دلالات الرّمز: في “مأساة عائلة الأشجار”*

0

سوسن إسماعيل     

ناقدة سورية

مجلة أوراق العدد 12

النقد الأدبي

                                            “شجرةُ الزيتون لا تبكي ولا تضحك

                                                           هي سيدة السفوح المحتشمة”

                                                                         محمود درويش

ــ تمهيد: 

إنَّ أيّ قراءة تحليلية لأيّ نصّ إبداعي، هي فعاليةٌ تعكسُ الكيفيّة التي عليها النّصّ، وذلك لا يتمُّ إلا عبر القارئ؛ وما يتشكّل لديه من تراكم دلالي ينجزه من خلال الرسالة ــ النصّ الذي يُستقرأ فيه المعنى، بعد أن يكونَ قد كسر الجدار الهلامي، من خلال القراءة الفعالة لشيفرات اللغة بمقصدياتها، اللغة بوصفها الأداة ولسان الحال، والقالبَ الذي يكشف عن مآلات الإنسان النفسية والاجتماعية، وعبر مقاربتها مقاربة ثقافية، لكونها تعدُّ الواجهة الأولى لفكِّ شيفرات النص وأسراره.

أولاً ــ نطاقات التحديد:

  القراءة عموماً هي عملية جمالية وإبداعية ولكنها تتسم بالصعوبةِ، ولاسيما في نص يمتاز بالترميز والتكثيف كحال (مأساة عائلة الأشجار)، وذلك لأنَّ القراءة عليها أن تأخذَ في هذا النصّ المكثف والمفتوح بالبنيّة اللغويّة التي تسهم في إنجاز المعنى، ولا سيّما في نصٍّ يطفحُ بالرمزية، رموزٌ تتفجّرُ بطاقات إيحائيّة عاليّة. يلجأ إليه القاص أحمد إسماعيل إسماعيل إلى الترميز والتشفير في هذا النص، ليقدّم كائنات واقعية بدلالات مغايرة أكثر عمقاً وأوسع معنى، عندما تعجزُ اللغة المتداولة عن الإفصاح بمكنوناتها، دون أن يسهو بأنَّ للرمز ارتباطات تاريخية وثقافية وإرثاً أسطورياً يتعلق بشعب ما. وفي هذا النصّ يراعي القاص جملة من الشروط الثقافية والبنيوية لتركيب مجتمعٍ مراعياً خصوصية النصّ وخصوصية البيئة الثقافية للكائن المرموز في النص. ومن هنا؛ فالقراءة في السّرد القصصي الموسوم بـ “مأساة عائلة الأشجار”، تعدُّ نوعاً من المجازفة وبخاصةٍ أَنّها ستتناول النسق الثقافي واللغوي لفئة معينة من الواقع، فأيّ نصّ أدبي هو خليط سابق لجملة من العلاقات التي تنتجُ اللغة، واللغة هنا مشحونة بالإيحاء والرمز، لذلك فآليّة التفسير تختلف من لغة لأخرى ومن ثقافة شعب لآخر. 

إنَّ القاصَّ يتكئ على الرمز للتدليل على مأساة هي مأساة عائلة/ أشجار/ مدينة/ وطن، ليست شجرة واحدة إنما عائلة بأكملها، ولأن “الرمز يؤطر فوضى الأشياء”، فالقراءة حيال نصّ قائم على جملة من الرموز التّاريخيّة، الدّينيّة، وتمتُّ للأسطورة أيضاً، نصّ بمخزون رمزي كبير لا يغيبُ فيه التكثيف والإيحاء العميق، فإلى عوالم هذه الرموز التي تشكل العمود الفقري للنص ــ قيد القراءة: 

1 ــ رمزيّة الأسماء:

اعتمد القاصُّ على توظيفِ الأسماءِ توظيفاً رمزيّاً، ليخدمَ مجموعة من الأفكار ويمرّرَ عبرها مجموعة دلالات ومختزلة في تركيبها، فـ (خالد) المقاتل والمجاهد في فيلق (الحمزات)، والذي دخل منطقة عفرين مع الكثير من فصائل المعارضة المنضوية تحت العلم التركي، واستوطن بيتاً من بيوت سكانها الكرد الأصليين، فثمّة فرحة عارمة يعيشها، فبإمكانه الآن أن يتزوج ويجلبَ أهله لهذا البيت الجديد، مع خطيبته وأهلها، بعد أن فقدوا بيوتهم في الغوطة…!  إن الإشكاليّة هنا لا تتقيدُ برمزية الاسم التاريخي فقط وتقاطعه مع (خالد بن الوليد سيف الله المسلول) ـــ قائد من قادة الغزوات الإسلامية، الذي كان يتركُ خلفه أنهاراً من الدم ـــ إنما تتمثلُ في الربط بين تاريخ مضى وآخر لايزال ثابتاً بمفاهيمه الرثة، يقول المستوطن الجديد لخطيبته: “هذه مملكتك، إنها غنيمة حرب…!”، كما أنه وعدها أن يستولي لأمها وأخيها على بيت مناسب يكفيهما، فهو لن يسعى لتأمين بيت؛ إنما سيستولي عليه، إنها لغة (المجاهد) الناهض من الإرث الديني، فخالد الممثل للسلطة المهيمنة، يضرب ويهينُ ويقنصُ ويطردُ السكان من بيوتهم: “وعدَ القائد خالد خيراً، فإذا لم يتم العثور على بيت خال من أصحابه ممن هربوا وتركوا بيوتهم قبيل سقوط المدينة، فإنه سيعمل على إخلاء بيت من أصحابه أبناء الجن”، وهو ما يجري حقيقة على أرض عفرين، والمأساة التي طالت أهلها، ودفعتهم للهروب والنزوح من بيوتهم، وذلك عبر تحريك الكثير من العلائق التي تربط بين الأسماء والأمكنة والدلائل، كما أنّ القراءة والتمعن في الحوار الذي يدور بين خالد وكافة القوى الفاعلة في السرد القصصي، هو تمثيل وتفعيل للتأويل في تلك الشخصيات الحاملة لنبوءتها، وبما تحمله من دلالات وتلميحات ثقافية، سياسية، دينية، وأسطورية، فإماطة اللثام عن رمزية اسم العلم (خالد) يكشفُ الكثير عن أبعاده التاريخيّة، وذلك من خلال التناص مع المدونة الإسلامية حول المجريات التي كان عليها خالد بن الوليد من العجرفة والإصرار في تحقيق رغباته في النهب والغزو والقتل كما جرى في معركة (أليس في جنوب العراق).

يحاولُ القاصُّ في سعي دؤوب بتوليد جملةٍ من الرُّموز لعدة إيحاءات إبداعية، من حيث الشكل والغاية وطريقة العرض الغير مألوفة، وهي تهيم مرّة باللغة وأخرى بالصورة البصرية والخيال، فالضرب الذي يمارسه خالد على جسد خطيبته، ما هو إلا إعلان عن الإفلاس الأخلاقي، الديني، والاجتماعي، وترميز عن إرثٍ يتسم بالهمجية والتساؤلات المبهمة في حدّيها الواقعي والرمزي: “انتزعَ السوط من يد الشيخ، وانهالَ عليها بالضرب، حينها فقط بكتْ بحرقة، وانهرست حبات الزيتون النازفة على الأرض تحت قدمي خالد”،فالشذرة هي إعلان عن صورة للموت الذي يجدّدُ في نفسه وإرثه، لفكرٍ بائسٍ، ضاقت فيه الرؤية، حتى استسلمَ لها خالد كالدابة: “عندما فرغَ منها خالد، ربضَ على الأرض واستراح”.

إن نصَّ (مأساة عائلة الأشجار) يومئ إلى كيفية استلاب الروح لدى “القوى الفاعلة”، فانبثاق الرمز الديني في النصّ السردي/ القصصي، هي محاولة لتشفير اللغة وإعطائه آفاق تعبيرية وإيحاءات تسهم في عملية الانفعال بين القارئ والنصّ، فـ (سدرة) خطيبة (خالد)، هي المرادف والبعد الرمزي الآخر لـ “سدرة المنتهى“، الوجه والحكاية الأخرى للقصة، وذلك اعتماداً على التأويل والاستغراق، فـ (سدرة المنتهى) يحضرُ اسمها عميقاً في الذاكرة الثقافية والدينية، حيث هي شجرة مُباركة، طيبة الثمار، عندها ينتهي علم الخلق، وبذلك وعبر علاقة تناص لفظي ومعنوي بين شجرة سدرة المنتهى وبين (سدرة) خطيبة المجاهد (خالد)، يُقدّم  القاص شخصية (سدرة) على أنها روح طيبة، اُقتلعتْ من أرضها، وجيء بها إلى أرض عفرين، ولكنها تشبه روح المكان الذي تستوطنه، يقول لها خالد في رسالته إليه “هذه الجنة تنتظرُ شجرتها لتكتمل، أسرعي بالقدوم”، ومن المنظور الثقافي، يحصل كلّ منا على اسمه منذ اللحظات الأولى للولادة، وهي مفاهيم تتوارثها القراءات والثقافات، لأنَّ الاسماء تسمحُ بفتح قفل الصندوق، و(سدرة) هي بؤرة البعد الرمزي، فاسمها ذات محتوى يحملُ معه كلّ دلالاته، سلوكه، ورمزيته، فهي الشجرة البيضاء التي ما زالت تحافظ على نقائها، وتلعب شخصية (سدرة) دوراً في تحريك الأحداث السردية. ويتضحُ الزمكان في النصّ من خلال حضورها الذي ينهضُ بالصراع أو يكشفه إلى العلن، لتخرج حثالة القاع إلى الحاضر، وبحضورها أيضاً تنكشفُ أقنعة الشرّ وتداعيات أنظمتها: “كان يطلقُ النار على الأشجار ويتحداها أن تطير، فارتجفت الأشجار أمام ناظريها وبكت، ولم تحلق عالياً وتطير، …. ولكن سدرة صمتت بخوف”، فـ (سدرة) هي من تستلمُ هوية النصّ وتفتحُ مساريب القصة، الشخصية القصصيّة المنسجمة مع سياقها الاجتماعي ــ الديني، هي صوت الحق، وعبر صوتها تُقدّمُ الأصوات النشاز من حولها، هي الشاهدة على القهر والتجاوزات، هي الوجه المماثل لعفرين، هي دلالته، وكي يعمّق (خالد) من جرحها، يضربها حتى التعب، يعمّقُ من جرح المكان ومغزاه، فجرح سدرة هو الظاهر، وثمة جرح مُبطن آخر للمكان، وما عاد لصراخها صدىً، فهي ضحية المكان، الثقافة الدينيّة، الموروثات، والخرافات الشّائعة، فمنذ وصولها إلى عفرين، تغيرت أحوالها، وتحوّل حب خالد لها إلى شفقة وعطف، حيثُ بدأت تشعر؛ بأن ثمة آخرون يشاركونها البيت، وتحسُ بخطواتهم وتراهم وتسمع حواراتهم، ويبدو كلّ شيء أمامها غريباً ومخيفاً “ظهر لها أناس أغراب، أخذوا يزاحمونها في هذا المسكن، ويثيرون هواجسها بما يتحدثون به، بلغة غريبة لم يسبق لها أن سمعتها”، فما يتراءى لها لا يتراءى للآخرين المشاركين معها البيت، فهي أصبحت جزءاً من المكان، تشاركه الطقوس وتشعرُ بأصحابه، ثمة حالة من اللاشعور، حالة من التّخيّل يفعّلها القاص وإلا فكيف للمكان أن يصرّحَ بموجوداته، فالقاص يكشفُ عن الأعماق النفسية لـ (سدرة)، فهي البياض في كلّ هذا السواد والرماد الذي تمثله الأمهات من حولها، طالما هنّ ناقصات عقل: “سدرة كانت شجرة طيبة ودائمة الخضرة، جميلة ونضرة، فأمست في أيام قلائل جرداء يابسة”، فكان لابُدّ من حضور (سدرة) سواء في الجنة أو خارجها، لابُدَّ من بياض قلبها، حتى ينكشفَ لها الكثير من الحقائق، التي كانت ـ ربما ـ غافلة عنها، فيما يخصّ خالد وسلوكياته ومعاملته مع الجوار، وعن كلّ ما سمعت ورأت، عن أصحاب الرؤوس السوداء من حولها، وتتوضح صور الأشجار المتطايرة وهي تنوب عن أصحابها، فالرمز كمستوى فني من التعبير، وكمنفذ للتأويل وتوظيف للإيحاء الحرّ، يقدمُ القاص من خلاله مجموعة من العلائق التي تفصحُ عن بعض الازدواجية، وذلك من خلال توظيف للأسطورة أو بعض الخرافات، ليعرّي الشرخ الكبير في العقل، وليدينَ به الخرافات التي يتداولها البعض عن بعضهم، ويريدون توريثها للآخرين، تاركاً خلفه دائرة من الاستفسارات والآراء التي تُطرح تبعاً للمعتقدات: “أحاله القائد إلى شيخ الفصيل ودليله، الرجل الذي ينتمي إلى سكان هذه المنطقة ويعرفُ الجن وأنواعها، ويتقنُ اللغة التي تتحدثُ بها، ويحسنُ طردها من الأجساد، ومن مساكنها أيضاً”، فلغة الرمز هنا؛ لا تكتفي بأنها أداة للفهم والحوار والتواصل؛ بقدر ما هي لغة تعتمد على أسلوب الإيحاء عن الأفكار والسلوكيات التي تخصّ الشخوص، “فللوصول إلى الحقيقة، عمادها الاعتماد على الحقيقة الباطنية للإنسان لتوليد المشاركة الوجدانية بدلاً من التعبير عن حقائق الوجود الخارجيّة”.

يقول بول ريكور بأنَّ الرموز ذات بعدين، وعليه فإنَّ القارئ عليه أنْ يختطفَ المخفي من المعاني، فالشخوص تتداول في القصة ــ ودون ذكر الكرد ــ الإشارة إلى أبناء الجن، إذ إنَّ التسمية تُطلقُ عليهم، منذ قرون بعيدة، وتتداوله الألسن وبعض الشعوب، حتى تشكّلت لديهم المُخيلة الجمعية، بإنَّ النبي سليمان ألقى بخمسمائة من الأرواح السحرية التي تُدعى الجن إلى خارج مملكته، ثمّ انطلق هؤلاء الجن إلى أوروبا وقد اتخذوا لهم خمسمائة من العذراوات الجميلات، ثم استقروا في جبال زاغروس، كما وردت على لسان الكاتبة (مارغريت كان) في كتابها أبناء الجن، وعليه فالكُرد هم نسلُ الجن: “إنَّهم من نسل الجن، إنّهم قوم من الجن”، فالقاص يركنُ بقارئه إلى الحكايات الشعبية التي تمّ تداولها عبر التاريخ، وذلك عبر قرائن ومؤشرات تومئ إلى محمول رمزي وأسطوري عميق، فأبناء الجن كما ورد في الحوار الذي دار بين (الأب وأم خالد  وأم سدرة، وخالد) يُشكّلُ الرؤية المشوشة التي تسيطرُ عليها الخرافة، حيث تمثلُ الرؤية الضيقة عن الكرد :”إنَّ سدرة شجرة طيبة في أرض ملوثة بالملاحدة”، فالأماكن ترتطم ببعضها وتتبدّلُ صورها ويصيبها الصدأ “هم يتحدثون بلغة غريبة، لم يسبق لها أن سمعتهم، وما يفعلونه في الدار، وهم يتبدلون ويتخذون هيئات مختلفة الأشكال”، فلا يمكن قراءة الأحداث بمنأى  عن أبعادها الرمزية السياسية والاجتماعية، التي تشيرُ ولابُد إلى مأساة أهل عفرين، وعملية التهجير والقتل التي جرت لأطفالها، ونسائها، وعجائزها، تاركين أبواب بيوتهم مفتوحة وكل ذلك على أيدي شركاء في الوطن!.

2 ــ رمزية الأمكنة:

 يصنعُ القاص للمكان في سرده القصصي، شخوصه ولغته، وهو واضح المعالم، وفضاءه مفتوح لشخوصه الحقيقيين، فلا يمكنُ لهذه الشخوص مغادرة أمكنتها، إلا في حالة اقتطاعهم عنوة عنها، فالبيوت امتداد من سكانيها، وإن حدث؛ فالأرواح لا تغادر بيوتها، تبقى تتجول في زوايا الأمكنة، وتعودُ لذكرياتها وأشيائها المتروكة والمتوزعة في الحقائب والغرف: “طارت العجوز وحلّقت عالياً في سماء الحوش، تنتقلُ في الفناء، من مكان إلى مكان، ترجو سدرة أن تعتني بالمؤونة، وتنتبه إلى الجبن، فأحفادها كثر وسيعودون من المدرسة جياعاً، فقد مات آباؤهم في الحرب”، فتفاصيل المكان لا تشبههم، فعقربا غير عفرين، لكلّ مكان ثقافته وطقوسه الخاصة، والمكان ليس هو ذلك المكان الأنطولوجي فقط؛ بقدر ما هو ذلك المكان الذي يحمل معه إرثاً اجتماعياً ودينياً وثقافياً أيضاً. القاصُّ يضعنا أمام سرديّة لا تخلو من تساؤلات عن مفهوم التعدد والهوية، في مواجهة الهوية الغيرية، حيثُ المكان مُفرّغ من أصحابه، وتمّ تشريدهم في الخارج “هروب أبناء الجن إلى العراء حيثُ مساكنهم منذ الأزل”، حيثُ للمكان أحقيته لأصحابه، لمن شكّلَ لهم كينونتهم الأولى، فالقاص يعتمدُ الصورة الإيحائية للمكان، أرض أشجار الزيتون وأصولها، ولكن المستوطن لا يتقنُ لغتها، إلا سدرة، يقول خالد “هنا جنة ينقصها شجرة”، والقادم من المكان الآخر (عقربا)، مكان هو الآخر له رمزيته، فالرموز ليست عصيّة على الفهم، ولاسيّما العارف بالأحداث، فـ (عقربا) يمثل الخطر المحدق بالمكان الجديد، فعين عقربا على عين عفرين، والبون شاسع وقاتل، بين العين والأخرى، وثمّة اختلاف وخلاف بينهما، فالرموز جليّة وداميّة ويقدمها الكاتب دون قشور: “وضحكَ بانتشاء وهو يروي لها الجهاد الذي مارسه هو ورفاقه مع جنيات كثيرات”،فالرمز كما يقول الناقد الأمريكي بلاكمور “ليس بالنسبة إلى ما قيل وما قرر، وإنما بالنسبة إلى ما لم يقل وما لا يمكنُ قوله، فهو لا يرمز إلى شيء معروف من قبل، ولكن لشيء يوجده الكشف ويكاد ينكشف”، حيثُ اللغة أداة توصيل تشقُ للمكان ممرات للحديث والتعبير، لغة تتناسق مع الأمكنة ومعانيها، بعيداً عن تصريح أو مباشرة.

3 ــ رمزية الحيوان والنبات:

 يُشكّلُ اللغز عنصراً من عناصر بناء السّرد،ولابُدّ من إحالة هذه الشيفرات الثقافية والدينيّة إلى أشياء معروفة سلفاً،فالأسماء تحمل دلالات مختلفة عن دلالاتها المكشوفة في اللغة، بعد أن تحوّلَ الرمز كلغة خطاب للتواصل، ولأنّ أيّ ثقافة تنشئ لها منظومة من الرموز، تكون بمثابة صور ومفردات يدركها ويفهمها المرء حتى دون لغة منطوقة وواضحة. هذه الرموز تعبر عن سلوكيات، أفكار، ووعي الإنسان، يقول محمد غنيمي هلال: “إنَّ الرمز هو الإيماء والتعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة، التي لا تقوى اللغة على أدائها في دلالتها الوضعية”، وبذلك يبقى الرمز؛ المصطلح المفتوح والقابل للتأويل فيه أكثر مما هو مفتوح للشرح والتحديد،  وحتى يُبْعِدَ القاص الصدام بين الأمكنة ومستوطنيها الجدد، وتداركاً للزوبعة ومتغيراتها، يستدلّ بالرموز مثل الحمام، الجراد، وأشجار الزيتون وأغصانها، فللزيتون رمزية ومخزون ديني، ووطني، وتراثي منذ الأزل، كما له قدسيّة في أغلب النصوص الدينية السماويّة، وكذلك في الثقافات الإغريقية، وقديماً عند الفراعنة أيضاً. كما لأغصان الزيتون دلالات عميقة، محمّلة بمعاني التعب والشقاء، والحزن والدم، يقول رولان بارت في لذّة النّصّ: إنَّ الرمز الإسلامي من شأنه أن يحققَ داخل الحشد اللغوي للنصّ حالة من الكيمياء الخياليّة لمادته اللغويّة المتحيّزة وهو بذلك يمثل بحضوره الحضاري انبثاقات مستقلة، فالقيمة الجمالية في تصوير أشجار الزيتون وهي تطير وتبكي، والمشحون بالحس العالي، بتقنية الاستعارة والتشبيه “الأشجار تبكي، أشجار الزيتون تبكي يا أمي، الأشجار ترتجفُ، الأشجار تحلقُ في السماء، السماء تُمطرُ زيتاً أحمر، حبات الزيتون تسقط مثل الحصى، وتنزف، إنها تنزف”، فالقيمة الإشارية في الصورة السّابقة، هي نفسها الصورة المطعونة في أصلها، صورة عفرين، وهي تُجز في كامل جغرافيتها، الصورة التي تتكرر على مرأى العالم، الذي يتلذّذُ بمتاجرة أشجارها وزيتها، ونزوح أصحابها، في وطن مباحُ، ومدينة اشتبهوا بأنها أرض الحوريات، الزيت الذي كان دواءً وفرحاً، يتحولُ إلى دمٍ يُهدرُ على أرضه، والأغصان التي كانت رسائل للحياة، استحالت إلى طوفان، على أثر إعلان غزو الجراد للمكان، بحضورهم كان النزوح والشتات، ثمّة من خانتهم الشعارات والتفاسير، فبدّلوا الحياة بجماجم، وأهواء وشعائر، حتى سقطت الحمامة وقد اصطبغ بياض الجسد بالسائل الأحمر، سقط المكان وسقطَ غصن الزيتون معها، إنها ارتحالات بين الدّال والمدلول، وكأنَّ النصّ هو تحفيز لنصّ آخر غائب، أو لسرديّة غائبة، ولكنها حاضرة وبقوة في موضوعها.

4 ــ رمزيّة العنوان:

العنوان كعلامة سيميائية، وكعتبة نصيّة أولى يمثّل السؤال الإشكالي/ الملتبس، سواء لدى الناقد أو حتى القارئ لذلك من الضرورة قراءته من وجهة نظر فنية وجماليّة. فالعنوان يؤدي مجموعة وظائف إيحائيّة وربما أيديولوجيّة ودلالية عميقة، يقول كلود دوشيه؛ بأن العنوان عنصر من النصّ الكلي الذي يسبقه ويستذكره في آن، بما أنه حاضر في البدء، وخلال السرد الذي يدشنه، فهو يعمل كأداة وصل وتعديل للقراءة، فإلى أي مدى كان العنوان (مأساة عائلة الأشجار) تتويجاً للنصّ؟ والعنوان من حيثُ إنّه عنوان قائم على تركيب اسمي وإضافي في الوقت ذاته يؤكد على فاعليّة القهر والمأساة التي طالت العوائل في عفرين، فثمة مأساة هناك، وهذه المأساة تطالُ العائلة، والذي يتوجبُ فيها التواصل والوئام والترابط فيما بينها، ولكن ثمّة أمر حدث، فكان الانفصام والقهر والتفكك. والبحث في ماهية مأساة العائلة، هي مأساة عائلة الأشجار بعينها، والمتوزعة على كامل أرض عفرين، كما أن القارئ يكتشفُ لاحقاً؛ إنّ القاص لم يتطرقْ إلى استخدام العنوان بملفوظه الكلي على كامل جسد النصّ، بقدر ما اكتفى بالإشارات التي تَردُ بين جملة وأخرى عن التمزق، والانكسارات التي أصابت العوائل التي نزحت من بيوتها، ثم ليعرفَ وطأة المأساة التي حلت بالأشجار وأصحابها. طالما كانت الأشجار معقلَ الإنسان وملجأه في مواجهة الخوف، وأشجار الزيتون تتحول لحصى في وجه المستوطن الجديد، تنزفُ وتبكي، فالقاصّ يستنطقُ الأشجار ــ العائلة الغائبة ــ فهي تنوب عن أصحابها، فها هي تتعرض للضرب والاغتصاب. هذا التحوّل الذي يجريه القاص على الأشجار؛ من كائن صامت، معطاء، لكائن متحرك، يبكي، ينزف، يرتجف، وذلك بتقنيّة الرمز، إذ يستعيرُ حالة أصحاب الأشجار التي ما برحت أمكنتها رغم كلّ الندوب على أيدي مغتصبيها الجدد، وما هي إلا استحضار للإنسان الشرير، عندما يتجاوز في ظلمه ويمدّ بأيديه إلى ما ليس له حقّ فيه، فأشجار الزيتون لا تموت، وبعيداً عن فنيّة العنوان، فإنَّ القاص يحاول أن يربط بين الأشجار وأصحابها بعلاقة تأثير وتبادل بكمّ من المشاعر الداخليّة، وذلك بلسان الأشجار، فأشجار الزيتون هي الهوية الأولى للمكان وسرّهِ.

وبعيداً عن العمق الجمالي والطبيعي، فللشجر دلالته الإنسانيّة والروحيّة العميقة والمتجددة، فهي رمز للحياة والخلود والجنة. وللأشجار تجليات متنوعة، وهي صورة الكائن البشري في تحولاته، وقدرته الكبيرة في التمسك بأرضه ووجوده، فالتماثل هنا بين المادي والواقعي وبين الحسي واللامرئي، فثمة تضامن بين الشجر والكائن البشري، كدورتين متممتين لبعضهما، كما ورد في المفهوم الرمزي لها، فـ “مأساة عائلة الأشجار” صورة رمزية مركبة يتجاوز فيها القاص الواقع ومجرياته، إلى صور يقدمها عبر الخيال، وذلك لإثارة النفس، وترجمة معاناة أهل الأرض التي أُخرجوا منها بسلطة السلاح، وما المأساة إلا نتيجة الرّكام الذي تركه المستوطن الجديد، فللأشجار أرواحٌ تحرس وتنوب عن أصحابها، وبحضور المأساة تتعطّلُ الدلالة المعجمية/ اللغوية للأشجار، وتنهض الدلالات المشخصنة، فها هي تحزن وتبكي على المهجّرين، وتجلى الإبداع السّردي في الإسقاط الواقعي لكارثة أهل عفرين وخساراتهم، وتشخيصها على جسد/ لسان الأشجار، وبحضور  فمهمة القاص لا تقتصرُ على إبراز فنية الصورة أو جماليتها، بقدر ما يدفع القارئ ليأخذ من العنوان المغزى والمأساة من القصة.

خاتمة: 

  وبتساؤلات عميقة ينهي القاص الحدث، لعلّ القارئ يستشفُ أسراره من اللغة الرمزية، التي وظفّها القاص في تفعيل الشخصيات، للكشف عن أفكارها، وعن المضامين وإجلاء الغموض، وهو ليس بالأمر المستعصي على القارئ المتأمل، أن يقرأ في مرامي النص، في فضحِ الأصول القائمة على العتمة والرايات السوداء، واستئصال الخراب والاضطهاد والفساد الذي سادَ البلادَ/ سوريا، وتركها لمن ينهشُ فيها بالفوضى، لثلة من شذاذ الآفاق، يتخبطون في رؤاهم بعد أن فقدت الأغلبية أحلامها، وشاعت الغطرسة مع تكميم الأفواه، والعبث بالحريات.

 في نصٍّ سرديّ/ قصصي يترك القاصُ الخاتمة مفتوحة أمام قارئه، فللحقيقة وجه آخر، كما للجنة باب واحد، فنحن أمام نصين، نصّ ظاهر كُتبَ، والآخر غائر لم ينته بعد.                                           


* أحمد إسماعيل إسماعيل: مأساة عائلة الأشجار، مجموعة قصصية قيد الطباعة والنشر، القصة من أحد العناوين القصصية في المجموعة بذات العنوان.