سلطانة، هي البنت الكبرى لـ”نوري”، التي توفيت سنة 2009 بعد أن عاشت حوالي مئة سنة، وهي البنت الكبرى بين ثلاثة إخوة وأخت صغيرة. زوجوها وهي في الرابعة عشرة من عمرها من جدي، الملّا محمد.
كانت تلعب بالطين خلف بيتهم الطيني حين تزوجت ابن خالتها الذي يكبرها بثلاثة عشر سنة وذهبت إلى قرية أخرى لتعيش في بيت أخي زوجها الذي يملك أرضًا زراعيّة هناك. لاحقًا انتقلت مع زوجها إلى قرية أخرى في نفس المنطقة حيث وجد زوجها عملًا هناك شيخًا للجامع. بقوا هناك سنتين فقط، لأنّ جدي لم يحب العمل كشيخ جامع والاعتياش على تبرعات الفقراء، فقرّر الرحيل إلى القامشلي. عادت سلطانة دون رجلها إلى قرية أخو زوجها حتى وجد الرجل عملًا في المدينة، وهناك رزقت بابنها الأول، والدي.
في سنة الابن الأولى، انتسب الزوج إلى الحزب الكردي الأول وكان من أوائل السياسيين الأكراد في سوريا. التحقت بعدها العائلة الصغيرة بالرجل الذي سبقهم إلى القامشلي وسكنوا في أحد أحياء الأطراف، حيث عمل الرجل كاتبًا لدى أحد الشيوخ. ولدت ابنتهم الأولى، عمتي الكبيرة، في هذه الظروف. وبعد ولادتها بعشرة أيام تم اعتقال جدي في مدينة حلب خلال إحدى مهامه الحزبيّة. من ثمّ نُقل إلى سجن المزة في دمشق. كان ذلك خلال دولة الوحدة بين سوريا ومصر، وكان حينها جمال عبد الناصر، الذي أسّس للخراب الذي نعيش فيه الآن، يحكم سوريا.
أثناء سجن زوجها الأول وغيابه في دمشق (دام اعتقاله لستة شهور وبقي يحاكم لمدة سنة ونصف اضطرته للبقاء في دمشق للمثول أمام المحكمة كلّ أسبوع)، لم يكن الزوج يملك المال الكافي للذهاب إلى القامشلي والعودة إلى دمشق كلّ حين، فعمل في معمل للعباءات في منطقة الشيخ خالد في حيّ ركن الدين. في هذا الوقت لم تعد سلطانة تستطيع دفع أجرة بيتها في المدينة فعادت إلى بيت والدها في قرية نائيّة في ريف القامشلي. والدها مات أثناء وجودها هناك.
بعد انفصال سوريا عن مصر وتفكك دولة الوحدة، أصدرت الحكومة السوريّة الجديدة عفوًا شاملًا على كلّ المحكومين، فعاد جدّي إلى بيتهم من جديد. عادت العائلة إلى القامشلي مرة أخرى واستأجرت بيتًا جديدًا في حيّ “قُدوُربَكْ” وعَملَ الرجل اسكافيًا. بعد مدّة زمنيّة قصيرة عادت عناصر المخابرات لملاحقة الأب، فاضطر إلى ترك البيت والتخفي بين القرى.
في أحد الأيام وحين كان يزور عائلته متخفيًًا داهمت قوات الأمن البيت واعتقلته للمرة الثانية ونقلته إلى “حَبْسَا رَشْ” (السجن الأسود) في القامشلي. حدث ذلك في عام 1962. أُطلق سراح الرجل بعد أربعين يومًا. انضم بعدها إلى الحركة الكرديّة في كوردستان العراق. كانت مهماته تتضمن نقل الصحافيين إلى الجبال وإيصال المعونات الطبيّة وأحيانًا السلاح.
عادت إلى بيت أهلها مرة أخرى، وعاشت مع أمها. لم يكن لديها أيّ معيلٍ في ذلك الوقت. بعد عدّة شهور قرّرت الانتقال إلى القامشلي من أجل زوجها، فالوصول إلى القامشلي أسهل من الوصول إلى القرى، وهو المتنقل بين طرفي الحدود مثل ذئب.
استدانت الكثير من المال من أجل تجهيز البيت في القامشلي حيث ولد ابنها الثالث سنة ١٩٦٤. بعد أن وصل الرضيع إلى عمر ستة شهور، ازدادت المضايقات الأمنيّة فغادرت المدينة مع أطفالها وتوجهت إلى إحدى قرى عشيرة الكيكان، واسمها “شُورِي”. اعتقدوا أنّ الحكومة لن تعثر عليهم هناك في ظل الأوضاع الأمنية الفوضويّة التي تحل بالبلاد.
أحد عيون المخابرات رآهم وأخبر عنهم. داهموا بيتهم أثناء تناولهم طعام السحور في إحدى الليالي الرمضانيّة. كسروا باب البيت ودخلوا. كان أخوها الصغير يعيش معهم وكان حينها في العاشرة من عمره. هكذا كانت الصورة؛ امرأة وأربعة أطفال ورجال الأمن في البيت. بقوا هناك حتى وقت الضحى. ضربوهم وشتموهم وضربوا الأطفال وضربوا الأم برشاشاتهم وهي تحمل رضيعها.
كانت القرية الصغيرة فارغة، فبعد أن عرف سكانها بمداهمة الأمن أحد البيوت هربوا باتجاه الحقول والأراضي الزراعيّة المحيطة. هدّدت عناصر الأمن العائلة بأخذها إلى سجن غويران في الحسكة. جعلوا الأطفال يمشون تحت تهديد الرشاشات الناريّة والأم تمشي خلفهم. قالوا إنّهم لن يعودا إلى بيتهم مرة أخرى.
أوقفوهم أمام السيارة العسكريّة واتجهوا نحو امرأة كانت تمر بالقرب من القرية وتحمل قربة ماء. ثلاثة جنود بقوا مع سلطانة وأطفالها، وأربعة اتجهوا نحو المرأة الغريبة. سألوها عن زوج سلطانة إن كانت تعرفه فأجابتهم بأنّهم عار على الجند وأنّهم يستقوون على امرأة وأطفالها. غضب الجنود وضربوها بقسوة وحطموا قربة الماء وأدموا وجهها.
سمعتُ هذه الحكاية عشرات المرات حتى أكاد أجزم بأنّني كنت هناك وأنّني رأيت كلّ شيء. رأيت فتىً صغيرًا، وهو أحد أقرباء المرأة الغريبة، يقترب في محاولة الدفاع عن قريبته. أمسكوه وقيّدوه بعد ضربه ثمّ طلبوا منه أن يضرب سلطانة وأطفالها إن كان يريد النجاة. رفض الفتى فضربوه بشدّة أكبر. حاولت سلطانة أن تدافع عنه رغم ضعفها فزادت ضرباتهم للفتى. حطّموا فكه بأقدامهم وسالت الدماء أنهارًا. غادر الجنود منظر الدماء دون أن يقولوا شيئًا سوى شتائم كانت تخجل سلطانة من ذكرها، حين تحكي هذه الحكاية.
حاولتْ مساعدة الفتى بما يُمكن لكنها لم تستطع إيقاف نزيف الدم. جاء أهل القرية للمساعدة بعد أن رؤوا عناصر الأمن مغادرين. أخذوا الفتى بعربة يجرها رجل منهم إلى بلدة الدرباسيّة قاصدين أحد الأطباء.
شتاء بارد وعناصر أمن دائمون
في الشتاء اللاحق ازدادت زيارات عناصر الأمن لهم. كان الشتاء باردًا جدًا وعناصر الأمن تداهم البيت كلّ أربعة أيام. كانت سلطانة تحسب الأيام هكذا: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة… يوم المداهمة. لم تكن تعرف في ذلك الوقت مكان زوجها. قد يكون في الجبال وقد يكون في الحقول خلف بيتهم، قد يكون في أيّ مكان.
لم تعد تحتمل مضايقات الأمن. أرسلت تخبر أمها. فطلبت “نُورِيْ” من أحد أقربائهم والذي يملك سيارة شحن أن يساعدهم في نقل بيتهم إلى القامشلي مرة أخرى. جاء رجلان من عامودا ليساعدوا النساء في عملية النقل. وصلوا أثناء سيرهم بالشاحنة إلى قرية “تل كرمة”، فتعطلت بهم هناك بسبب الصقيع.
قبل ذلك، كان على الأم أن تحصل على موافقة مدير الناحية لنقل بيت ابنتها سلطانة التي لم تبلغ من العمر سوى الثانية والعشرين من عمر قاس، أنجبت خلالها ثلاثة أطفال حتى الآن.
لم يسمح لها مدير الأمن في القرية بالتحرّك قبل الحصول على موافقة السلطات، أي مدير الناحية. كانت الأوضاع على أشدّها في ذلك الوقت، فحكومة البعث قد بدأت تخطيط وتنفيذ مشروع حزام عربي بطول ٣٥٠ كم وبعرض يبلغ ١٥ كم على طول الحدود السوريّة التركيّة، بغية فصل الأكراد عن بعضهم. الأكراد الذين كانوا يسموّن الحدود بالخط، أيّ خط سكّة القطار الذي يشكّل الحدود بين سوريا وتركيا، والذي فرّق العائلات عند إنشائه، فصار بعضهم يعيش “فوق الخط” وبعضهم “تحت الخط”. جلبت حكومة البعث عائلات عربيّة، معظمها من محيط مدينة الرقة، وبنوا لهم مستوطنات احتلوا بها أراضي الأكراد الزراعيّة. الأكراد الذين جُردوا من الجنسيّة السوريّة، حيث حُرم 120 ألف كردي من التمتع بالحقوق المرتبطة بالجنسية السوريّة من تعليم وصحة وغير ذلك، بحجة أنّ “الشعب الكردي شعب لا تاريخ له ولا حضارة ولا لغة ولا أصل عرقي ولا يتميز سوى بالقوة والعنف”، حسب تقرير شوفيني متعصب كتبه محمد طلب هلال قائد الشرطة السياسيّة في منطقة الجزيرة آنذاك.
أرسلت الحكومة أكثر من 25 ألف فلاح عربي، ممن أُغرقت أراضيهم بعد إنشاء سد الطبقة إلى أراضي الأكراد. لقد بنوا لهم حوالي ثلاثة وثلاثين قرية أو وحدة سكنيّة كما أسموها وكانت معدّة بالمياه والكهرباء والمدارس والطرق ونقاط الشرطة…الخ، بينما كانت القرى الكرديّة محرومة منها كليًّا، وكانت هذه الوحدات السكنيّة مجهّزة عسكريًا ومعبّأة نفسيًا ضدّ جيرانهم “السكان الأصليين”، هذا إضافة إلى سياسة التعريب، فقد تمّ تغيير أسماء المدن والقرى والبلدات الكرديّة إلى عربيّة، وتمّ منع إطلاق أسماء كرديّة على المواليد الجدد.
حين كانت سلطانة تحكي لنا ذلك، كانت تعرف كلّ الأرقام وكلّ التواريخ. كانت تقول إنّ من ذاق الظلم لا ينساه. وهذه الأحداث، وهذا الكلام العام جزء لا يتجزأ من حكاية سلطانة. هذا هو الظلم الذي توارثه أكراد سوريا جيلًا بعد جيل.
تعطلت الشاحنة في “تل كرمة” بسبب الصقيع. كانوا بحاجة إلى ماء ساخن ليسكبوه فوق المحرّك ويتابعوا سيرهم. طلبوا بابور كاز وبعض الماء من أهل القرية لكن الناس خافت أن تساعدهم. في تلك الأيام كان الناس يخافون من كلّ شيء؛ كانوا يخافون من مساعدة عابري الطريق الغرباء، خوفًا من أن يكونوا مطلوبين للأمن.
مثلًا، في إحدى القرى وخلال تنقلات سلطانة الكثيرة، بَنَتْ سلطانة بيتها الطيني بنفسها دون مساعدة من أحد لأنّ الناس لم يتجرؤوا على مساعدة زوجة أحد المطلوبين للأمن. كانت تنقل القمح وتصنع الخبز وتجلب الماء وتهتم بالأطفال وحدها دون مساعدة. كان الناس يخافون أن يكتب أحد المخبرين تقريرًا عنهم يقول فيه إنّهم يساعدون عائلة الرجل الثائر على قمع هذه السلطات.
كانت تخاف أن تضيع الحكاية فنضيع معها
قصة سلطانة هي جزء من حكايتي، ليست حكايتي بالضبط لكنها ذاكرتي، رغم أنّني لم أعشها، لا أعرف كيف أفسّر الأمر لكن هذه الحكايات هي جزء من تكوين عائلتي ومن تكويني. كانت جدتي سلطانة تحكي لنا هذه الحكايات كلّما انقطعت الكهرباء واجتمعنا في الظلام. كانت تحكي وتحكي وتحكي دون أن يتعب الكلام. كانت تخاف أن تضيع الحكاية فنضيع معها. لقد شكلتني هذه الحكايات، حتى صرت أحسب أنّها حكاياتي وكأنّني أستطيع أن أميز وجه ضابط الأمن وهو يأخذ الرضيع من أيدي سلطانة ويرميه على الأرض. أستطيع أن أميز رائحة الجندي الذي ضربها بحذائه على وجهها. هذا جزء من ذاكرتي، ذاكرة دولة البعث.
لأعد إلى حكاية سلطانة. تعطّلت الشاحنة في “تل كرمة”، وحين يئسوا من مساعدة أهل القرية لهم اضطروا إلى إنزال أغراض بيتهم من الشاحنة من أجل إيجاد بابور الكاز الخاص بالعائلة، والذي كان بالصدفة في عمق الشاحنة، فاضطروا إلى إنزال كلّ أغراضهم، ومن ثمّ توجه أحد الرجلين إلى النهر القريب وجلب الماء. هكذا حلّوا مشكلتهم وعادوا إلى القامشلي.
في البداية استأجرتْ بيتًا في منطقة “الهلاليّة”. في ذلك الحين كانت الهلاليّة المجاورة للحدود التركيّة تقع خارج مدينة القامشلي محاطة بالحقول من كلّ جانب. لم يكن الحصول على ماء صالح للشرب أمرًا سهلًا في تلك البلدة، والتي توّسعت بعد سنين طويلة وأصبحت جزءًا من المدينة التي تتوسع باستمرار. بعد شهرين انتقلت سلطانة مع أولادها إلى منطقة “آشي بُوزي” وسكنت هناك لثلاثة شهور. بعد ذلك عادت إلى بيتها القديم في حيّ “قدوربك” بعد أن خرج من كان يسكن فيه.
عاشت سلطانة في بيت حيّ قدوربك حتى وقت انقلاب صدام حسين سنة 1974 على اتفاقيّة الحكم الذاتي للأكراد في العراق وكان عندها في ذلك الحين ستة أولاد. قبل تلك السنة كانت في بداية كلّ صيف، وبمساعدة قوات البيشمركه، تزور زوجها في جبال كردستان العراق. تبقى هناك لمدة ثلاثة شهور ومن ثم تعود. كانت تعبر الحدود بين العراق وسوريا برفقة أولادها بطريقة غير شرعيّة من أجل الالتحاق بزوجها وتعود في الشتاء من أجل إرسال أولادها إلى المدرسة.
الجد (زوج سلطانة) وخيبات الثورات الكرديّة
كان زوجها، جدي، يخدم في صفوف الثورة الكرديّة، ثورة مصطفى البارزاني. وكان رجلًا مسالمًا. كان يحمل السلاح لكنه لم يحبّ القتال، فكانت مهماته تنحصر في مساعدة الصحفيين وتأمين الثياب والطعام والشراب ومختلف الأمور اللوجستيّة الأخرى. كان في بيتنا صورة له مع الرئيس العراقي اللاحق، جلال الطالباني. كانوا ثلاثة رجال، جدي إلى يسار الصورة وعلى يمينها رجل نسيت اسمه وفي المنتصف جلال الطالباني. كان الثلج يغطي الأرض وكانوا يرتدون ثياب البيشمركه.
بعد عقد اتفاقية الجزائر، التي أُبرمت بين إيران والعراق بمبادرة أمريكيّة جزائريّة وكان عرابها آنذاك وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، والذي سيصبح لاحقًا رئيسًا مدى الحياة للجزائر، أُعلن عن إلغاء اتفاقية الحكم الذاتي التي أبرمت بين البارزاني وحكومة بغداد سنة 1970. وهكذا أُعلن فشل ثورة الأكراد، مثل كلّ ثورات الأكراد الأخرى، السابقة لهذه الثورة والتي لحقتها. هل أحكي عن كلّ الثورات الكرديّة الفاشلة، تلك التي كنّا نحكي حكاياتها سرًا في البيوت؟ هل أحكي لك عن ثورة الشيخ سعيد أو ثورة ديرسم أو ثورة البرزنجي أو انتفاضة أكراد سوريا 2004، والتي كنت شاهدًا عليها؟ ربما في يومٍ آخر.
حينها، أي بعد إعلان فشل الثورة سنة 1975، قال الملّا مصطفى لجدي إنّ هولندا مستعدة لإستقبال 740 عائلة كرديّة وإنه يستطيع إرساله مع عائلته إلى هناك إن أراد. لكن جدي رفض لأنّ ذلك يضر بالأكراد وبالقتال من أجل حقوقهم أكثر مما يفيدهم.
عاد الرجل مع عائلته إلى القامشلي لكن الأمن السوري كان بالانتظار؛ مطاردة دائمة وتحقيق شبه يومي. فقرر الانتقال مع عائلته إلى دمشق والعمل هناك كبائع ثياب مستعملة (البالة) على بسطة متنقلة في منطقة ساحة المرجة في وسط العاصمة. ومن ثم استأجر دكانًا في شارع الثورة كبرنا فيه جميعًا.
في دمشق كان الأمن يستدعي الرجل إلى التحقيق كلّ أسبوع مرة رغم اعتزاله العمل السياسي. كان يقول لهم إنّ الثورة الكرديّة فشلت وهو لا يريد شيئًا بعد الآن سوى الاهتمام بأولاده لكنهم استمروا في استدعائه إلى التحقيقات وفرضوا عليه الإقامة الجبريّة في سوريا. لم يكن يسمح له بالخروج من البلاد إلا بموافقات أمنيّة يصعب الحصول عليها. استطاع مغادرة سوريا مرتين فقط، وذلك بعد واسطات عديدة وتعقيدات كثيرة وتحقيقات لا تنتهي. هكذا حتى مات سنة 2007 وخرجت له جنازة مهيبة في القامشلي احترامًا لتاريخه النضالي.
في دمشق سكنوا البيت الأعلى في الجبل في منطقة الأكراد في حيّ ركن الدين. لم يملكوا من المال ما يمكّنهم من استئجار بيت آخر. كان الصعود إلى بيتهم يلزم نصف ساعة مشيًا صعودًا لأنّ السيارات لم تكن قادرة على الوصول إلى ذلك العلو.
مع استمرار العمل والاستقرار النسبي تحسّن وضعهم المادي قليلًا، فاستطاعوا شراء بيت من غرفتين في الجبل، في مكان أقل ارتفاعًا من بيتهم السابق. كانوا تسعة أشخاص، سبعة أولاد وسلطانة وزوجها، ومع ذلك لم يكن بيتهم يخلو من الضيوف. كلّما هطل المطر فاض بيتهم. سكنوا في ذلك البيت لسنوات خمس حتى استطاعوا شراء قطعة أرض أقرب إلى الشارع الرئيسي. كان العمل في البالة يدر عليهم ربحًا كبيرًا فاشتروا قطعة أرض مع أحد الشركاء، وكانت هذه الأرض عبارة عن مكان تجميع نفايات بيوت الجبل. نظفوا المكان وبنوا البناء الذي سكنوا فيه، والذي وُلدت فيه.
بعد سنوات من العمل في تجارة الثياب المستعملة (البالة) وفرز الملابس وغسلها وكيها وبيعها منعت البلدية المتاجرة بثياب البالة سنة 1996. بعدها بسنوات عادت البالة إلى الشوارع لكن حظ عائلتي كان قد أفلس.
بعد سنة 1996 انتقلت العائلة من بيع البالة إلى بيع الأحزمة الجلديّة والجوارب والكنزات الصيفيّة. كان الدكان موجودًا والبضاعة تتغير كل سنتين إلى أن قررت الحكومة أن تهدّ تلك الدكاكين سنة 2004. هدّت الدكان والسوق بأكمله وحولته إلى حديقة بشعة ولم تدفع تعويضًا لأيّ شخص. هكذا فقدت المئات من العائلات مصدر رزقها الوحيد.
مات الرجل سنة 2007. مات جدي سنة 2007 بعد أن زار السجون السوريّة المختلفة عشرات المرات. مات بعد أن خلق لنفسه ذات يوم أسطورة بين القرى الكرديّة المختلفة، وبعد أن أصبح حكاية تحكيها الجدات لأحفادهنّ.
تقول إحدى الحكايات إنّه مع بعض أصدقائه الثوار هاجموا قافلة القائمقام الظالم، وأخذوا كل ما كان يحمله معه وهو في طريقة إلى بلدة “ديرك”، فجنّ جنون قوات الأمن واعتقلوا كلّ رجال المنطقة دون أن يصلوا إليه.
أخيرًا أُلقي القبض عليه في قرية “جَل آغا” ونقلوه إلى “تل كوجر”. عُذّب هناك كثيرًا لدرجة أنّه فقد السمع في أذنه اليسرى. قرروا نقله من هناك إلى القامشلي. حاول هو وصاحبه الهرب بالقرب من قرية “جِمعَايِة” ولم ينجحوا.
في القامشلي وقبل أن يصلوا إلى نقطتهم الأخيرة قفز من السيارة واتجه إلى منطقة “البشيريّة”. حاولوا اللحاق به دون جدوى. فرّ إلى أحد البيوت حيث خبأته إحدى النساء. أعطته ثيابًا لزوجها ليلبسها وساعدته مع أهل الحيّ على الهرب نحو الحدود التركيّة مختبئا في سيارة أحد أكراد الحيّ. لاحقًا اعتقلوا المرأة وصاحب السيارة والكثير من رجال المنطقة ليصلوا إليه، ولم يستطيعوا. أصبح بطلًا شعبيًا وأطلقوا اسمه، محمد نيّو، على أبنائهم.
سلطانة هي أصل حكايتنا
أكتب الآن عن سلطانة، لكن لماذا أكتب قصتها وأعود إليها في كلّ حين ولا أحكي قصة زوجها بالتفصيل الممل؟ أليس هو البطل، صاحب السير وحديث الناس؟ ألم يكن هو من يجلس في صدر أيّ مجلس يرتاده وتبقى للناس العتبة؟ ألم يكن هو من يعيش تحت الضوء وسلطانة مطمورة في الظل؟ لكنني لا أصدّق كلّ ما أراه. لا أصدّق هالات النور التي تُعمي العيون. سلطانة كانت أصل الحكاية. كانت هي حجر الزاوية التي بنى عليها أسطورته. كلّما تعب لجأ إليها هاربًا. هي من أعطته بيتًا حين كان ينام في العراء مذيبًا الثلوج بحرارة دمه. سلطانة هي أصل حكايتنا وزوجها لم يكن إلا باحثًا عن المعنى؛ معنى لحياته ولفكرته القوميّة ولوطنه المفترض. لم يعرف قيمة ما أعطته حتى آخر أيام حياته. كان يريد أن يقبّلها بشدّة لكنها كانت ترفض في كلّ مرة حاول التقرب منها. كانت تقول إن الوقت تأخر، كان عليه أن يقبلها قبل خمسين سنة، قبل أربعين، قبل عشرين، أما الآن فلم يبق من العمر متسع إلّا تجهيز قبر مريح كي تهنأ بنوم أبدي.
لا أقول إنّه أضاع حياته بعيدًا عنها. صحيح أنا لا أؤمن بالقوميات لكن ما فعله لم يكن قوميًا، ما قاتل من أجله كان رفع الظلم عن الناس. هكذا أراه. وإن كانت تلك الثورة قوميّة فالزمن آنذاك كان زمنًا قوميًا لكن الظلم، الظلم هو ما يدفع الناس للثورة. لو لم يكن الأكراد مظلومين لما خرجوا في ثورة. أليست الثوراتُ انفجارات في وجه الظلم؟
خمسة عشرة سنة كانت وحيدة تستقبل ضربات عناصر الأمن وأسئلتهم وتحقيقاتهم بشكل شبه يومي، قبل أن تنتقل إلى دمشق. بقيتْ مهددة كلّ حياتها. أتذكر عناصر الأمن يأتون إلى بيتنا في دمشق، حتى غادرتُ البلاد سنة 2011، بشكل أسبوعي ليسألوها أسئلة غبية: كم عدد أولادك؟ ما أسماؤهم؟ منذ متى تعيشون في دمشق؟ كلّ أسبوع نفس الأسئلة. كان الكبار في بيتنا يخبئون الأطفال، أيّ أنا وإخوتي وأولاد عمتي وعمي الصغير، كلّما أتى عنصر الأمن الغبي بدفتره الكبير.
كان أحد عناصر الأمن، وأكثرهم ترددًا على بيتنا في السنوات الأخيرة، يشبه شكل عنصر المخابرات الذي تراه في الأفلام؛ كرش كبير ودفتر كبير وأسئلة غبية مثل الغباء الذي ينقط من وجهه. كنّا نتلصص من ثقب الباب عليهم وفي كلْ مرة كانت العائلة تخاف أن يقول أحدنا شيئًا خاطئًا فيكتب هذا الغبي شيئًا غبيًا مثله فيختفي أحد أفراد العائلة في السجن لسنوات طويلة.
سلطانة لم يكن لديها أصدقاء من عمرها حين كانت صغيرة. كانت تقول إنّ معاشرة الكبار في العمر أفضل. الكبار يحمون من السمعة السيئة والصغار يجلبون الرفقة المسيئة. قد تقول إحداهن مزحة ما عن زوجها، والمزاح يجرّ المزاح فتحكي هي شيئًا عن زوجها البعيد، فينسى الناس مزاح الأخريات ويتذكرون ما قالته زوجة السياسي الثائر. كانت دائمًا ترى نفسها في مرتبة أدنى من الأخريات حين يتعلق الأمر بالسعادة والمزاح والضحك. كلهنّ يملكن رجالًا وكلّ الأولاد يملكون أباءً إلا هي وأولادها. كانت تقوم بكلّ شيء وحدها وتعيش وحدها. ربما من أجل هذا أنجبت الكثير من الأطفال. أأنجبتهم ليؤنسوا وحدتها أم تراها أنجبتهم لرغبة الزوج بالكثير من الأطفال ليحكوا حكايته؟
سألتها مرة بعد أن أنهت إحدى حكاياتها، التي كانت تعيدها للمرة الألف، إن كانت راضية عن حياتها. قالت إنّها أمضت حياتها كلّها بالتعب والقهر والظلم لكن بسمعة جيدة وبكرامة. شدّدت على كلمة كرامة. قالت إنّ من لا كرامة له لا معنى لحياته. قالت إن الناس يذكرونها بالخير ولا أحد يحكي شيئًا سيئًا عنها. كانت قنوعة.
مرة طردها صاحب البيت الذي كانت قد استأجرته. لم يطردها لكنّه قال لزوجته إنّه تعب من تحقيقات المخابرات وزياراتهم الدائمة. نقلت الزوجة الحديث لسلطانة. لم تحتمل سلطانة هذه الجملة، فتركت البيت بعد ثلاثة أيام دون أن تقول شيئًا واستأجرت بيتًا-غرفة أخرى. جملة غيرت تفصيلًا من تفاصيل حياتها التي لا تنتهي.
كانت تقول لنا بعد كلّ حكاية إنّها نست كلّ شيء. كانت تقول إنّ حياتها كانت عذابًا متواصلًا لم يتوقف، لكنها ورغم كلّ شيء، أحبّت جدي. كانت تحبه وتحتمل من أجله كلّ العذاب، كانت تخجل منه في صباها وتستحي منه كثيرًا. كانت علاقتهما تشبه علاقة الأب بالابنة. كان يكبرها بثلاثة عشرة عامًا. كانت تخجل منه وتستحي من حضوره الطاغي. الرجل الكبير. البطل. الأسطورة. لاحقًا حين استقر بهم المطاف في دمشق تحولوا إلى أصدقاء. صاروا يتناقشون في كلّ الأمور. صار يأخذها إلى السينما وهناك كان السحر الذي طارت به إلى أماكن أخرى. عرفت أنّ العالم أكبر مما تتصور، وأن الحياة أوسع من خيالها الضيق. كانت تتذكر فيلم عمر المختار كما لو كانت تراه أمام عينيها. كنت تستطيع أن ترى لمعة عينيها وهي تحكي عن السينما. أحبت سلطانة رغم حياتها الصعبة والضيقة التي عاشتها العالم الواسع. أرادت أن تفتح عيونها على العالم. لم تكن تملك القدرة على ذلك فجعلت من أولادها عيونًا لها. كانت تجوّع نفسها من أجل أن ترسل أولادها إلى المدرسة. كانت تريدهم أن يتعلموا ويكبروا ويروا العالم وأن يعيشوا حياة أفضل من الحياة التي عاشتها هي. كان تريد أن يكون جميع أولادها فلاسفة. كانت تقول ذلك دائمًا. كان تريدهم أن يكونوا عيونًا لها وللأكراد على العالم.
في سنوات حياتها الأخيرة كانت تعيش في القامشلي مع ابنتها، وكانت تزور بيتها الفارغ في دمشق كلّما سنحت لها الفرصة. بيتها الذي بقي طوال سنواته عامرًا بالضيوف والموائد، أمسى بعد غربة أولادها وأحفادها فارغًا يحتله الغبار. كانت تقول إنّها لا تشعر بالارتياح إلّا في بيت دمشق، بيت دمشق هو وطنها.
(كانت تردد دائمًا المثل الكردي: “الشام حلوة كالسكر لكن الوطن أحلى”. وحين أسألها: “أين وطنك؟” تقول: “هنا… هذا البيت هو وطني”. “لكن هذا البيت في الشام” أقول بخبث، فتقول: “والشام بلادي”.)
ماتت سلطانة في مدينة القامشلي، المدينة التي أقامت فيها آخر سنوات عمرها، في اليوم الأول من سنة 2020 القاسية، ودُفنت بجانب شريك حياتها وزوجها وحبيبها الذي لم تعرف رجلًا سواه، جدّي الملّا محمد نيّو.
ماتت سلطانة ولم تمت الحكاية
حين جاءنا الخبر صاعقًا، كنتُ مجتمعًا مع إخوتي ووالدي وابنتي وشريكتي، في مدينة صغيرة في شرق فرنسا، احتفالًا برأس السنة الجديدة، كانت المرة الأولى التي نجتمع فيها كلّنا منذ سنة 2004، حين خرج أخي الأكبر من البلاد هاربًا. بعدها بيوم أدخلت ابنتي إلى المستشفى بسبب فيروس لعين أصابها. بقت صغيرتي في المستشفى لستة أيام، كانت أصعب أيام مرّت عليّ حتى الآن. مراقبة جهاز التنفس وجهاز نبضات القلب طوال الليل والنهار لم يكن سهلًا.
لم أملك وقتًا لأحزن على سلطانة حزنًا يليق بها. انشتغلت بابنتي المريضة وبحياة المنفى التي لا أتقنها. مرّ وقت طويل على رحليها، ربما الآن أستطيع أن أحزن على رحيلها، وأهديها هذا النص وأنا أحكي لأناس غرباء لا يعرفونها جزءًا من قصتها.
قالوا إنّها نامت في الليلة التي سبقت رحيلها في بيت أحد الأقرباء في حيّ الهلاليّة، استيقظت مبكرًا ومشت إلى بيت ابنتها في الحيّ الغربي، وقالت لهم إنّها تشعر بألم في قلبها، وطلبت أخذها إلى مستشفى قريب. قبل الوصول إلى المستشفى كانت قد فارقت الحياة، وقد بلغت السابعة والسبعين من عمر شقيّ مُتعِب.
(حكاية ما انحكت)