دارا عبد الله: فيودور دوستويفسكي.. فلسفة الشعور بالذنب

0

من المقولات الأساسيّة في مشروع الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي (1821-1881) الأدبي، أنّ الشعور بالذنب ليس عنصراً عابراً في الطبيعة البشريّة، بل أساس الوجود كله. شبّه ألبير كامو، وهو أحد أهمّ قرّاء دوستويفسكي، في رواية “السقطة” ألم الشعور بالذنب، بغرفة تعذيب كانت موجودة في القرون الوسطى، إذْ صُمّمَت بحيث لا يقدر السجين المؤبّد على الوقوف أو التمدّد بشكلٍ كامل فيها.

اختبر دوستويفسكي – الذي مرّت مند أيام ذكرى رحيله الـ 140 – مشاعر الذنب مبكّرًا. في السابعة عشرة من عمره، توفي والده. “النبيل الأدنى” والسكّير المعروف بالشراسة وسوء معاملة محيطه الاجتماعي، قُتِل غالبًا على يد أقاربه. ولمّا توقّفت كلّ الإجراءات القضائيّة التي كانت تحقق في ملابسات مقتله، ظهر الفراغ الرمزي الداخلي في نفس الشاب، وكرّت الأسئلة حول الذنب في مقتل والده. من يتحمَّل الذنب، الأب الطاغي المتجبّر على الفلاحين، أم الفلاحون الضامرون للكراهية. من تلك اللحظة، انشغل المراهق في فهم الشعور بالذنب داخل النفس الإنسانيّة، كدافعٍ بشري غامض. يشير إلى هذا الغموض في إحدى مراسلاته: “الإنسان سرّ، وسأبقى مشغولاً بهذا السر، لأني أريد أن أكون إنسانًا”.

في سنوات شبابه الأولى، انضمّ دوستويفسكي إلى جماعة الاشتراكيين الطوباويين، وهي حركة أدبيّة ازدهرت في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، كردّ فعل على ازدهار المدن وهجرة الطبقة العاملة من الأرياف. احتجّ بغضبٍ على ممارسات الحكم القيصري والعبودية السياسية ونظام الرقابة. في عام 1849، اعتقل وحكم عليه بالإعدام. في يوم الإعدام تمامًا، تم تخفيف العقوبة وتجزئتها إلى مرحلتين: أربع سنوات من العمل الشاق في معسكرات العمل، وستّ سنوات من المنفى الإجباري بسيبيريا. في إحدى لحظات التعب الجسدي المطلَق، كتبَ في رسالة لأخيه: “لم أشعر قط بالصفاء الداخلي الروحي، كما أشعر به الآن”. وجد دوستويفسكي في المحاكمة تخلُّصاً من سؤال مراهقته، وكأنّ قضاء العقوبة سيحرّره من مسألة أكثر جوهرية: الشعور بالذنب.

لم يعش دوستويفسكي حياة الكاتب المنعزل، كان حيوياً وعلى تماس مستمرّ مع الناس. في إحدى رسائله، يقول بأنّ التواصل الحسّي المباشر مع البشر ساعده في التفريق بين شيئين: التحرّر من الذنب الداخلي، والبراءة أمام القانون. في كلّ مشروعه الأدبي، لا تأثير للبراءة أمام القانون على فعاليّة مشاعر الذنب داخل نفس المرتكِب، المسألتان مختلفتان. ولأنَّ السرّ هو في نَفس القاتل فقط، حاول أكثر اكتشاف “قارّة النفس”. قارَب مشروعه جرائم قتل مختلفة: القتلة المثقفين في “الجريمة والعقاب” والقتل لأسباب سياسيّة في “الشياطين” والقتل بسبب الشّغف العاطفي في “الأبله” وجريمة قتل الأب في “الإخوة كارامازوف”.

وتستجيب مشاعر الذنب بشكل مختلفٍ في كلّ جريمة. طبعًا من الضروري التأكيد على بديهية أن دوستويفسكي ليس كاتب “روايات بوليسية” أو “أدب جريمة” على الإطلاق. التقط فرويد السجال النفسي داخل أبطال رواية “الإخوة كارامازوف” بشكل مبكّر جدًا، وتأثرّ بفكرة أنّ جميع الأولاد متورّطون في مشاعر الذنب إزاء مقتل والدهم. في مقالته التي نشرها عام 1928 بعنوان “دوستويفسكي وجريمة قتل الأب”، أعلن فرويد أن جريمة قتل الأب هي الجريمة الأساسيّة والرئيسية للبشرية والفرد.

في الأمثلة الملموسة ما يوضّح أكثر. الطالب الجامعي السابق، راسكولينكوف، بطل رواية “الجريمة والعقاب”، يقتل مرابية عجوز مع أختها. المثقف الطوباوي الحالم يقتل بدم بارد وبدون ضمير لأجل كسب بعض المال. ورغم الوصف المنطقي لكل المحاولات التبريريّة التي يحاول راسكولينكوف تقليبها داخل رأسه، كي يجد مخرجًا منطقيًا يبرّر عملية القتل، إلا أنّ الشعور بالذنب يسدّ طريق أيّ محاولة تبرير. مسار الرواية هو فعليًا مسار الاعتراف بالذنب. الاعتراف ليس بمعنى التوبة المخدّرة للضمير أو الانكشاف المغذّي للنرجسية. خلال الرصد النفسي الدقيق لطريق الاعتراف بالجريمة، يفنّد دوستويفسكي بشكل أساسي نظريتين فلسفيتين كانتا سائدتين في عهده.

الأولى هي تبرير إزهاق الحياة باسم الأيديولوجيا، وكانت وقتها شعارات المعاناة الاجتماعيّة ومحاربة الهيمنة الثقافية. والثانية النظرية النفسيّة التي دافعت عن براءة بعض المجرمين، لأنّهم ارتكبوا جرائمهم تحت “نوبات جنون مفاجئة”. القاتل في “الجريمة والعقاب”، ليس مجنوناً، بل يخطط ويفكّر وله نيّة ووكالة على قراره، لدرجة أنّه يسلّم نفسه في النهاية إلى الشرطة. وموقف دوستويفسكي بهذه الخاتمة واضح: الشعور بالذنب دافع أخلاقي أصيل، وليس انحرافًا مؤقتًا للطبيعة الإنسانية.
   
لاحقًا، أصبحت شخصيّة “الجريمة والعقاب” مثالاً مغذيًا في الفلسفة الأخلاقية الحديثة. إذْ يقوم الكاتب وأستاذ الفلسفة الأخلاقية في جامعة هومبلودت، توماس شميت، في محاضرةٍ عن مبدأ “التأثير المضاعف للفعل الأخلاقي”، باستحضار الكاتب الروسي. ينص المبدأ: إذا وجد سائق قطار نفسه فقط أمام خيارين، إمّا أن يدهس شخصًا واحدًا أو خمسة أشخصاً، عليه أن يقتل الأقلّ، ويدهس شخصًا واحداً.

وإذا امتلك طبيبٌ جرعة دوائية بكمية محدودة، وثمّة مريض يحتاج كل الجرعة كي ينجو، في المقابل، يوجد خمسة مرضى يحتاجون فقط خُمْسها كي يعيشوا، على الطبيب أن ينقذ حياة الأكثر، حياة الأشخاص الخمسة. على سائق القطار أن يسبّب أقل الخسائر لما يجد نفسه أمام خيارين أخلاقيين خاطئين (سلبي- سلبي). وعلى الطبيب أن يجلب الخير الأكبر عندما يكون أمام خيارين أخلاقيين صحيحين (إيجابي- إيجابي).

الآن، الزاوية التي يتدخّل فيها دوستويفسكي في الفلسفة الأخلاقية لافتة، إذْ إنَّ تسليم راسكولينكوف نفسه إلى الشرطة بعد ارتكاب الجريمة، هو إشارة إلى عدم جواز القيام بفعل خاطئ أخلاقيًا لجلب المنفعة (سلبي- إيجابي). يجب ألا نقتل شابًا كي نستخدم أعضاءه لإنقاذ خمسة أشخاص. ويجب ألا تقرر محكمة ما قتل بريء دون عدالة، لأنّ دماءه ستطفئ نزاعاً أهليًا وتنقذ فعلاً مئات آلاف الأرواح. ولا ينبغي أن نقوم بتعذيب شخصٍ، إذا هدّدنا أحدهم بأنّه سيعذّب خمسة إذا لم نفعل. ويجب على راسكولينكوف ألا يقتل العجوز وأختها بسبب أفكاره الحالمة، حتّى لو كانت مخرجات هذه الأفكار إيجابية على العموم.

الاعتراف بالذنب يجب أنْ يكون منغرسًا داخل كل فرد. الاعتراف بنوازع الشرّ الأصيلة الموجودة داخل كل إنسان، ليس فقط لمّا تتجسّد خارجيًا على شكل ارتكاب، بل لمّا تكون غارقة في قاع النفس. الارتكاب لحظة يسميها بـ”خلل في الحرية”، إذْ تتسرّب هذه النوازع الدفينة إلى الإرادة الحرة القادرة على الارتكاب. الذوات القادرة على الاعتراف بالذنب تتصل مع بعضها أفضل، بخلاف الذوات المتكوّرة في مشاعر ذنب مُلتهبة. ذواتٌ مسجونة في غرفة التعذيب التي تحدّث عنها كامو، لا تعرف التواضع ولا تمدّ يد المصالحة إلى الآخر. 

*العربي الجديد