النص: ركام غودو **
تحت الركام تململت الأفكار في رأسه ، كعادته ليلاً. كان يتفقّدُ بريده الإلكتروني، حينما هاجت الظنون في رأسه مجدداً، لكنه وجد صندوق الوارد فارغاً. غاص في سحابةٍ من تَبغهِ، وارتفع الصوت من داخله ..
- راسلهم.. أليس الإنسان حيوانٌ ناطق ؟!
- لا لن افعل.
- جرّب، لن تخسر شيئاً.
- سأخسر عقلي.
قهقه الصوت: وهل ما زلت تحتفظ به؟
- سأرى ما في غربتي القسرية.
وجد نفسه عالقاً بين المطرقة والسندان، فكّر بالرحيل عن محيطه الأفقي مراراً وتكراراً، لكنه لم يجرؤ على رسم الحدود المتبقية، ساقته سياط اليأس، فصاغ رسالةً، أطلق لها العنان، تجوب مشارق الأرض ومغاربها، ثمّ استدرك أن احلام وعظام غودو، أصبحت مكاحل للعيون العمياء باستقطاب.
بارتباكٍ نسخ رسالته، وقبل أن يضغط زر الإرسال، صافحت عيناه الدامعتان العنوان الجديد .. (المنظمة الدولية لحقوق الحيوان).
القراءة النقدية
لا أخال نفسي أصدق، بأن هذا الرمز السرمدي، لا يزال حيّاً وقوياً ويعتمر الكثير من البشر، ويزداد بازدراء وتهكم لقليليّ الحيلة، والتي أصبحت عنواناً للغول بكل اريحية، مُستوفاه عن سرب العقول المنفية ، في واقع يزداد غموضاً ومواربة، وكأنه خارطة طريق المستوحدين، في رعاية إعلامية مثيرة للجدل .
العنوان: ركام ! هذا الاسم بات في الركن المباشر، وليس كما عهدناه سابقاً في الركن المستور، وبوابة لرموز ثقافة حياتية مُهجّنة، في سبيل السيطرة، ولو كانت بالقتل العمد مع الإصرار والترصد، ويفتح لنا بوابة العبور الى الكلمة الثانية: غودو .
لنعلم أولاً، عمّا يقصده الكاتب بكلمة (غودو) ، وبما أن الكاتب ضليع بالأدب العالمي، فقد اختار هذه الكلمة بعناية فائقة ومسيسة، للإستدلال بما قد يفوت الكثير من البشر، في استفهام المعنى الكامن رغم حضوره القوي في الأذهان والعاطفة الهادرة، والتي باتت تؤرق الكثيرين في عزوف من التصريح بها .
فغودو اسم لشخص رمزي، في مسرحية أدبية للأديب العالمي بيكيت، والذي مثله أحد أهم شخصيات المسرحية. وسأختصر في هذا الإتجاه ما استطعت، من أجل تيسير فهم العامة من القرّاء لمعرفة هذا الرمز الخطير في حياتنا الواقعية .
فغودو يُعبّر عن حالة الإنتظار الذي ليس له معنى، وعن حالة نفسية مُفزعة في الكيان التشابهي، لمواكبة هذه المشاعر، على مرأى من بلوغ الإستيعاب لمعنى الإنتظار المتوحش للنفس البشرية، وكان للأديب ما أراد .
هواجس الإنتظار، بالتأكيد ليست أفكاراً لها قواعد ثابته في محور طبيعة الذهن، والعمليات العقلية التي نضع لها حلولاً منطقية، وانما حالة وجدانية مستنفرة، تخلق لها محورية بعيدة عن واقع التأمل، وحيث تصبح عادة سيئة بحلولها معظم الوقت، سوى ما تبقّى من وهج السلوك للفعل وارتداده .
بيد أن تلك القيمة الإنسانية والتي تراود الكاتب، لا زالت تحت رعاية الألم المُستباح، والتي قد تبدو لنا جميعاً كإنهاء الأمر بالطريقة الصعبة، والمريحة، بآنٍ معاً. وهذا ما عبّر عنه الأديب فراس باللجوء إلى الرحيل الصاعد، بدلاً من الأفقية، من وجه الأصل، والتي في غربة العمليات العقلية المنفية، وجدت أن الحيوان له حضوره الحي مع متطلباته في الكون الواسع، والذي خُلق من أجله – كما البشر- ولكنه أدرك أن الحالة تودي بنا إلى تفاقم العلّة الأصيلة للبشر، والتي أضحت في منأى لحالها، عن تلك المخلوقات التي لا عقل لها، سوى حاجات وموارد في حقيقة الأمر كله ، وقد بات هذا المشهد الإسطوري، محل ابداع في التعبير عن مكنونه وعن كنايته بهذا الإسلوب القصصي البديع حقاً، والذي قلّما نجده في اعتبارات كثيرة، ليكون نصّاً أدبياً بامتياز، ووارف المعنى بكل قوة، وانتقال لنزوع الأمر إلى الرتب الأولى لما نعرفه عن أنفسنا .
نصٌ ثري حقيقةً، بالعطاء التعبيري، الذي قلّما نجده في بوابات التواصل الاجتماعي، وحقاً لا مجاملة، كان ثورة في استفزاز الوجد الإنساني .
____________________
- – * كاتب وناقد أردني
- – ** ركام غودو – قصة للكاتب السوري فراس الحسين
- خاص بالموقع