حاوره: أنور بدر
أوراق 19-20
تشكيل
تعرفت على خليل حمسورك في سجن صيدنايا العسكري الأول، حين اعتقل كرفيق في حزب العمل الشيوعي رغم أنه لم يُكمل عامه ال 17.
أحضر حمسورك معه إلى السجن براءة الطفولة وموهبةً فنيةً وشغفاً ترك أثره في الحياة الاجتماعية لدى أغلب رفاقه، فهو فنان سوري موهوب من سكان مدينة الرقة، ومن مواليد كوباني 1969، درس في مركز الفنون الجميلة بالرقة، قبل أن يحترف في السجن فن الحرق على الخشب.
وقد أسعدني الحظ أن علاقتي به تواصلت بعد الخروج من السجن، لأكتشف أنه أصبح مدرسا لفن الرسم وبشكل خاص للأطفال، بل وتميّز في تعليم الأطفال من ذوي الاجتياحات الخاصة، وربما يكون أول من استخدم الفن بشكل عام لمعالجة هؤلاء الأطفال واستعادة الثقة بأنفسهم في مدينة الرقة، ولا أقصد الرسم فقط، بل استخدم معهم تقنية المسرح التفاعلي، وشاركهم في كتابة النص وبناء الديكور والسينوغرافيا وصولاً للإخراج، واستمر بذلك بعد خروجه من الرقة إثر سيطرة “داعش” عليها، إذ عمل بشكل تطوعي مع اللاجئين السوريين لسنوات في تركيا قبل أن يصبح لاجئا في فرنسا، ويبدأ مرحلة جديدة من عمله الفني الذي تطور كثيراً.
وكان لي شرف لقائه في باريس بداية العام “7/1/ 2023” أثناء مشاركته في افتتاح معرضاً في بلدية باريس العاشرة، حيث اتفقنا على هذا الحوار كجزء من عدد أوراق حول الفن والثقافة في مدينة الرقة:
1- خليل حمسورك الفنان المحترف الآن، هل لك أن تُحدثنا عن البدايات وتلك المؤثرات الأولى في طفولتك التي تحولت لاحقاً إلى هاجس الرسم الذي سيطر على حياتك وعالمك؟
– أعتقد أن كل الأطفال بالمطلق يهتمون بالرسم، لأن دهشة الطبيعة هي المؤثر الأول لخلق الرغبة والحب لدى الطفل في تعلم الرسم باعتباره لعبة ليس أكثر، فإذا استمر هذا الّلعب سيكون هناك خلق وإبداع.
أما أنا فعندما كنت طفلاً، كانت والدتي دائمة القلق علي، لأنني كنت ألعب بين الأعشاب المحيطة ببيت أهلي في قريتي، وأغلب تلك الأعشاب كانت من نبتة الخباز الكبيرة بشكل جنوني إضافة لنباتات القندريس والسلبين، وهذه النباتات تستخدمها نساء الريف كلها كمواد غذائية للطبخ والأكل، وأكثر ما أدهشني زهرة القندريس التي ملأت ذاكرتي الطفولية بألوان الطبيعة والحياة.
بعدها انتقلنا لمحافظة الرقة وكنت حينها بالصف الأول الابتدائي، وكنا نسكن حي الرميلة الحديث النشأة، وهو من مناطق المخالفات في مدينة الرقة، بما يعني افتقاره لكل الخدمات فلا ماء ولا كهرباء ولا صرف صحي، وكانت مدرستنا أول بناء طابقي في بداية الحي مقابل سور الرقة الاثري، وكان معظم مدرّسينا فنانين تشكيليين وخطاطين وعازفين على آلة العود، وقد نجحوا بتحويل المدرسة الى لوحة فنية كبيرة، وكان أستاذ الرسم يضع لنا رسمة أو صورة لنرسمها وحين كنت أفشل كنت أنفجر بالبكاء.
في الصف الثالث الابتدائي كان من حظي أن أكون بصف الاستاذ الفنان جورج شمعون، ومن هنا تفتح وعييّ على الرسم والفن حقيقة، وتعرّفت على المركز الثقافي والسينما وكل ذلك بفضل ومثابرة الاستاذ شمعون، وفي الصف السادس سجلت في مركز الفنون الجميلة وكان غير مسموحا التسجيل فيه للأطفال بعمري، لكن الاستاذ الفنان والمحامي فواز يونس قبل بي، وكانت الرقة حينها أي سبعينات القرن الفائت مليئة بالحركة والنشاطات الفنية والثقافية: فواز يونس، عنايت عطار، جورج شمعون، طلال حسيني، موفق فرزات، أحمد معلا، وآخرين ….
بقيت بالمركز حتى فصل الشتاء فقط، إذ توقفت لصغر سني، وبسبب البعد والخوف من المرور بجانب المقبرة ليلاً. لكنني عاودّت التسجيل بالمركز في الصف التاسع، وكم أدهشني أنّ الأستاذ فواز يونس قد احتفظ بكل رسوماتي التي رسمتها عندما كنت طفلاً في الصف السادس، وكان أكثر ما يستهويني في الرسم هو مناظر الطبيعة والصور، مما خلق لديّ هواية التصوير والبحث في كل الزوايا عن أي لقطة جميلة، غير أنني اعتقلت في نهاية الدورة الخامسة، لتبدأ مرحلة عشنا خلالها تجربة جديدة وقاسية من الحياة.
2- كيف كان وقع هذه التجربة عليك بالمعنى الإنساني؟
– ربما عِشتُ هاجس السجن قبل الاعتقال، لأن تلك الفترة الزمنية كانت غنية بالملاحقات والتضييق الأمني والاعتقالات المكثفة. مع ذلك شكّل اعتقالي في هذه السن المبكرة من عمر الطفولة “17 عاما فقط” صدمةً لم أكن مهيأً لها، لكنني تماسكت أمام قسوة أشكال التعذيب والتسييف في فرع فلسطين للمخابرات العسكرية ” حيث ينام كل شخص على جنبه فقط، وبطريقة عقب ورأس متبادلة مع الآخرين نتيجة الازدحام الشديد وضيق المكان”.
اختلف الأمر كثيراً عندما نُقلنا في المرحلة التالية إلى “سجن صيدنايا العسكري الأول بدمشق”، حيث التقينا مع رفاقنا من قدماء المعتقلين وبدأنا في هذا السجن تجربة جديدة من الحياة الجماعية، محاولين التأقلم خلالها مع المكان الجديد بصفته بيئة سنعيش فيها لسنوات غير معروفة، فكان علينا خلق عوالمنا الخاصة بنا من الهوايات والألعاب والمطالعة وتعلم اللغات، وبقدر ما كانت جدران السجن عالية وسميكة وقاسية من حولنا، إلا أننا استطعنا أن نملأ هذا السجن حركةً وصخباً وإبداعاً، وهذا خفف بالتأكيد من وطأة السنوات العجاف دون أن يلغيها.
في يوم ما سألتني صديقتي: هل يمكنك أن تصالح بين الضحية والجلاد؟
فكان جوابي: أنه من المفروض أن نزيح التوحش من الحياة، وحينها لن يكون هناك لا ضحية ولا جلاد، سيكون هناك إنسانية وعدل ومساواة وجمال.
3- بدأتَ في السجن مسيرةً جديدةً مع الحرق على الخشب، حتى أنها سرقتك من الرسم؟
بدأنا في السجن، كما تعرف، حياة جديدة مليئة بالحيوية والتفاعل، من تعلم الموسيقى على يدي أسعد شلاش، إلى تعلم كل اللغات المتاحة، إضافة للقراءة والرسم وحتى صناعة بعض المنحوتات الخشبية الصغيرة والميداليات وأشياء أخرى من حبات اللوز أو بزر الدراق أو قطعة عظم مما يبقى من طعام هزيل، وصولاً لتجارب المسرح ….
وكان اهتمامي الأساسي هو الرسم لكوني طالب فنون سابقاً، لكن الحرق على الخشب استهواني حقيقة بأدواته البسيطة التي هي عبارة عن سيخ موضوع ضمن قطعة خشب دائرية، لنقوم بعد أن نحمّي طرف السيخ وقت تحضير وجبات الطعام على “غاز الطهي” بحرق رسومات أولية على ما يتوفر من قطع الخشب المأخوذة من صناديق الخضار، حتى غدا الجلوس أمام “غاز الطهي” متعة لي، إذ لم نكن نملك رفاهية إشعال موقد الغاز لمجرد هواية الحرق على الخشب.
وقد استهوتني كثرا فكرة المصالحة بين الخشب والنار، حيث تنتشلك الفكرة من عالم التفاصيل الصغيرة التي تسيطر في حياة السجن، الذي يُوصف غلبا بأنّه عالم الصغائر، لكن الانسان في هذا المستوى يُصبح أكثر فهماً لتفاصيل الحياة الصغيرة، فالحياة كلها عبارة عن تفاصيل متراكمة، وهي بتراكمها تصنع الجماليات التي نحبها، لذلك أدركت أن النار تُحيل كل شيء إلى رماد إلا في يديّ، حيث تُحوّلُ النار قطعة خشب مرمية بلا معنى إلى قطعة فنية غنية بالجمال، ولذلك أجرؤ أن أسمي نفسي “المصالح بين الخشب والنار”.
هكذا بدأت رحلتي والتي استمرت سبع سنين عجاف، لكنها كانت زاخرة بالعمل والتعلم، وحسب ما أخبرني رفاقي لاحقا أنني قد أنجزت أكثر من 1000 قطعة خلال مدة سنوات اعتقالي السبع في صيدنا، بحيث أصبح في كل بيت من بيوت رفاقي في السجن لوحة أو أكثر من أعمالي، وقد تمكنت خلالها تماما من حرفة الحرق بهذه الطريقة، ورسمت صوراً كثيرة، ومنذ فترة وجيزة طلب مني أحد رفاقي وهو “عمر رسول” لوحة رسمتها في سجن صيدنايا لتكون غلاف مجموعته الشعرية التي ستصدر قريبا باسم “كي لا يحزن البنفسج” كترجمة للاسم الكردي “.”Ji bo Binefş Diljar nebin
4- هل كان لنشاطك الفني أثر في مقاومة ظروف السجن الصعبة؟
– كما أخبرتك كان اجتماعنا كرفاق في سجن صيدنايا مهماً للغاية، إذ استقرت أحوالنا قليلاً، وأدركنا أن لا مفرّ لنا سوى الجدران. لكنّ تجربة السجن القاسية التي عشتها كشاب صغير في سنّ المراهقة أنضجتني بالتأكيد وأغنت حياتي، إذ منحتني رغم قسوتها تجربة وغنى على صعيد الحياة وفلسفتها وفهمها وإدراك قيمة التكافل والتضامن بين المجموع، ولكَ أن تتصور سعادتي عندما كنت أقدم تلك الخشبة المحروقة ببساطتها لرفيق لي، كي تمنحَ طفلته أو طفله شيئاً من السعادة أثناء الزيارة، وهذا حقيقة كان يَمنحُني سعادة أكثر بكثير من سعادة ذلك الطفل.
ويُمكن القول أنّ على البشر جميعاً أن يتكافلوا ويكمّلوا بعضهم بعضاً، فكلما عاش الإنسان تجربة جديدة كلما فهم جمالية هذه الحياة أكثر، وعرف أيضاً نقيضها القبيح، وفي هذا المستوى كنا نريد من خلال تلك الأنشطة والتفاصيل أن نواجه السجن ونصنع الحياة التي نريد.
6- كيف تضافرت تلك المقدمات في السجن وما بعدها لبلورة فنان حقيقي متعدد المواهب وكثير العطاء؟
– بعد خروجي من السجن التفَّ حولي الأصدقاء وبعض زملاء دراسة الفنون، كالفنانين محمد العكلة وحسن مصطفى الذي كان نزيل سجن صيدنايا هو والفنان طه الطه. وقد عملنا مرسماً مشتركاً لنا، وبدأت المشاركة في المعارض الجماعية في متحف طه الطه، والمركز الثقافي، ومعرض الهواء الطلق في حديقة الرشيد مع تجمع فناني الرقة.
في عام 1999 بدأت بتعليم الأطفال الرسم، وقد نالت إحدى طالباتي حنين عروة مهاوش – صف خامس- الجائزة الأولى على مستوى سوريا، ثم افتتحت مرسمي الخاص، في عام 2001 وبدأت بتعليم الرسم للشباب الذين يترددون على المرسم.
أهم تجربة لنا بدأناها أنا والفنان محمد العكلة عام 2003، تمثلت بالعمل التطوعي مع الأطفال في مدرسة “الصُمّ”، وتمّ إحراز الجائزة الأولى على مستوى الوطن العربي من دولة الإمارات العربية المتحدة، ولاحقاً ازداد العمل التطوعي وتوسّع مع جميع المنظمات والمراكز الخاصة بالأطفال، كجمعية الأيتام وسجن الأحداث والأطفال المكفوفين وأطفال التوحد وأطفال متلازمة داون، وقد حصل تلامذتنا على 98 جائزة دولية وعربية وسورية، وأقول نحن لأني شكّلت فريق عمل مع الفنانين والخطاطين والموسيقيين وفنانين تشكيليين وحتى مسرحيين، حيث عملت كممثل في المسرح ومسرح الأطفال وكمخرج وكاتب في المسرح التفاعلي.
وحتى عام 2010 كان طلابنا قد حصلوا على /98/ جائزة دولية وعربية وسورية، منها 5 جوائز من منظمة اليونسيف، وجائزتان من منظمة اليونسكو،وجائزتان أيضا من منظمة الصحة العالمية، كما أنتجت “قناة الجزيرة” فيلما عن تجربتنا مع الأطفال الصمّ باسم “زمام المبادرة” وهذا هو رابط الفيلم: https://youtu.be/iu2x31hnlU0
7- كيف استطاع خليل حمسورك إنجاز كل هذا العمل في الظرف السوري المعقد كثيرا؟
– كان علينا منذ البداية أن نتعامل مع شروط هذا الواقع المعقد، وفي الوقت ذاته اشتغلنا بروح الجماعة والعمل التطوعي بآن معا، وقد تلقينا دعماً لعملنا من مديرية الثقافة في الرقة بإدارة الصديق حمود الموسى، كما أن العمل التطوعي مع الأطفال الأيتام وأطفال مركز ملاحظة الأحداث في الريف والأحياء المهمشة…. فتح لنا أبواباً وآفاقاً جديدة للعمل، حيث يُمكننا القول أنّنا غيرنا مفهوم العمل التطوعي الكلاسيكي، حين عملنا مع الأطفال المكفوفين لمدة عامين دراسيين وقمنا بتعليمهم الرسم بواسطة اللّمس…. كما ضمّ فريق عملنا التطوعي كافة الاختصاصات من رسم وموسيقى ومسرح، وقد انعكست نتائج هذا العمل ليس في مستوى التعلم فقط، وإنما في مستوى العلاج النفسي للأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة بواسطة الفن، وهي طريقة معروفة عالمياً، كما انعكس أيضا في مبادرة المجتمع الأهلي لدعم عملنا وبشكل خاص مع الأيتام أو مركز ملاحظة الأحداث، حيث قدم لنا أصحاب المحلات في مدينة الرقة معظم المواد مجاناً، من مواد الرسم والطعام وحتى اللباس العادي والمدرسي وكانت تُمنح هذه المواد بكرم فائض، بالمقابل اشتغلنا كفريق عمل بكل الحب والعطاء.
وهنا سأذكر تجربة مسرحية لي عندما كنت في مديرية الثقافة/ قسم ثقافة الطفل والنادي الصيفي/ إذ قمت بكتابة مسرحية مع الأطفال عن الأغذية الصحية والضارة، وكان عدد الأطفال/43/ بين 3 سنوات و 14 سنة عمرية، وكانت الموسيقى الحية على المسرح للصديقين أحمد دالي وقيصر أبو رز، وكان العمل مميّزاً وغنياً بالتعليم والثقافة للأطفال والأهل معاً، مما جعل منه حدثاً مهماً، إذ لأول مرة في مدينة الرقة يُشارك الأطفال بصناعة النص والديكور والإخراج.
8- سبق وتابعت أحد معارض التدريب مع الأطفال الصغار في الرقة، حيث كان الاشتغال على الرسم والألوان هو الأساس، أين الرسم والألوان في نشاطك الفني الآن؟
– اللون هو دراستي وشغفي الأول، هو رفيقي الدائم، ولا زلت أمارس الرسم والتلوين بين فترة وأخرى أرسم الزيتي والاكريليك، كما أنّ معظم العمل مع طلابي يكون بالألوان، لكنّ الحرق على الخشب استغرقني أكثر، وأبحث فيه دائما عن الجديد، كما أعتقد أنّ الحرق على الخشب متلازم مع الرسم والتلوين، وأنا الآن بدأت بتطوير تقنية جديدة لأستخدم التوابل في تلوين أعمال الحرق.
مع ذلك، لا أدري لماذا أحتفظ دائما بأعمالي اللونية جانباً، فيما كل ما أنشره هو من أعمال الحرق على الخشب.
9- بعد سيطرة داعش على الرقة بدأ الخروج باتجاه تركيا، كيف استطعت نقل تجربتك الفنية في التعليم والعمل التطوعي إلى هناك أيضاً؟
– قبل الهروب من داعش والخروج لتركيا عملنا مع الأطفال النازحين للرقة في الشوارع والمدارس والمعسكرات وحتى في مرسمي أيضاً، وكان عملاً مهماً خاصة في مستوى تعافي الأطفال نفسيا من صدمة الحرب وهول التفجيرات والقتل والدمار، ووسيلتنا إلى ذلك هو الفن، وكما أشرت هي طريقة معروفة عالمياً.
في تركيا كانت هذه المهمة أكثر إلحاحا لنا وللأطفال أيضاً، لمحاولة الخروج من صدمة اللجوء، فبدأت العمل التطوعي مع منظمة “بيت قامشلو”، وبعد مجيء الموسيقي قيصر أبو رز قمنا بالعمل التطوعي في أربع مدارس سورية ومنظمتين، منها منظمة بحر.
تركّز نشاطنا في أنطاكيا والأرياف التابعة لها وقد عَملَ معنا العديد من الأصدقاء، حيث قمنا بإنشاء أكثر من معرض في استنبول وأورفا وأنطاكيا، وقد أسس قيصر أبو رز فرقة أوركسترا مع منظمة بحر، بعد ذلك أسّسنا فريق عمل في غازي عنتاب مع الصديق محمد حمدان الصالح وراشد الصطوف وأسعد شلاش وفلك الخالد ومنى فريج، وكنا نسافر كل أسبوع إلى عنتاب للعمل والتدريب.
كما قمت أيضاً بإخراج عمل مسرحي في ريف أنطاكيا باسم “قرية قوملو”، عن نصٍّ للصديقة مفيدة عنكير.
وربما كانت أجمل مشاركة لنا مع فريقنا التطوعي في عيد الطفل التركي في مدينة “غازي عنتاب”.
10- يبدو أن استقرارك في فرنسا منحك مساحة أكبر للإحساس بالأمان والحرية، كيف انعكس ذلك على عملك الفني بالحرق على الخشب؟ وكيف تلقى الجمهور الفرنسي هذه التجربة؟
– بعد وصولي لفرنسا تخلصت من القلق واسترخيت حقيقة، وبدأت بالتعرف على الثقافة الفرنسية وغيرها، كما بدأت مداركي تتسع مع كل خطوة وفي كل يوم جديد، ليس بمعنى الانتقاص من تجربتنا في تركيا، إذ كانت تجربة مهمة وغنية ولا أعتقد أن أحداً قد أنجز ما أنجزناه في سنة واحدة حيث كان عملنا تطوعياً، حيث كنت أجلس في الشارع وأرسم لأعيش، فيما كان مأوانا أنا وقيصر “بيت قامشلو” ….
بينما افتتحت في مدينة ليون الفرنسية مرسمي الخاص، كما عملت متطوعاً مع منظمات فرنسية، والآن أسست منظمة للأعمال الفنية واليدوية سورية فرنسية مع صديقي جان لوك. فأنا كفنان لست متقوقعاً بشخصيتي، بل أنظر للحياة من نافذة واسعة، لأن الفن يمنح أفقا وأمداء أوسع للعقل في الإبداع الذي لا ينفصل عن المحيط، لكن السياسة في مجتمعاتنا المتخلفة خرّبت كل المفاهيم الجمالية والإنسانية، وصولاً لكل أنواع الذائقة، فيما عملت على الاحتفاظ بهاجس التغيير والتعلّم والبحث المستمر عن كل ما هو جديد.
وأنا مقتنع أنّ فَن الحرق على الخشب هو فن أصيل وشائع في كل دول العالم التي زرتها، وسيبقى هو عملي المفضل، حيث قمت بتصميم ديكور لمجموعة مطاعم في ليون، كما بدأت بتدريس فن الحرق على الخشب في مدرسة ثانوية متخصصة للديكور الداخلي، بعد أن عَملتُ لهم دورة أو “استاج” لمدة أسبوع، وهو فن قديم ينتمي للغرافيك أو الحفر على الخشب، كما ينتمي لعالم الزخرفة والديكور، لكنه اليوم يظهر كفن مستقل وله جمالياته الخاصة، بل يبدو مفتوحا على مجالات واسعة للابتكار والتطبيق وصنع الجماليات في كل مجالات الحياة، إذ يبدو متساوقاً مع الموسيقى وتطوير فن العمارة والسينما الأزياء … باختصار هو موجود في كل المجالات.
وقد استطعت تطوير آليات عملي مستفيدا من خبرتي السابقة وتجاربي المتراكمة، إذ أضفت تقنيات جديدة على فن الحرق على الخشب، لم تكن معروفة سابقاً أو عالمياً، حيث استخدمت لأول مرة الشلمون وجهاز ضخ الهواء الحار والتوابل والحفر أيضاً، والآن استخدم الكولاج مع الحرق، وهي تقنية جديدة بالحرق أيضاً، وقد أنجز ووثّق “ألند حمسورك” أفلام يوتيوب لهذه الإضافات المهمة.
ويسعدني جداً أنّ طلابي بدأوا بإنتاج أعمالهم الخاصة، حيث تميّزت طالبتي هند أعبوبا التي شاركت للآن بأكثر من معرض في فرنسا، اسوة بطلابنا في الرقة الذين حصدوا الكثير من الجوائز كما أشرت سابقا. وربما كان أجمل مديح لي هو قول أهالي ليون “الّليونيين” بأني قد أعدّت هذا الفن لمدينتهم بعد 45 سنة من الانقطاع.
11- دعنا نعود إلى البدايات ثانية، حيث يبدو واضحاً انعكاس البيئة الفراتية في وظلالها فيأغلب لوحاتك؟
– هذا سؤال إشكالي، لأني كشخص معجون بالفرات وطقس الرقة الحار وجمالها وبرّيتها وخيامها وبيوت الشعر وقطعان الغنم فيها، وبساطة وكرم أهلها، لذا عندما أحاول الهروب من الفرات أجده أمامي، فلا فكاك لي من عشقه.
لقد شكل الفرات وعيي وثقافتي إذ كنت وأصدقائي نمضي أغلب أوقاتنا هناك، وربما يكون أجمل ما حلمّنا به وحققناه تلك الرحلة عبر تاريخ الرقة “من توتول إلى ماري” مع نخبة من فناني ومثقفي الرقة، وهي من أمتع وأجمل الرحلات والمغامرات التي قمنا بها، والتي ظلّت تتكرر سنويا حتى اندلاع الثورة السورية، حيث توقفت مع اندلاع عنف النظام في مواجهة المطالبين بالحرية والكرامة من أبناء الرقة.
وبالنسبة لي تبقى الرقة ولّادة ومنعشة بحرّها وبردها وعجاجها، ولي الكثير من الأعمال البانورامية عن تاريخ الرقة وحاضرها.