(المسخ)
سوءُ التغذيةِ وقِلَّةُ الهواء وعدمُ وجود أشعَّة الشمس، يمنعُ التئامَ الجروح في فروع المخابرات، أيُّ جرحٍ حتَّى ولو كان بسيطاً سيتعفَّنُ ويلتهِب. أبو سمير مقاتلٌ مسلَّح من “الجيش الحر” في مدينة دوما بريف دمشق، تمَّ تحويله إلى “فرع الخطيب” بعد انتهاء التحقيق. الجرحُ عميقٌ في قدمه اليمنى، والطعنُ بحربة “الكلاشينكوف” تمَّ بإصرارٍ وبرودٍ وصبرٍ، كصبرِ من يحفرُ بمسمارٍ في قطعةِ خشب، لم يكُن جُرحاً متولِّداً من عِراكٍ مستعجلٍ أو اشتباكٍ عابر، كان جُرحاً مدروساً ومُخطَّطاً له.
دخولهُ حرَّك الركود العام في السجن، تِرحابٌ حارٌّ وتقديرٌ كبير، “المُقاتل البطل” و”الاستشهادي المُضحَّي” كما يقولون، كرَّموه بأفضلِ مكانٍ في السجن، سيلُ الأسئلةِ ينهالُ عن الوضع الميداني في دوما، عن عدد الحواجز ومساحة المناطق المُحرَّرة.
من الروائح اللاذعة التي لا تطاقُ في الطبيعة رائحةُ الجسد المتعفِّن، غريبٌ كونُ البشري مصدر كُلِّ جميلٍ ومصدر كلِّ قبيحٍ في آن، رائحةُ الجرح المتعفِّن تفوحُ في كلّ أرجاء المهجع، رائحةٌ حادَّةٌ لاذعة تخرجُ بكثافة وتركيز من القدم المتعفِّنة إلى الدماغِ مباشرة، اقتربتُ من الجرح، بياضُ عظمِ الشظيَّة في ساقه يشوِّش على بياضِ قطيعٍ من الدود السارح، هو نفسهُ ذلك النوع من الدود الذي ينهشُ في جسدِ الموتى، كان دودُ الموتى يعيش في جسدهِ الحي.
صراعٌ نفسيٌّ يندلعُ خفيَّة في دواخِل الجميع، الرائحةُ الكريهةُ المستحيلةُ من جهةٍ، والتعاطُف الإنسانيُّ النبيلُ من جهةٍ أخرى، بينَ الإحساسِ اليومي العادي، وطهرانيَّةِ البطولةِ المُطلقة.
تزايدت حالاتُ الإقياء وبعضهم لم يعد يستطيعُ الأكل بسببِ الرائحة، التأفُّفُ فاضحٌ وآخرون أبدوا التقزُّز وأعلنوا القرفَ علناً، قسمُ منهم كانوا من رحَّبوا وسُعِدوا بقدومِ “البطل” في البداية، انتفخَ جسدُ أبو سمير وانتقلَ الإنتانُ إلى دمهِ، سائلٌ أبيضٌ ذو رائحةٍ فجائعيَّة فادحَة كقيء الرضَّع ينزُّ من قدمهِ، التعاطفُ انعدمَ تقريباً، وانتقلَ التأفُّفُ والتذمُّر من الحيِّز الخاص الخجول إلى النقاش العام، صارَ البعضُ يطلبُ من رئيس المهجع أن يطلبَ من “المساعد أوَّل” لنقل أبو سمير إلى “المنفردة” لأنَّ “الحياةَ أصبحَت مُستحيلة”، بشاعةُ تلك الرائحة أظهرَت كُلَّ أنانيَّةٍ جوانيَّةٍ بشعة وتعلُّقٍ بدائي غريزي بسيط، الرائحة شفَّت أجسادنا إلى زُجاجٍ يُظهر كلَّ قبيحٍ مُختبئٍ في دواخلنا، ألم تكن “الحياة مستحيلة” قبلَ تلك الرائحة؟!، كان بين من يطلب بطردهِ من المهجع أشخاصٌ هلَّلوا وسُعِدوا لقدومهِ في البداية، لم يعد أحدٌ يساعده ليخرج إلى دورة المياه، جسدهُ المنتفخ شلَّال من سوائل قاتمة، البولُ والسائل الالتهابي المتعفن، بالإضافة إلى رائحةِ الخراء المَحض.
كانت رائحته تسبِّبُ لي صُداعاً حاداً، صبَّ حسُّ الكراهية لدي في شعور الرفض الجماعي المُشترَك، عندما تأكَّدتُ من أنَّ الرائحة لا تُغلَبُ سوى بالرائحة ( كنت أتذكر جملةً كتبتها على دفترٍ ضائع “الطيرُ لا يُصطَاد سوى بالطير”)، كنتُ أضعُ يدي في الحيِّز الفاصلِ بين خصيتي وفخذي وأشمُّ أصابعي، رائحةُ العفنِ المتراكم لجثُثِ نطافٍ سجينةٍ دُلِقَت في احتلاماتٍ ليليَّة لم تكتمِل، لديَّ من العَفن ما يكفي لأن تصبِح رائحةُ أبو سمير زكيَّة، عفنُكَ أحبُّ إلى قلبكَ من عفن الآخرين.
بعد ثلاثة عشر يوماً مات أبو سمير من الصدمة الإنتانية العامة، حزن البعض، صمت البعض، وفرح البعض الآخر، وكان من بين المسرورين، أشخاصٌ رحّبوا به في البداية.
عندما نقلوا جُثَّته كان بعض السجناء يقومون بالدعس على الديدان التي كانت تسقطُ من جسده.
(تلاشي البعد)
أرضيَّةُ ممرِّ السجن حائطٌ نائم، والحفرُ كانَت نوافذ. لم أكن أعرفُ بالضبط أنَّ تلك الحُفر كانت قُبوراً على شكل منفردات، كالانطباعات الغائرة التي تحفرها حبوبُ الشباب في وجوهِ المراهقين. في الطريق من “المهجع الجماعي” إلى غرفَةِ التحقيق في “فرع الخطيب” بدمشق، كانَ بياضُ بؤبؤِ العين يلمعُ في قتامةِ ظلام تلك الحفر، تأكَّدت وقتها أنَّ فيها بَشراً!.
حجمُ المنفردِة-القبر مُصمَّم بدقَّةٍ وعناية، طولُها لا يسمحُ بالتمدُّد الكامل، وعرضُها يعيقُ التكوَّر الجنيني، حيرةٌ برزخيَّة بين الراحة والتعب، حتى التعب المطلقُ غيرُ مسموحٍ به، لأنَّ الألم النهائي الأقصى تتبعهُ راحةٌ جزئيَّة، كانت تلك الحفرُ أكبرَ انتهاكٍ لكرامةِ القبور.
(عبارات
علِقتْ في ذهني كانت مكتوبةً على حائط المنفردةِ رقم 1 في فرع “الخطيب”)
“- ثلاثون يوماً بسبب “لايك” لقناة
الجزيرة.
– اليوم عرف أهلي أنّي على قيد الحياة، أجهشَ والدي بالبكاء
بعد الاتصال به من موبايل شرطي في المحكمة، قال لي والدي
أنَّهم قد نصبوا خيمة عزاءٍ رسميَّة لي ظنَّا منهم أنني قد استشهدت، أنا
حيُّ في السجن وميِّت خارج السجن.
– السفاح أبو الموت 17-7-2011.
– اسمع الصمت جيّداً. أبو خالد الساعور.
-دعسُ الأزهارِ لن يؤخِّر مجيء الربيع. أبو خالد الساعور.
– مررتُ من هنا.
– إذا كنت تريد أن تكتب على الحائط، هنالكَ مسمار تحت
“الكرتونة” في الزاوية اليمنى، أعدهُ إلى مكانه بعد الانتهاء من
الكتابة.
(مُنفردة- مَهْجَع)
المنفردةُ تفضحُ الفرقُ الأساسي بين الوحدة والعُزلة، في الوحدة أنتَ لا ترى أحداً، في العزلة لا أحد يراك، أشدُّ ما يوجع في وحدة المنفردة أنها لا تفيد أحداً، الوحدةُ بحاجةٍ إلى شاهدٍ عليها. في المهجع الجماعي المسحوق يغارُ من تفوّقك، المتفوِّق يسحقك، والذي يشبهك يتجنَّبُك.
(المكانُ في السّجن)
“البلاطةُ” هي وحدةٌ لقياسِ القِدم في السجن، كُلَّما كانَ لكَ “بلاطاتٌ” أكَثر كنتَ أكثرَ عراقة، الأقدمُ هو الأكثرُ راحةً لأنه يملك مكاناً أوسع. الأكثر راحةً هو الأكثر تعاسة، البلاطةُ هي وحدةٌ لقياس الألم. المكانُ الوحيد الذي يُقاس فيه عُمقُ الزّمان باتّساع المكان هو السّجن، أحد السُّجناء القدماء اعترف لي بأنَّه عندما يبني بيته سيجعل أرضيَّته قطعةً واحدةً مُتَّصلة، لن يسمَح لتقاسيم البلاط أن تظهر، انتقاماً من ذاكِرته.
(من عدم الحريَّة إلى حريَّة العدم)
مفتاحٌ صغيرٌ فتحَ باب السجن الكبير، المسافة الزمنيَّة بين مَهجع السجناء و”حيُّ القصور”، كالغَبش الفاصل بين اليقظة والنوم، ثوانٍ قليلةٌ تفصل مكاناً يموت الناس فيه ببطءٍ وصمت، عن مكانٍ يضجُّ بالحياة الفارهة.
السيارات مُصطفَّةُ على حوافّ الطريق مثل سلاحفَ نائمة. نظرتُ إلى السماء، شعرُت بدوارٍ لاذِع، أدهشني ارتفاعُ الأشياء عن الأرض. لا أبعادَ في السجن. اكتشفتُ أثناءَ المشي أنَّ المسافة بين فخذي قد اتَّسعت. سألتُ فتاةً مارقةً في الشارع عن الوقت، خافت وابتعدت كأنَّها رأت كائِناً خُرافيَّاً، تفرَّستُ وجهي في مرآة سيَّارة واقفة. أخفْتُني، أشبهُ بعجوز يمشي جيئةً وذهاباً مُحتضراً تحت مصباحٍ يمعِن في التوهُّج، ارتدادٌ تامٌّ إلى حالة الهيولى الأولى، أنفاسي سريعة ومتقطعة، صوتُ صرير عميق أسمعهُ من صدري، كالصوت الصادر من قطعة حديدٍ يحاول حدَّادٌ بعبثٍ أن يكْشُط الصدأ عنها، سيَّارات الأجرة ترفضُ الوقوف، بعد أكثر من نصف ساعة، وقفت إحداهنَّ، قلت للسائق أن يأخذني إلى “ساحة الميسات”، الدم المتخثِّرُ على ظهرِ يدي اليمنى مثل بحيرةٍ من صقيعٍ أحمر، سألني إن كنت في السجن، أجبته بنعم، مرَّت فترة صمتٍ طويلة، نظرتُ إلى ملامحه المتعبة، كانت الدمعة مُستقرَّة على خدّه الأيمن، مسارُ الدمعة على وجهه ترك انطباعاً في داخلي، كالأخدود الغائر الذي تتركه مياه النهر في صلب الأرض. إنَّها هزيّمة.
على عكس الدخول، لا يخرجُ المرءُ من السجن دفعةً واحدة، الإفراج النهائي يُخِرجُ أقلَّ كميَّة منك. أوَّل ليلةٍ في البيت لم أتجرَّأْ على التمدُّد الكامل على السرير، ولم أبقَ في “التواليت” أكثر من 30 ثانية، ثلاثُ ساعات وأنا أشاهدُ مباريات كرة قدم خليجيَّة، في الساعة الرابعة صباحاً، كنتُ على وشك أن أجهش بالبكاء وأقول لهم أن يعيدوني إلى السجن، لم أعد أصلُح سوى أن أكونَ سجيناً.
(جرذ)
خارج السجن الجرذان تهربُ من البشر، داخل السجن البشرُ يهربون من الجرذان، عصبيَّتك في مواجهة لا مبالاة الجرذ، تتجرَّد بسبب ممارستهِ لحياتهِ اليوميَّة، هدوءُ الجرذ أكبرُ تحدٍّ لقلقك.
(النرجسيَّة داءُ السجين)
تشاوُفُ المَغرورِ علاجٌ لاكتئابِ السجين، كلُّ إخفاقات الثاني ستذوبُ في طاقةِ تقديس الأوَّل لنفسه، نرجسيَّتهُ تبتلعُ خيبَتك، كلُّ من يستخفُّ بألمك يجعلك تنساه، شعورُ الآخر بحزنك يؤجِّجه.
(رائحة الاستبداد)
ثُلَّةٌ من العناصر المخمورة اقتحمَت المهجعَ مساءً في فرع الأمن العسكري بدمشق، أخرجَ أحد العناصر ورقةً من جيبه، وحدَّد مجموعةً من الأسماء، وطلبَ منهم تحضير طقوس آخر العمر، لأن حكم الإعدام قد تمَّ إقراره، همهمةٌ مذعورةٌ عمَّت المهجع، وضجيجٌ قلقٌ انتشرَ بين السجناء، قام المطلوبون بالوضوء والصلاة والدّعاء، أحدهم تكوَّر في زاويةٍ ما وأجهش في البكاء، وآخرٌ كان يطلب بالضبط أن يقولوا لابنه الكبير أن يعتني بوالدته جيداً.
تم اقتيادُ السجناء إلى ساحة السجن الخارجيَّة، وجوههم ملتصقةٌ بالحائط، لقَّم العناصر بنادق الكلاشينكوف وأطلقوا الرصاص في الهواء، لقد كان أمراً في غاية التسلية بالنسبة لهم. (أحد القتلى الأحياء كان تباغته نوبةُ صرعٍ انفجاريَّة في كلّ مرَّةٍ يسمع فيها صوت تلقمية البارودة).
في لحظات التوتُّر الشديد والانهيار النفسي، ترتخي كل المصرات العضليَّة في الجسم بما فيها المصرَّات الشرجيَّة، أحدُ الناجين من المجزرة الكاذبة، أحد القتلى الأحياء ارتخت كلّ مصرَّاته لحظة إطلاق النار.
رائحة الفودكا المنبعثة من العناصر المخمورة تجذِّرُ”علمانيَّة” النظام في مواجهة “الإسلاميين المتشددين”، رائحةُ الكحول تعني بالضبط رائحة السّلطة والاستبداد، في تلك الليلة بالذات أزاحت رائحة خَراء السجين رائحة فودكا عنصر الأمن.
مقاطع من كتاب نثري صدر عن دار مسعى بعنوان “الوحدة تدلل ضحاياها”.