دلير يوسف: لم تكن فلسطين يوماً حقيقيّة بالنسبة لي، مثلما هي اليوم

0

فرق كبير بين الانتفاضة الفلسطينية الحالية والانتفاضات السابقة. أو بالأحرى، الفرق بين فلسطين الحالية وفلسطين السابقة، كبير بالنسبة لي. لماذا؟

منذ انتقلت للعيش في العاصمة الألمانية، عرفتُ الكثير من الفلسطينيين، أصدقاء وصديقات، سواء من الضفة الغربية وقطاع غزة أو من فلسطينيي الداخل. منهم من يعيش في برلين، ومنهم من أتى يزورها ومنهم من عاش لفترة في المدينة ومن ثم غادرها للعيش في مدينة أخرى، أو العودة إلى البلاد (أحب لفظ البلاد الذي يطلقه الفلسطينيون على أرضهم).

من أولئك الفلسطينيين والفلسطينيات الذين عرفتهم صار عندي صديقات وأصدقاء أعزاء، أصدقاء نتبادل الأحاديث والأسرار والأحلام وتفاصيل الحياة اليومية، وعن طريقهم صارت فلسطين، بالنسبة لي، بشراً من لحم ودم، بشراً يشبهوننا ونشبههم، بشراً عندهم قصص وحكايات وسرديات ما كنتُ أعرفها حين كنتُ أعيش في سوريا.

في سوريا، كان عندي أصدقاء فلسطينيون كثر، بعضهم ما زال من أعز أصدقاء، لكنهم كانوا من فلسطينيي المخيمات، أو كانوا أولاد عائلات فلسطينية ممن عاشوا في المخيمات، ولا سيما مخيمي اليرموك وفلسطين في دمشق، أولئك الذين هجرهم الاحتلال منذ ما قبل سنة 1948، في نكبة مستمرة حتى اليوم. أولئك الفلسطينيون الذين حافظوا على لهجتهم القوية الحلوة، كانوا سوريين بقدر ما كنتُ سورياً، وربما أكثر، وكانوا يعرفون عن فلسطين الحالية (ولا أقصد فلسطين حكايات الأجداد والجدات التي كانوا يتناقلونها ويسكرون بها كخمر مُعتق) مثلما أعرف، لا أكثر ولا أقل.

كنا نعرف فلسطين عن طريق الأخبار وقصائد محمود درويش وسميح القاسم وأغاني ريم بنا وفرقة العاشقين ومارسيل خليفة وروايات غسان كنفاني والياس خوري وقصة أبو عمار، الزعيم الذي حلمنا أن نصبح مثله… الخ.

لكن فلسطين لم تكن يوماً حقيقية، بالنسبة لي على الأقل، مثلما هي اليوم.

اليوم عندي صديقات وأصدقاء يشاركون بشكل مباشر في الانتفاضة، بشر أعرفهم وأعرف أصواتهم وأحلامهم، أعرف الموسيقى التي يسمعونها والأغاني التي يرقصون عليها… أرى اليوم، وبعيني، كيف يُظهرون للعالم أنهم أبناء تلك البلاد، أبناء فلسطين، التي “كانت تُسمى فلسطين/ صارت تُسمى فلسطين”، وكيف يشاركون في الوقوف في وجه جنود الاحتلال.

أعتبرُ فلسطين جزءاً من هويتي، رغم أنني لم أرَها ولم أولد فيها، ولا وُلِدَ فيها أي من أفراد عائلتي، ولا عندي أقرباء فلسطينيين، لكن فلسطين جزءٌ من هويتي. أترى هذا الجزء تكوّن من استماعي طفلاً لأغنيات مسجلة على كاسيتات كُتب عليها “إذاعة القدس، على طريق تحرير الأرض والإنسان”؟ أم تراه جزءاً معجباً بأبو عمار، ياسر عرفات الذي “استطاع أن يعيد اسم فلسطين إلى الوعي العالمي” كما قال عنه محمود درويش؟ أم هي قصائد محمود درويش الذي جعل فلسطين أكبر من خريطتها؟ أم هي أغنيات ريم بنا التي فتحت لي شباكاً على مدن فلسطين وأنا أعيش في حي عشوائي يسكنه الأكراد في أطراف دمشق؟ لا أعرف.

لكنني أعرف حق المعرفة، أن الإيمان بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والمساواة في أي مكان من العالم، يبقى ناقصاً إن لم يقترن بالإيمان بحرية وعدالة وكرامة الفلسطينيين، دون أن ننسى أن لا حب لفلسطين دون حب الفلسطينيين. أقول هذا وأنا أتذكّر النظامين السوري واللبناني الذين صدعوا رؤوسنا بالحديث عن فلسطين وهم يقمعون الفلسطينيين ويقتلونهم ويحرمونهم من الامتيازات والحقوق في سوريا ولبنان.

فلسطين المنتفضة اليوم لا تشبه شيئاً أكثر من شبهها بالثورات في سوريا ومصر ولبنان والعراق وليبيا وتونس والبحرين واليمن، انتفاضة أعادت للشعب صوته، بعد أن قمعه الاحتلال (في البلاد الأخرى ديكتاتورياتنا كانت أشبه بالاحتلالات) لسنوات طويلة، انتفاضة أعادت ثقة الناس ببعضها بعد سنوات من كسر هذه الثقة، انتفاضة كسرت كل حواجز الخوف التي بنتها السلطة/ات والاحتلال، انتفاضة موحّدة جمعت أجزاء البلاد المبعثرة، انتفاضة أعادت للمُهجّرين والمُبعدين والمغتربين انتماءهم وإحساسهم بأرضهم، ببلادهم.

أتريدون مثالاً عن كون فلسطين امتداد لباقي ثورات المنطقة؟ حسناً، في القدس غنوا “جنة جنة جنة والله يا وطنا” التي صدحت بها حناجر السوريين والعراقيين واللبنانيين في شوارعهم، وفي نابلس هتفوا “الموت ولا المذلة” الصرخة السورية الأشهر. أهناك دليل أقوى من هذا؟

لا تشبه فلسطينُ اليوم فلسطينَ القديمة؛ فلسطين خرجت من نشرات الأخبار وصارت لحماً ودماً وحكايات وتاريخاً وقصصاً لا تنتهي. خرجت فلسطين من عباءة حكومات المُمانعة الكاذبة وصارت تمشي معنا في الشوارع، صادقة مثلما هي، بأحلامها وعنفوانها وحكاياتها، وحتى بأكاذيبها.

فلسطين اليوم لا تشبه الحكومات. فلسطين اليوم تشبهنا، نحن من يحب، ويحلم ويطمح إلى الحرية والعدالة. فلسطين اليوم، بفكرتها قبل أرضها، لنا.

أحبائي في فلسطين: اليوم وفي الأمس وغداً، أنا معكم، متضامن معكم، بكل ما أستطيع وبكل ما أملك، حتى وإن كان ما أملك بضع كلمات، فهذي الكلمات متضامنة معكم.

(رصيف 22)