في فتوتنا وقبل أن ينتشر التلفزيون ورسومه المتحركة وقبل أن تدخل السينما والصورة المتحركة حياتنا بهذه الكثافة، كان الراديو مسيطرًا على الفضاء العام للخيال الطفولي، وبالطبع كانت المجلات المصورة هي صاحبة الحظوة الكبرى في تكوين الوعي البصري للأطفال حينها، فكانت شخصيات تان تان وشرلوك هولمز وبطوط وميكي وغيرها القادمة من مجلات مصر ولبنان وأوروبا تمثل البطل كما كنا نتمناه والمغامرة المعاصرة كما كنا نراها.
كانت رحلتي مع فن الكتابة للكوميكس مبكرة جدًا، إذ أنني بدأت أكتب في بداية السبعينيات على ما أذكر لصالح مجلات الأطفال المصورة أي تلك التي تترافق فيها الحكاية مع الصورة المرسومة، وكان ذلك الأسلوب رائجًا جدًا في وقتها ويلاقي استحسانًا كبيرًا لدى جميع القراء من الأطفال ومن الكبار من أهلهم أيضًا.. كانت تلك طريقة جيدة في وقتها لتحقيق عمل فني يهتم بالطفل وعلى مستوى جيد من الأداء الفني المهني، كتابة وتنفيذًا في الرسم… حيث كانت مجلات الطفل في سورية تحشد عددًا كبيرًا من الكتاب، ليكتبوا في صفحاتها وأذكر منهم ميشيل كيلو وسعدالله ونوس وعادل أبو شنب وزكريا تامر وكاتب هذه السطور… وكان رئيس تحريرها على ما أعتقد سعدالله ونوس حينما كان شابًا في العشرينات من عمره، ومن ثم أتت دلال حاتم لفترة ومن بعدها تغير التحرير حتى انحدرت المجلة انحدارًا كبيرًا وغير مبرر بسبب مرض الفساد البعثي عمومًا، والخلافات والواسطة التي اعتبرت باستعلاء أن فن القص للكوميكس كتابة ورسمًا هو أمر سهل ويتقنه أي شخص، ومن الممكن تسييسه وأدلجته، ففقد متعة الإدهاش والصدق.
سأقف أمام محطتين هامتين في رحلتي مع الكوميكس في سورية، الأولى مع عملاق الكوميكس السوري ممتاز البحرة الذي لا يمكن لك أن تجد قصة أو مجلة أو منشورًا مدرسيًا يتعلق بالطفل وعلى مستوى رائع من التنفيذ دون أن يكون اسمه في خانة الرسوم… كان ممتاز البحرة فنانًا حساسًا وخجولًا، لا يأبه بالقيل والقال وذا شخصية فنية متميزة وبصمة لونية لا تنسى، شخوصه كانت أساسية ومتأصلة في البيئة السورية، كان يبتكر شخصيات لا تنسى ويخلق من تلك الشخصيات حبكات درامية عبر الصورة فقط وقبل أن تنزل القصة لتكون الحكاية المصورة، يمكننا أن نسميه ربما مارفيل السوري أو جورج ريمي الشهير بـ هرجيه، مخترع شخصية تان تان.
ممتاز البحرة كان خالق كاريكاتورات عبقري فيما يتعلق بتكوين الشخصية ولباسها وشكل شعرها، نظرة عينها وسلوكها، ويكفيه أنه ابتكر أشهر شخصيات الكوميكس السورية الأكثر انتشارًا، تلك الشخصيات المسماة باسم ورباب وشنتير وغيرها، ورسم عشرات القصص المصورة في المجلات السورية وعلى رأسها أسامة ومجلة الجندي العربي، في البدء انطلق من رسوم الكاريكاتور في مجلات المعلمين والطليعي وغيرهما من المنافذ الفنية التي كانت متاحة في سورية آنذاك..
أما المحطة التي جعلتني أقف طويلًا وفي تأمل كبير مع الكوميكس في بلادنا فهي لقاءاتي المتواترة المتباعدة مع “إمبراطور الكوميديا” ومؤسس المسرح القومي في سورية، المرحوم الصديق نهاد قلعي، الذي كنت أعرفه في دمشق مذ كنا نعود المسرح القومي فرحين بالقفزات النوعية التي قام بها نهاد قلعي الخربوطلي وهو اسمه الكامل قبل أن يحذف كنيته من أجل التسويق الفني، وكان لتعاونه مع الراحل رفيق الصبان أثر كبير في نهضة المسرح القومي الجاد غير الكوميدي أو التجاري الذي عهدناه في سورية. ولكن في غفلة من المسرح ومن الثقافة انتقل نهاد قلعي إلى شراكة تلفزيونية فنية مع شاب اكتشفه هو بنفسه اسمه دريد لحام، وكوّنا سوية ثنائيًا فنيًا عرف واشتهر باسم (دريد ونهاد) وبذلك توقف قلعي عن العمل في المسرح القومي وانشغل كليًا في التلفزيون والسينما بأعماله الشهيرة التي غيرت وجه الكوميديا في سورية للأبد، فكسبته الكوميديا وخسره الفن الجاد الذي لو قدّر له أن يبقى فيه لربما كسبنا مخرجًا كبيرًا وأستاذًا مسرحيًا هامًا، بكل الأحوال انقلبت الأمور على رأس نهاد قلعي، وتعرض لما تعرض له من اعتداء على يدي أحد عناصر سرايا الدفاع، حسبما قيل وأثبت وانتشر في دمشق، فتعرض الرجل لأذى صحي كبير أعاقه وعطله عن إكمال مسيرته الفنية الثرية والغنية، فتخلى عنه رفيقه وشريكه الفني، وبات بلا أي دخل أو مصدر رزق يعيله في مرضه هو وأسرته، فاضطر إلى كتابة قصص الكوميكس المصورة للأطفال فأبدع في إنتاجها وتأليفها فحقق نجاحًا كبيرًا ومبهرًا، هو أيضًا في الدرجة الأولى مبتكر شخصيات مذهل، وعلينا ألا ننسى أنه من ابتكر شخصيات (حارة كل من ايدو إله) كاملة (التي لا أذكرها بالتفصيل ولكن البحث في الشبكة العنكبوتية أسعفني) ابتداء من غوار الخبيث، إلى ياسينو إلى أبو عنتر الذي كان قبلها أبو رعد وأبو صياح، وأبو كاسم، وبدري بك أبو كلبشة، وكلها شخصيات مسطحة ذات بعدين تصلح أن تكون شخصيات للمجلات المصورة، وأقصد بأن لا دافع نفسيًا يسير تلك الشخصيات ويرسم مسار أهدافها، فالشرير شرير بلا سبب والطيب كذلك طيب بلا سبب، وقبلها كلها ابتكر شخصية أخرى لدريد لحام أسماها كارلوس فيها كل صفات وتفاصيل شخصية غوار ولكنها ذات صبغة حداثوية غربية، لم ترق لجمهور الستينيات الذي كان يبحث عن بطل شعبي يتمثل به، التقط نهاد تلك الرغبة فاستبدله على الفور بشخصية غوار الشعبية، التي لاقت نجاحًا منقطع النظير، وبنى لنفسه شخصية حسني البورظان، ومحبوبته (فطومة) التي أدتها نجاح حفيظ وكان مقدرًا لمنى واصف أن تلعبها من قبلها… رغم تواضع الحكاية في تلك الأعمال التلفزيونية إلا أن حجم الكوميديا وبناء الشخصيات الحيّة التي كانت خارجة من عبق الشارع وطزاجته أدت إلى نجاح تلك التجارب واستمرارها حتى اليوم، فكان نهاد من حيث لا يدري يقوم بتلفزة الكوميكس ونشره بشكل أوسع بين الناس.
بكل الأحوال حاول الرجل استثمار قدرته على ابتكار شخصيات محببة للجمهور وطريفة إلى حد ما، فيما بعد تخلي شريكه عنه، فعمل على كتابة قصص مصورة في مجلة سامر تحت اسم مغامرات حسني البورظان، التي استقبلها الكبار قبل الصغار، بل سحب أيضًا عددًا من شخصيات الحارة التي ابتكرها إلى الكوميكس في مجلات الأطفال دون أي اعتراض من جميع الممثلين، وذلك لأنه هو المالك الحصري لتلك الشخصيات في زمن لم تكن هنالك قيمة للحقوق الفكرية، ومن ثم قدم شخصية شارلي في سلسلة مغامرات شارلي، وكانت الرسوم كلها تدور في فلك شكله وشخصيته، وخفة ظله…
التقيته في بيروت في غرفة رئيس تحرير مجلة سامر البيروتية للأطفال، بعد انقطاع طويل بيننا بسبب انشغالنا نحن الاثنين هو بالتلفزيون والسينما وأنا بالرواية والتلفزيون، كان يجلس في الكرسي مقابل المكتب متكورًا على نفسه، منحنيًا، من المرض أو الألم على ما اعتقدت حينها، ولكنه لم ينس لحظة واحدة أن لقبه الدمشقي الأثير إلى قلبه كان الخواجة، فقد كانت سيجارته الطويلة موضوعة في مبسمها أمام فنجان قهوته وهو يبتسم ويضحك ضحكته المتعبة المتثاقلة، ويتحدث ببطء كنا ندرك أن سببه هو النزيف الدماغي الذي أصابه له نتيجة الحادث العنفي الذي تعرض له قبل سنوات، ابتسم لمشاهدتي وتكلمنا طويلًا، كان يتحدث عن الكوميكس بكل حب وثقة وإبداع وإن كان يحتج على الزمان الذي أبعده عن السينما والمسرح والتلفزيون، وهو ذات الزمان الذي أبعدني عن التلفزيون والإذاعة والصحافة حينها كمصدر رزق. حدثته عن الرواية والتاريخ والعمل في الإذاعة فقال حدثني عن المجلات المصورة، وكأن به حرقة من تذكر الإحباط الذي أصابه، فحدثته عن تجربتي الطويلة نسبيًا في عالم الكوميكس وعن تعاوني مع ممتاز البحرة قبل سنوات طوال في دمشق في مجلة أسامة، وعن الشخصيات التي كنت أبتكرها أيضًا وإن كان التاريخ مركزًا في القصص المصورة التي كنت أؤلفها، بينما هو كان منكبًا على خلق شخصيات من الواقع وقريبة من الشارع لدرجة الإضحاك، قلت له: أنت بكل تأكيد أحد ظرفاء دمشق الذين تعودت المدينة على سخريته اللاذعة، وأضحك الملايين، كان نهاد تطورًا هائلًا وعصريًا لمفهوم (ظريف دمشق)، كان يبتكر النكات ويلقيها بشكل بارع جدًا، يختلق الموقف الكوميدي ويبني عليه، ومن ثم ينّمط الشخصيات ويطورها في عقله حتى يوصلها إلى مرتبة شخوص خيالية. حدثني عن الكوميكس (الرسوم المصورة) التي كان ينجزها بمتعة كبيرة لصالح مجلة سامر للأطفال البيروتية، “حيث لم يكن مرحبًا به على ما يبدو في مجلة أسامة الدمشقية”، مساهمات مضحكة من مسلسل حسني البورظان الذي أفرد له العديد من الحلقات، وكان يبني الحكاية المصورة للبورظان برفقة شخصية أخرى ابتكرها هو أيضًا وهي شخصية (ياسينو)، حيث كان يتقصد أن يؤسطر في المجلة شخصيتي ياسين والبورظان بعيدًا عن شخصية غوار.
كان نهاد قلعي نجمًا من نجوم مجلة سامر، فكان نجم غلاف العدد الأول وبمانشيت كبير، واحتفت المجلة بعدد خاص ومميز وحزين يوم وفاته، على ما أذكر تحت عنوان (رحيل عمو حسني)… كل ذلك بسبب قدرته على ابتكار الشخصيات المحببة للقراء والأطفال. في أحد لقاءاتنا فاجأني يومها بقوله إن كل الشخصيات الخالدة التي اخترعها هي شخصيات طفولية، شخصيات يعرفها شخصيًا، وليست كمثل الشخصيات التي قدمها في المسرح القومي… قال لي: كنت أظن أن العالم خير وشر، كانت نظرتي طفولية للحياة، ودفعت الثمن حينما أدركت أن الكذب والنفاق يختفي أحيانًا خلف الضحكة الملساء!، وقلت له: كلنا كنا نعتقد هذا.
كنت أقدم حينها مسلسلات مصورة في مجلة سامر برسوم الصديق ممتاز البحرة، على ما أذكر مسلسل (الشاطر حسن) ومسلسل (وادي الشحارير) وغيرهما من المسلسلات المصورة التي كانت تلاقي نجاحًا لدى الأطفال، وكنت أزور بيروت بين الفينة والأخرى للمرور على دور النشر التي تنشر رواياتي أو لزيارة الصحف البيروتية التي نكتب فيها مقالاتنا، فقد كانت القبضة الأمنية قد اشتدت في سورية، ولم نعد نتعاطى الصحافة ولا يمكن النشر لدى الدولة بسبب الرقابة الهائلة وقائمة الممنوعات التي لا تنتهي، بينما ضاقت مجلة أسامة التي شاركنا بها، حتى بأحد مؤسسيها وهو ممتاز البحرة الذي التحق بصفوف مجلة سامر في لبنان برفقة عادل أبو شنب وآخرين…
فجأة تحولت مجلة سامر إلى منبر حقيقي للإبداع والتعبير الحر، رغم أن ما يأتي من نقود منها ليس بكاف ولكنها كانت ردنا على التضييق في دمشق، وكان ممتاز البحرة أيضًا أحد نجومها، برفقة نهاد قلعي طبعًا..
كنت قد عملت مع ممتاز البحرة سابقًا في عدد من تجارب الكوميكس في نهاية السبعينيات، في الـ77 ربما، مع منظمة الطفل الوحيدة في سورية آنذاك، منظمة الطلائع، وأنتجنا مجموعة جميلة من القصص المصورة للأطفال، والتي باتت من نوادر الكوميكس السوري هذا اليوم، مثل(سطوح جباتا والحمائم) و(الناطور الصغير) و(الكنز) و(الرسام الصغير)… وغيرها من القصص التي طبعت بشكل منفصل وبرسوم بالحجم الكامل للشخصيات المميزة التي ابتكرتها حينها وبتجسيد فني عال من ممتاز البحرة، كانت الكوميكس في سورية حينها مؤدلجة ويجب أن تصب في بناء فكر وطني للأطفال، لذلك حاولت الاستفادة من تجربتي ومعرفتي بالجولان وببراءة الطبيعة هناك من أجل خلق عالم بهيّ للأطفال في السبعينيات، فكانت قرية جباتا الخشب هي مسرح القصص الأولى ولاقت القصص نجاحًا كبيرًا وفازت بجائزة لأدب الطفل حينها… فيما بعد ارتأيت أن العمل للأطفال هو أمر غاية في اللطف بسبب صغر سن أطفالي وقتها ووجود عدد كبير من الأطفال في العائلة ممن تأثروا بالقصص وأعجبوا بها، حيث كان الجمهور الوحيد للقصص المصورة في بلادنا حينها هو الأطفال، رغم أنني وممتاز البحرة ومن بعد لجين الأصيل وكُثر ممن كنا نعمل في الكوميكس لم نكن نتوجه فقط للأطفال، ولكن التصنيف المجتمعي كان حادًا وقتها..
فانتقلت بعدها لمجلة أسامة وقدمت على مدى سنوات كثيرة مسلسلات مصورة (الشطار – وادي الشحارير وغيرهما لا أتذكر عناوينها، ولكن أذكر رضاي عنها). ومن أسامة إلى سامر في بيروت كانت تجربة الكوميكس تتبلور وكنت مدهوشًا من تألق السوريين في هذا المجال، إلى جانب رسامين مثل فيصل عبيد كان البحرة هو سيد أغلفة المجلة، وإلى جانب كتاب لبنانيين كان قلعي هو نجم أشهر مسلسل في الثمانينيات في مجلة سامر، وكانت شخصية شارلي تتطور بشكل جميل معه، بحيث أنه أسر لنا في إحدى المرات برغبته في تحويلها إلى التلفزيون، ولكن هناك من كان يشيع أنه لم يعد قادرًا على الكتابة والابتكار للدراما، بينما كنت أنجز رواياتي ومسلسلاتي بحيث لم أعد أجد وقتًا للكتابة للكوميكس المصور. كان نهاد قلعي متفانيًا في عمله للأطفال، بحيث أن ما قدمه الثنائي البحرة وقلعي للأطفال في عقود، يعد من أهم ما قدم لفن الأطفال في سورية، وعلى الأرجح في فن القصص المصورة… وكم نحتاج لأرشفة وتوثيق تلك التجارب بصريًا كي نتيح للأجيال الإطلاع على تجارب القص المصور في سورية في تلك الأيام، أيامنا..
استمر ممتاز البحرة في رسم وابتكار الشخصيات المحببة للأطفال وللكبار، وكمثل نهاد قلعي، كان ممتاز أيضًا صاحب نكتة رفيعة المستوى، مرحًا رغم غضبه الدائم من الفساد المستشري على الدوام في قطاعات عالم الأطفال والكوميكس كما سميت لاحقًا، ولكنه حقق نجاحًا منقطع النظير حينما طُلب منه تقديم شخصيات بطولة طفولية لتمثل الأجيال في الكتب المدرسية التي طبعت وانتشرت على نطاق واسع فدخلت رسوم ممتاز البحرة وجدان الأطفال والمراهقين لتكون شخصياته المبتكرة علامات مضيئة في الذاكرة لأجيال وأجيال شاهدت نقاء الطفولة وبراءة الفكرة وعظمة التلوين في رسومه التي كرس لها جهده وطاقته لتكون مرآة لأعين الأجيال الصاعدة… وهكذا تماثل الرجلان البحرة وقلعي في كونهما خلاقين لشخصيات بارزة في الكوميكس كانت وستبقى علامات في الكوميكس السوري.
(ضفة ثالثة)