاركَ فقط من أجل أن أكتب. غيرُ مهمٍّ أن تكون جداراً، عصاً، أو أصيصَ نبتةٍ. ما يهمّني هو أن تكون قريباً، أن تكون ثمّة صورةٌ لك ماثلةٌ أمامي، وليس شبحاً أطارده. لو عرفتُكَ لن أنجو من الورطة. كنت سأرفع القلم لثوانٍ وأستدير لأنظر طويلاً في النافذة. يقال هذا شأنٌ لا علاقة له بالفطرة، هو محض تقليدٍ مكتسَب. النظر إلى النافذة يفترض العودة بفكرة، ولكنها اللعبة، ألهو فأحسبه أحياناً فعلَ تخفّي، أسرحُ كما لو أنّ الرسّام يودّ أن يرفع ذقني إلى أعلى قليلاً. إن عدتُ ومسَّ طرفُ القلم الورقة سيضغط طويلاً حتى ينضب الحبر، وبالتالي يتحتم عليّ أن أحبِرَ الدواة، من أجل أن يعاود محاولته قراءة الاتجاهات! القصة تتطلّب ألّا أعرفكَ من أجل أن أكتبها، ولكي أقصّها عليَّ ألّا أفكر بشيءٍ من نتاج العصور. أودّ بشدةٍ ألّا أعرفكَ من أجل أن أخاطبك. أنْ أجهلكَ تماماً لكي أُكسيَكَ بكلماتٍ غريبة. كي أسحبَكَ معي خارج العالم من دون أن تقاومني. أن تهبني كلَّكَ كاملةً، من دون أن تثير فيّ فعل المقاومة أو التحايل. ولكن لا سبيل للعثور على أحدٍ لا أعرفه، بالمواصفات، أو اللا مواصفات تلك. قصتي تصعب على التصديق. أضطر إلى اختلاقكَ، أو خلقِكَ، وها القلم الأرعن متعجّلاً يسحب الأصابع ليرسمَ له جناحين من الوهلة الأولى. كما لو أنه شرطه. لا… ما أراه ليس واضحاً تماماً. ثمّة خطأٌ ما، لم يكن هذا، مهلاً. من الاستحالة اللحاق بشيء. لنشطبَ هذا. أجل، قلتُ انتظرْ، ليس هذا، شيءٌ من ضباب، زحامٌ وتدافع. ها هو قد فَلَتْ وطار ! كنتُ على وشك… أرفعُ رأسي عالياً. ما هذا؟ لا أصدّق تواطئه ضدّي. وما هذا المكتوب بالغيم الأبيض؟!
آثاري
كان يتحدث عن الشاعر. قال: الخرائب تكون في العادة باردةً نلجأ لها في طفولتنا هرباً من حرّ الصيف. جلجامش تأمّل المكان ووجدَه وقد ضاقَ بفِكْره فارتحل. وكل ما تصدّر المذهبّات الطويلة الموزونة كان وقوفاً عند ريحٍ ربما قد هبّت من بعد عمرٍ على جسدِ حبيبٍ ارتدى يوماً جِلْدَ المحبّ! سخْطُ الإله، أمِ الدهشة حين يتحوّل الجسد إلى منحوتةٍ حجرية (أوجعتْه أمّه حين قالت له: إن هذه المنحوتات ما هي إلا أناسٌ أعلنتْ عصيانها)، كما تحوّل ذاكَ الذي تأمّل في عُري ديانا فأكلَتْه الذئاب. قال لقد توقف الشاعر عن الكتابة، وجلجامش ذاتُه أدارَ وجهه للغواية رعباً من فكرة الاختفاء عبثاً، شأن أيّ عابرٍ شَبِعَ من الحياة. أفزَعَه أمرُ كلِّ من سبَقَه، ممّن اقتربَ مِن ذاتِ السِرّة المُهلِكة. لقد لزمَ الصمت. لا أحدٌ مثله تألّم لمآلِ المدينة أو بكى الغائبين، النصف منه إنسان، والنصف الآخر نسيمٌ كاللاشيء لا زالت السماء تتشاورُ بخصوصه.
*موقع اوكسجين