في حديث جمعني بالمخرج السوري، مأمون البني، وزوجته الروائية والمخرجة، واحة الراهب، في مدارات الغربة، قادنا الحديث عبر زواريبه العريضة، وانزياحات الذاكرة، إلى تذكر أحد أبرز الروائيين العرب المعاصرين الذي رحل باكرًا، هاني الراهب، الذي كان صوتًا متفردًا وفلسفيًا عالي الكعب، وكان سابقًا لأوانه وزمانه، في بنيته الفكرية، والعمارة الروائية المكانية والزمانية والتأويلية.
في عام 1962، كان هاني الراهب في أوائل عشريناته حين حصل على جائزة الرواية من مجلة “الآداب” البيروتية عن روايته “المهزومون”، أي في زمن الحراك السياسي الذي أسماه البعثيون زمن الانفصال، و”صححوه” بانقلاباتهم العبثية كل فريق على الآخر حتى تثبت الوضع على ما هو عليه منذ اثنين وخمسين عامًا هي مدة الغربة السورية عن أوطانها.
تعرفت على هاني في وزارة التربية التي كانت على ضفة بردى، وقبل تحولها إلى وزارة السياحة، ثم الحريق المشبوه على الطريقة السورية، كحريق الأوبرا، للتخلص من أدلة إدانة على سرقة ما.
المهم، سافر هاني مبتعثًا إلى بريطانيا، حيث حصل على الدكتوراة، ورجع إلى سورية حيث لقيته ثانية، وكان يعمل مدرسًا في الجامعة، وكان الراتب الحكومي لا يكفي، فرضي بكتابة مقال أسبوعي لجريدة “الثورة”. وفي إحدى روحاته إلى المدرسة لاصطحاب ابنه إلى البيت شهد ما ثبّت لديه فكرته عن المخابرات، فلقد لاحظ عند باب المدرسة سيارة جيب، وفيها مجموعة من الشبان العضلين، وبينهم مراهق حدس أنه طالب في المدرسة ينتظر أباه. انفتح باب الانصراف واندفع الطلاب، ولكن الصبي في سيارة الجيب العسكرية، بنمرتها الخضراء، وكل السوريين يعلمون معنى هذا اللون على السيارات المدنية، غمز أحد الجنود إلى أحد الخارجين، فاندفعوا إلى صبي كان بين الخارجين، وجروه بعيدًا، حيث بدأوا رحلة الصفع والرفس واللطم، وسب الأمهات والأخوات والدين والخالق، ولم يتركوا الصبي إلا وهو غير قادر على القيام، ثم دعوا صبي الجيب، فوقف فوق رأس الصبي الآخر، وبصق.
لم يستطع هاني الصبر، ولما لم يكن لديه ما يقاومهم به، فقد عمد في البيت إلى كتابة مقال لجريدة “الثورة” يصف فيه ما رأى، وما يسيء إلى الوطن.
في يوم النشر اختفى المقال، فمضى إلى الجريدة يستفهم، ليُفاجأ بالاستغناء عنه، واستقدام كاتب آخر ليحل محله، والرصيد كبير في سورية العبثية، حيث لا نوافذ إلا جريدتي الدولة الثورية، “البعث”، و”الثورة”.
حدثني هاني الراهب مطولًا عن تلك الحادثة، وكم أثرت في وجدانه العميق لإحساسه الكبير بسطوة القمع وتدخله في كل المجالات. لمست فيه حساسية غير مسبوقة في التعاطي مع الشأن العام، وآلمني ما قاله بشدة، وكنت سريع الغضب، ودعوته لكي نكتب بيانًا يدعو لضبط الأجهزة الخارجة عن قانون الدولة، ولعودة القانون فوق رؤوس المواطنين جميعًا من دون أي استثناء، وكنا على وشك صياغة أفكارنا التي تحاول مناطحة قانون الطوارئ القاسي.. ولكن أمور الحياة، التي يدرك جيدًا الطغاة أنها تسرق وتشتت أي تفكير إصلاحي، شغلتنا سوية..
غبت عنه لفترة حتى التقينا ليحدثني عن مشروعه الروائي الجديد، الذي كان أجمل ما كتب الروائي السوري هاني الراهب، روايته “الوباء”، التي كانت أغنية عن الريف السوري، تستحضر الضيعة في كامل نوبات العشق، والطبيعة المعشوقة، والعاشقة. في “الوباء” يعالج الراهب المرض السوري في وجوب ضخ السياسة التي سرقت من السوريين، فاحتجزت هدوء بالهم وحكايات غرامهم الصغيرة بعيدًا، فعمد إلى بناء شخوصها الرئيسية وهي تتابع شخصية صديق ناجح “بالمعنى الأخير لدى السوريين” في حياته، فلقد صار متنفذًا كبيرًا في الدولة، ونسي الجميع ذلك الشاب ابن ضيعتهم الذي رحل يحارب في فلسطين مع إحدى المنظمات، ولكن الثورة تهدأ والمنظمات تسترخي، والمجاهد يعود إلى حيث شقيقه المتنفذ، ولكن المتنفذ الثري يتنكر له، فصار يأكل من صناديق الزبالة على الشاطئ.
يطرح الراهب في “الوباء” استفهامات كبيرة وكثيرة لم يجد لها جوابًا في الواقع الحياتي، عن الديمقراطية، والحرية، وعن معنى الحياة، وموقع المثقف في المجتمع المدني، ودوره في عالم تنحسر فيه الثقافة، ويقتل الوعي النقدي. تبدأ الحكاية هناك في قرية الشير، التي يسميها السوريون الجوبة، في تلك الفسحة المربعة بين كتلتين من الجبال. تنتهي آجال، وتولد أجيال، وما بين الولادة والموت فسحة الحياة التي تتلون بألوان يضفيها عليها المناخ والمسرح والآفاق.
ضمن هذه الأجواء، يتنقل هاني الراهب متابعًا دورة الزمان لعائلة السنديان الآتية من ذلك المكان الممتد بين مرابع الصحراء إلى تخوم الغابات الساحرة في الريف الساحلي، وزمان ينحدر من إيقاعات الحرب العالمية الأولى إلى يوم حاضره.. يتابع شخصياته، التي تتغير بتغير المقام والمقال والزمن السياسي، يموت أشخاص ويولد غيرهم، ويبقى وجه الحياة وحسها الآتي من معانيها قابعًا في ثنايا سطوره..
كانت واحدة من أروع ما كتب السوريون في رأيي، فقد كانت قصيدة غنائية أفسد التمتع بغنائيتها المجادلة والحوار مع النظام الفاسد، فقلل من نشوة المتعة بغنائيتها.. كانت رؤية الراهب لسورية التي يعرفها جيدًا، طهرانية، ملائكية، قدمها بصورة تليق بشاعر لا بصورة روائي، الشخوص، المكان، الزمان، العمارة الروائية التي تشبه شبكة صياد بحري على سواحل سورية الجميلة، متقنة الصنع لا يمكن أن يفلت منها صيد ثمين، ولكنها في الوقت ذاته تتقطع اذا ما حاول صانعها أن يخرج الصيد منها.. هشة وقوية، متينة وحادة.. تنضح بالحيرة الوجودية الساحرة.
ولكن كمثل كل شيء في شرقنا الحزين، لا يمكن للملائكة أن تكون من دون أن تتشيطن.. فما بين الشيطان والملاك خط من النار. وهكذا كان عليهم أن يشيطنوه، في بلد مغلق بإحكام صندوق خشبي سيُلقى لاحقًا في البحر، تولى هذه المهمة باقتدار من كان يفترض منه أن يكون نقابة تحمي أعضاءها وكتابها، وهكذا تحول اتحاد الكتاب العرب إلى سيف مسلط على كثير من الكتاب، ومنهم هاني الراهب، الذي حورب في نقابته تلك بناء على مقال نقدي هاجم فيه السلطات الدينية التي كفرت ودعت إلى قتل الروائي سلمان رشدي، الذي كانت قضيته تتجول في أنحاء العالم.. أتبع هذا الموقف العدائي من قبل الراهب تجاه كهنوت السلطة السورية وحلفائها.
لكن الراهب قرر المواجهة، فطلب الكلام في مؤتمر عام لاتحاد الكتاب المزعوم هذا، وكانت مؤتمرات الاتحاد حينها منتظرة، ومسموعة الصدى، يحتشد الكتاب لأجل حضورها، قبل أن يكتشفوا أن كل هذا ليس سوى كلام بكلام، ورهط من الأحلام.
نهض وقال: “ألم ينضج الكتاب السوريون بما يكفي لاختيار ممثليهم في المكتب التنفيذي من دون أن تحمل إليهم القوائم مرتبة من أجهزة المخابرات”. وكانت هذه هي خطيئة (الشيطان الراهب)، الذي طرد من ملكوت (الرب المخابراتي). وكانت النتيجة سحب جواز سفره، ومنعه من التدريس في اليمن، وتنزيل مرتبته الوظيفية من مدرس في الجامعة لا فضل للمخابرات بها فقد حازها من الجامعات البريطانية، فنزلوه إلى ملاك الثانوي، وحين أبلغ وزير التربية بابتلائه به قال الأخير حكمته الشهيرة: “شو كل ما غضبوا على… بيبعتولنا إياه على وزارة التربية ….”. وكان الوزير المفوه قد كوفئ على جريمة حكمه بالإعدام على فلاحين من جسر الشغور بمنحه وزارة التربية.
انتقل هاني الراهب إلى الكويت مدرسًا محترمًا في جامعتها. وبعد عودته منهكًا من الغربة، مع مرض السرطان اللعين، عاد لإتحافنا برائعته “رسمت خطًا في الرمال”. وحينما اطلعت على مخطوطها، أبهرتني قدرته على خلط الشفاهي بالمدون والتراث الذي كنت ولا أزال مولعًا به، بالواقعي، استحضار الشخصيات التاريخية لتشهد مأساتنا المعاصرة، العبثية التي نحياها، كل ذلك الضجيج الحضاري مذ نزلنا عن سدة العالم، حتى اليوم. كانت الرواية مرثية كبرى للحضارة العربية، التي لخصها الراهب بعنوان الرواية السوريالي “الرسم على الرمال”، كما لخص عبد الله القصيمي العرب بكونهم “ظاهرة صوتية”. وما بين “المهزومون”، و”رسمت خطًا في الرمال”، تكمن فلسفة هاني الراهب التي تشرح الواقع العربي من دون بهرجة، أو أنفة.. صرخة جافة في كهف عميق.
(ضفة ثالثة)