دفاتر المجانين

0

غسان الجباعي

كاتب ومخرج مسرحي، درّس مادة التمثيل، والإخراج، والمختبر المسرحي، في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، أخرج عدداً من الأعمال للمسرح القومي والفلسطيني، وكتب عديد المسلسلات الدرامية للتلفزيون. صدرت له أعمال قصصية ومسرحية وروائية وفكرية، حصل على جائزة ربيع المسرح في المغرب 1993، عن عرض مسرحية “الشقيقة” وجائزة المزرعة عن رواية “قهوة الجنرال”

أوراق 11

ملف أدب السجون

كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة

النّفري

إن أبلغ الأحرف وأصدقها، تلك التي حُفرت على عجل، بمسمار صدئ أو شظية حجر، فوق جدران الزنازين وأبوابها، أو تلك التي اضطر صاحبها لكتابتها بدمه النازف من جروح حفرتها سياط الجلادين على ظهره وقدميه… اسم وتاريخ، أمنية أو حكمة أو مقولة مختصرة وحسب… أحرف وإشارات قليلة نابعة من قلب القلب، هي ليست أدباً، لكنها في الجوهر، بذرة الكلام وجذره وأوراقه، إنها التعبير، مختصراً إلى أبعد حد، صادقاً جداً، وواضحاً كالنار في الليل…

هل يفعل المعتقل ذلك، لأنه يجد نفسه في مواجهة الموت أو المجهول، في مواجهة التهميش والقتل البدني والمعنوي.؟ ربما، فالداخل إلى المعتقلات السورية مفقود، والخارج منها مولود، كما يقول المثل السوري، وهو في الواقع مختطف أو مغيّب، وليس معتقلاً سياسياً! ومصيره مجهول كأي شخص يعارض النظام أو ينتقده أو يقول له: لا.!

هل هو إثبات للوجود إذاً، أم أن الوجود يندمج مع التعبير، لدرجة أن من يفقد التعبير عن نفسه يفقد الإحساس بوجوده.؟

هناك، يحولونك -منذ اللحظة الأولى- إلى رقم مجرد، ويصبح اسمك، ليس فلان الفلاني، بل الرقم كذا! وهذا يعني أنك بتّ في مهب الريح، وصرت شيئاً لا قيمة له، فتتولد لديك طاقة الإنسان الجبارة للتحدي، لإثبات وجوده وهويته، ما يدفعه إلى البحث عن أي آلة حادة، وإن لم يجدها حفر بأظافره، وإن لم يستطع، غمس إصبعه بدمه وكتب اسمه وتاريخ وجوده على جدران هذه الزنزانة القذرة..

إنها واحدة من أهم دوافع الكتابة، كما أظن (التحدي، إثبات الذات والتعبير عنها).

فيما بعد، يتأصل هذا الدافع، يصبح موازياً لدافع الأكل والحب والحياة والجمال… تصبح الكتابة ممارسةً افتراضية للحرية، بل هي ممارسة فعلية، لا يمكن العيش دونها.! لكن كيف تكتب وأنت لا تمتلك أدوات الكتابة.؟ أنا واحد من مئات الذين اخترعوا أدواتٍ للكتابة داخل معتقل محروم من أبسط الحقوق، بما في ذلك قراءة الصحف. مكان مغلق، تمنع فيه الزيارات والأوراق والأقلام..

اخترعنا أقلاماً من عظم وكتبنا بواسطة الضغط على أوراق السجائر (الميغا)، كما صنعنا أقلاماً من تلك الأوراق الكربونية، وكتبنا ما نشاء على أغلفة السجائر الداخلية البيضاء؛ حتى سمحوا أخيراً بالزيارة والقراءة والكتابة.. لم يكن بيننا أميّ واحد، كلنا كنا نجيد القراءة، وبعضنا يتقن الكتابة أيضاً، فماذا تفعل بهذه الطاقة الجبارة؟ لقد تحولت بسهولة إلى شعر وقصة ورواية وخاطرة… وما إن نشرت، حتى أطلقوا عليها اسم “أدب السجون”.! وقد استفاد كثيرون من هذه التسمية، وكتبت عنها المقالات والدراسات المبعثرة، وباتت موضة دارجة في وسائل التواصل الاجتماعي، والقنوات الفضائية شرقاً وغرباً، مستغلين عذابات المعتقلين وأهلهم، التي تحولت -للأسف- إلى تجارة رابحة إعلامياً وسياسياً، وربما مادياً… علماً أن هذه التسمية “أدب السجون” ليست صحيحة أبداً! فـ (السجناء) المحكومون بحكم قضائي، وإن كان جائراً، بسبب جريمة قتل أو اغتصاب أو سرقة أو تزوير، أو أي جرم جنائي آخر؛ يختلفون عن معتقلي الرأي، المعاقبين بسبب معارضتهم أو مطالبتهم بالحرية. قد تكون الظروف الإنسانية واحدة، لكن أسباب حجز السجناء القضائيين وطبيعة عيشهم داخل السجن، وبنيتهم الفكرية والثقافية والاجتماعية، مختلفة تماماً عن معتقلي الرأي. فالسجناء هم أفراد اقترفوا ذنباً، ولكل منهم قضية خاصة به، وحكم محدد يشمله وحده، وهم أنانيون بطبعهم، يعيشون داخل السجن بمعزل عن الآخرين، لا يهتمون إلا بخلاصهم الفردي، ولا يلتفتون إلى القضايا العامة ومشاكل الناس، الاجتماعية والسياسية… وهم -أيضا- مرفّهون، يملكون أغلب الحقوق، حتى الكمالية منها، مثل التلفاز والبراد والمروحة، وغيرها، حتى أن بعضهم يحصل على طعامه ساخناً ومن أرقى مطاعم المدينة، كما ينتشر بين بعضهم تعاطي المخدرات والحشيش والرذيلة… وهم لا يفقدون الأمل بالخروج من السجن، حتى وإن كان الحكم مؤبداً، وذلك عن طريق الرشى والمحسوبيات والعفو العام الذي يصدر بحقهم دورياً. ثم إن أكثرهم من المسحوقين المهمشين، غير المتعلمين، وربما الأميين… وهذا كله لا يقلل من شأنهم ومن قيمة تجربتهم الإنسانية وحياتهم المأساوية التي لا تخلو من الإبداع أحياناً.

أما معتقلو الرأي الذين يتم اختطافهم -عادة- إلى أماكن (مجهولة)، وبشكل جماعي، ومن دون مذكرة توقيف أو حكم قضائي، وبلا ذنب يذكر، وإلى أجل غير مسمى؛ فهم بحكم المغيبين قسرياً، وهم مختلفون تماماً عن السجناء المرتكبين.. ويكونون -في الغالب- من فئة المثقفين المنتمين إلى أحزاب سياسية، المهتمين بالقضايا العامة، الوطنية والاجتماعية، على حساب حياتهم الشخصية. إنهم المدافعون عن الحق، الباحثون عن الحقيقة، الحالمون، ليس بإخلاء سبيلهم وحسب، بل بعالم جديد يسود فيه القانون والعدالة والمساواة… وهم لا يُمنحون أبسط حقوق الإنسان، وتجمعهم قضية واحدة وهدف واحد، وإن اختلفت أحزابهم، ويعيشون حياة جماعية داخل المعتقل، لا فرق يذكر بينهم، سواء كان طبقياً أو اجتماعياً، ويكون مطلبهم الأول داخل المعتقل، الحصول على الجرائد والمذياع والأوراق والأقلام والكتب… وسرعان ما تتحول مهاجعهم إلى مكتبات.

لذلك، نسميهم معتقلين وليس سجناء، والمكان القذر المعتم البائس الذي يحتجزون فيه، يسمى معتقلاً وليس سجناً، وبالتالي، يجب أن نطلق على تجربتهم الإبداعية اسم: أدب المعتقلات، وليس أدب السجون.

والسؤال، على أي حال: هل تتميز هذه النصوص التي كتبت داخل المعتقلات أو السجون، عن تلك التي كتبت خارجه؟ والجواب: نعم، بالتأكيد، لأن أدب المعتقلات يتم إنتاجه في ظروف استثنائية قاسية، وفي مكان منقطع عن الواقع والعالم؛ توقفت فيه الذاكرة والزمن عند تلك الصور الأخيرة التي عاشها المعتقل قبل أن يضعوا “الطميشة” على عينيه ويدفعون به إلى العتمة، فهو يعيش مع الجميع، لكن بمعزل العالم (والفرق كبير طبعاً بين المنعزل في برجه العاجي، وذاك الذي يعيش قضية عادلة في قفص من حديد)! وأدبه يتسم بالمسؤولية والإصرار على استعادة تلك الذاكرة (الحياة الحرة المفقودة)، والانتماء للزمن والضوء، وتحدي الظلم والذل الذي لا نجده، حتى عند كاتب حر يقف في مواجهة الدكتاتورية والطغيان..

ويتسم إبداعهم -أيضاً- بالعاطفة الصادقة والوعي، وبالشوق والحرمان والتأمل والأمل، فيأخذه هذا كله نحو السخرية أو الرومانسية والحلم (السريالي).. كما يتسم بالخيال الجامح والتجريب المتمرد الرافض للقوالب الأدبية السائدة. ناهيك عن أن المعتقلين لا يشعرون بالندم الذي يصيب المجرمين العاقلين عادة؛ بل بالفخر والاعتزاز، لأنهم مناضلون في سبيل قضية عادلة، هي قضية الجميع، ومحترمون من قبل أهلهم ومجتمعاتهم. أما المعاناة (وهي شرط ضروري لازم للإبداع)، فهي علامة مميزة لهذا النوع من الأدب، إنها ممزوجة بالتجربة المرّة، نابعة منها، مفصحة عن تفاصيلها، وإن اختلفت القدرة على التعبير عنها، بين كاتب وآخر… كما يجب ألا ننسى أن أغلب من كتبوا داخل المعتقل، هم من الهواة الذين لم يسبق لهم أن جربوا الكتابة أو النشر، قبل اعتقالهم، فتأتي نصوصهم جديدة تجريبية مفاجئة ومتنوعة في أشكالها ومضامينها.

 لكن أكثر ما يميز هذا النوع من الأدب، هو فضاء الحرية الداخلية المتاح للمعتقل.! وقد تستغربون إذا قلت: إن المعتقل أكثر حرية من الحر، لأنه ليس لديه ما يخسره، أولاً، وليس لديه ما يكسبه أيضاً. إنه لا يزاحم أحداً على سمعة أو مركز، ولا يخشى من الرقيب الذي يتربع في رأس الكتّاب السوريين، حسبه أنه يفرّغ طاقة كامنة فيه، و”يتسلى”، وهو لا يطمح إلى النشر، ولا إلى الشهرة أو المال… تصبح الكتابة غاية بحد ذاتها، وتتحول إلى عملية مصيرية بالنسبة إليه، أو إلى هوس وخشبة خلاص للخروج من الظلمة.! إنه يكتب كي يبقى مضيئاً، وكي يبقى على قيد الحياة..

أما الجرأة والتجريب والرغبة في الاختلاف، فليست نابعة من الإصرار والتحدي وإثبات الذات فحسب، بل تنبع -أيضاً- من شعور عميق بالغبن ورغبة في التغيير و”الثأر” -جمالياً ومعرفياً- من سجانيه وظالميه.. يريد أن يثبت أنه إنسان حقيقي وأنه الأجمل والأرقى! فالسجن كما ينبش أقبح ما في البشر، يحرض -بالمقابل- أجمل ما فيهم، ويحرر طاقاتهم الإبداعية إلى أبعد حد ممكن. لذلك، نجد أن كثيراً منهم اكتشف موهبته داخل المعتقل، ولولا ذلك ما علم أنه شاعر أو ناقد أو موسيقي أو نحات موهوب.. وهو لا يقبل أن تكون هذه الموهبة أقل شأناً وتأثيراً من موهبة غيره من الكتاب والنقاد والفنانين (حتى المعروفين منهم)، أو أن يكون إنتاجه أقل جمالاً وأهمية، رغم الظروف القبيحة التي يعيشها…

لكن، هل استطاع الكاتب المعتقل أن يقدم هذا العالم القبيح البائس بالصورة الجمالية المرجوة؟

من السهل أن نقول: نعم، لكن الجواب المسؤول يحتاج إلى بحث كبير وعميق…

يمكنني -في هذا المقام- التحدث عن نقطة واحدة جوهرية هي أن أدب المعتقلات -غالباً- قابَل الألم والحرمان بالشكوى والتذمر، واكتفى -ردّاً على البشاعة- بفضحها واستنكارها! فقد ردّ على الخسة البشرية بوصفها وإظهارها للعلن! وهذا ليس بالقليل طبعاً، لكنه لم يخرج -إلا نادراً- عن الانفعال بما حدث من بطش وتجاوزات، فانشغل بوصف طرق التعذيب وقسوة الجلاد وضيق المكان وقذارته وانحطاطه، وعبّر بإسهاب عن توقه للحرية وشوقه للمرأة والأولاد والأهل، ملامساً بذلك السطح، مبتعداً عن اللب الداخلي لفكرة الحجز والقهر… فهو -حسب ظني- لم يواجه العزل بالوصال الروحي، ولا ضيق المكان برحابة الوجود والتأمل الفلسفي، ولا قسوة السجن بالحنين الإنساني إلى الحرية والعدالة، ولم يركز على عظمة الإنسان ووصف عذاباته الجسدية بالمعنوية، أو بالعالم الداخلي الغني للنفس البشرية…

قد يسأل البعض: وهل كان لدى المعتقلين هذا الترف الفكري والفلسفي؟ هل كان لديهم متسع من الوقت.؟ وهل كانت هذه الرؤى والتأملات ضرورية لهذا النوع من الأدب؟ ألا يكفي أن يكتبوا على الجدران وأبواب الحديد وأوراق السجائر أسماءهم وتواريخ اعتقالهم وعذاباتهم.؟؟ والجواب: نعم، ضرورية بالتأكيد، ليس لأن ما قرأناه (وما سوف نقرأه في السنوات القادمة)، غير هام أو مؤثر في المشهد الأدبي السوري، بل لأن الأدب يجب أن يكون فاعلاً لا منفعلاً، وقادراً الارتقاء إلى حجم ومستوى هذه المعاناة الإنسانية العظيمة، كما ارتقت أساطير الأولين أمثال: جلجامش وبرمثيوس وإيكاروس وسيزيف.. أو كما عبر عنها وخلدها فيدور دستويفسكي وشارلز ديكنز ويلماز غوني وحسين بن منصور الحلاج وأبو العلاء المعري وغيلان الدمشقي وعماد الدين النسيميّ والسهرورديّ القتيل، وغيرهم ممن ضاقت بهم الأمكنة فوسّعوها بالرؤى والتأملات الفلسفية والصوفية العميقة.

دمشق/ صحنايا 14.11.2020

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here