نور عباس، كاتبة وناقدة سورية، ماجستير أدب عربي
مجلة أوراق- العدد16
أوراق النقد
إنّ الرواية ذات بنية افتتاحية تراجيدية؛ إذ تبدأ، مباشرة، بحدث مركزي مأسوي وهو موت كينكاس هدير الماء، مذكرة إيانا بإشكالية الوجود الإنساني المؤقت، وعمرنا المحدود المعادل للحظة سريعة من عمر الكون. هذا الحدث التراجيدي المؤثر سيكون عنصر انطلاق لاكتشاف تاريخ حياة كينكاس الجدلية، إذ سيقوم الراوي العليم بعملية سردية استرجاعية لينقل لنا تفاصيل حياة كينكاس قبل الموت، فقد تعرض كينكاس لعملية تحولية ثقافية جوهرية، إذ تمرد على نسقه الثقافي النمطي وغادره إلى نسق ثقافي مضاد، وهذه العملية التحولية الثقافية تمت في عمر متأخر (في الخمسين تقريباً)، ذلك العمر الذي قلما يغير فيه الإنسان رؤاه التي تجذرت خلال تجربته الحياتية الطويلة، أضف إلى ذلك أن هذا التحول النسقي حدث دون أي فهم دقيق للسبب المركزي له، فأهل كينكاس لم يتمكنوا من تحديد العلة العميقة لمغادرته نسقهم الآمن والمطمئن إلى نسق آخر إشكالي، وذلك لأن التحولات الإنسانية، غالباً، هي تحولات ناجمة عن أسباب تراكمية معقدة، مما يجعلنا نرى التحول في صيغته النهائية الظاهرة ونكون عاجزين عن فهم مجموع الأسباب الخفية والعميقة المؤدية إليه.
فكينكاس عاش نقلة تحولية عنيفة من نسق تقليدي عائلي مقبول اجتماعياً إلى نسق تمردي استثنائي شاذ اجتماعياً، وهذه النقلة التحولية العميقة سببت حرجاً لعائلة كينكاس الأصولية، مما دفعهم إلى التنصل منه، وتجنب ذكره أو الانتساب إليه، أي غدا منبوذاً من دائرته العاطفية الأولى، ليصبح، عوضاً عن ذلك، محط إعجاب وتقدير أصحابه في النسق الجديد، وكأن كينكاس استبدل الدائرة العاطفية الداعمة المحيطة به بدائرة أخرى مختلفة ثقافياً وسلوكياً وذات قدرة هائلة على تعويضه عن كم العواطف الداعمة المفقودة نتيجة تحوله.
ومما يلفت الانتباه في هذه العملية التحولية الثقافية أن الذات المتحولة ثقافياً لم تكن الابن بل كانت الأب، فقد اعتادت الذهنية على أن التمرد يصدر من الأبناء ويثير سخط الآباء غير أن التمرد في الرواية كان نابعاً من الأب وأثار سخط الأبناء، فحدثت علاقة تبادلية جوهرية بين الأبوة والبنوة بينت استثنائية السلوك الإنساني وعدم القدرة على توقعه وتمرده دوماً على الصورة المحفوظة ذهنياً. ويمكننا أن نلحظ أيضاً أن اسم البطل قبل انزياحه عن نسقة الأول هو جواكيم، ولكن بعد التحرر من هذا النسق أصبح اسمه كينكاس هدير الماء، فالانسحاب من النسق الأول كان انسحاباً كلياً عنيفاً; إذ لم يغادر النسق فحسب بل غادر أيضاً ذاته الأول جواكيم، وأصبح ذاتاً أخرى معربدة لها عنوان جديد كينكاس هدير الماء.
وقد أثر هذا التحول النسقي لكينكاس في رؤيته لطريقة موته، فالموت حدث متخيل قبل أن يكون حدثاً واقعياً معاشاً، فكل شخص يمكن أن يتخيل طريقة موته بناءً على نسق حياته وظروف مجتمعه، وقد تخيل كينكاس موته بصورة استثنائية شاعرية بعيدة عن طقوس الموت النمطي، فهو لا يريد موتاً عادياً في فراش المرض بل يريد موتاً فريداً من نوعه، فيدفن بين أمواج البحر مبتعداً عن الطقوسية المعتادة للموت، ولكن موته الواقعي كان موتاً نمطياً، إذ وجِد صباحاً في فراشه مودعاً الحياة، وهذا الموت حرك الذوات المعبرة عن النسقين المختلفين، فأهل كينكاس أرادوا له طقوساً جنائزية نمطية، تعيده إلى صورته الأولى قبل مروره بتجربة التحول النسقي، فاهتموا بهندامه الذي سيغادر فيه الحياة وطقوس جنازته، أما أصدقاؤه فأرادوا له طقوساً جنائزية استثنائية تتطابق مع الطقوس التي تخيلها قبل موته، كما وجدوا أن هذه الثياب التي ألصقها به أهله هم أحق به من الدود الذي سيلتهمها، فنزعوا عنه -بعد أن غادر أهله- ثياب النسق النمطي وأعادوه إلى ثيابه الرثة، ليصحبوه بعد ذلك في رحلة بحرية، وفي أثناء هذه الرحلة البحرية حدثت عاصفة عنيفة أدت إلى اختفاء جثة كينكاس وتحول موته من موت نمطي إلى موت طقوسي أسطوري، وهذا الانتقال الأسطوري له عاملان: أولهما؛ التضارب حول مصير جثة كينكاس، إذ لم يعرف أصدقاؤه على وجه الدقة مكان اختفاء الجثة. ثانيهما؛ الإسقاطات التخيلية؛ فهذا الاختفاء العنيف لجثة كينكاس في أثناء العاصفة جعل أصدقاءه يقومون بإسقاطات تخييلية، إذ ذهبوا إلى أن كينكاس قال عبارة أو بيتاً شعرياً قبل اختفائه بين أمواج البحر، وهي: “سأدفن كما أشتهي. في الساعة التي أشتهي. يمكنكم أن تحفظوا تابوتكم إذن لميتة جديدة وميت جديد. أما أنا فلن أترك أحداً يحبسني في قبر أرضي ذليل”. فالتضارب والإسقاط التخييلي أعطيا قصة نهاية كينكاس طابعاً أسطورياً، وجعلاها قصة متداولة تمنح ذكرى وجود كينكاس صفة أبدية راسخة من خلال حضورها الاستثنائي في ذاكرة الأجيال.
في النهاية نجد أنّ كينكاس الذي دافع عن سلطته على جسده بعد وفاته وألح على تنفيذ نهايته الوجودية المتخيلة يحفزنا، نحن القابعون في هذا المكان الطافح بالموت، على رفض هذا الموت الدامي المفروض علينا والدفاع عن حقنا في تخيل موتنا كما نشتهيه.