نقد التاريخ ضرورة معرفية. وتلك هي مهمة الرواية! فالنقد، خاصة في شقه الجدلي الذي يكاد أن يكون إشكاليا، هو السمة الأولى من سمات الرواية الإنسانية الحديثة. كيف يمكن للروائي الذي هو النقيض الأساسي للحكاء أن يقف راضيا في مواجهة التاريخ؟ وأي روائي يسمح لنفسه بتبجيل تاريخ هو من مناهضيه؟
التبجيل فعل سكوني فارغ، أما النقد فيتضمن بعداً جدليا واضحا، أو هكذا يجب ان يكون، حتى لو عدائيا. ونحن العرب بحاجة إلى نفحة العدائية التي لا تخفى، هذه.
قروناً، ونحن نبجل ما لا يستحق، ومن لا يستحقون. قروناً، هي القرون التي لم نكن نملك فيها، بعد، فن الرواية الحديث. والآن، بعد أن ملكناه؟
كثيرون منا لا يزالون يرتكبون «جريمة» التبرير والتبجيل. ينشرون بين قرائهم «مساوئ» القبول بما لا يمكن للكائن قبوله. يضعون بين عيون القراء مخطوطاتهم المستندة إلى التصور الاجتماعي المهادن. يبحثون عن رضى هم في الحقيقة المستفيدون الوحيدون منه، مهملين ضرورة تربية قرائهم على مشاعر جديدة لم يألفوها، وتلك هي مهمة الكاتب الأساسية.
اقرأ! ليست اقبل! بل هي: انظر. ابصر. ادرك. وماذا يمكن للقارئ «المخذول» أن يدرك في نهاية القراءة، إن لم يكن ثمة ما يدرك؟ وأي جهد يستحق أن يبذله هذا القارئ المتعطش للمعرفة (على عكس ما يتصوره الكاتب المستوعَب) إلاّ من أجل إدراك ما لم يكن هو على علم مسبق به، مثل نقد «المستتب» من الأمور، مثلا، وعلى رأسها الأمور التاريخية؟ التاريخ ليس الحدث المجرد، المحكي، أو المروي، ولا هو مجموعة من الأحداث والأحاديث، وإنما هو السياق المعرفي الشامل، بما فيه الشق الثقافي والسلوكي. وهو ليس الماضي، حسب، وإنما هو الحاضر، أصلا. والاندماج بينهما واقع لا محالة. لماذا لا تقوم الرواية، إذن، بعملية الخلخلة الضرورية لما هو مستقر ذهنيا، وسلوكيا، لتنقّيه من شوائبه، وتساعد القارئ على تمثل التاريخ؟ وكيف يمكن لها أن تفعل ذلك بغير التعرض بالسوء إلى ما زلنا نسميه «الحقائق التاريخية» وعلى رأسها المبادئ والأقنومات التي كبّلتْنا منذ قرون وقرون؟
الحياة العربية، وبالتالي روايتها المعاصرة، تقوم على السكونية المدمرة للعقل. وغياب النقد الفعال فيها يجعلها صامتة ومقيتة، حتى إن علت أصوات مملوءة بالحس واللغو. وحده، النقد المتحرر من الأوهام الإصلاحية، والمتجاوز لفكرة التعمية، واللابحث عن الإجماع والمقروئية، قد يشعل النور في قبو هذا التاريخ المعتم، وينقذ اللحظة الحاضرة من الموت الذي هي متجهة بقوة إليه. الرواية لا يمكن لها أن تكون نقدية وفاعلة إلا إذا وضعت مسافة ضرورية بينهما وبين التاريخ. التاريخ الذي ستنظر إليه، في هذه الحال، بشكل غير محايد، على العكس مما يدعيه الكثيرون من كَتَبَة الزيف والتعمية والخراب. تاريخها الشخصي، ومن ورائه التاريخ العام، مقدسا كان أم مدنسا، هو الذي سيصير، منذ أن تعي الرواية ذلك، الموضوعة الأساسية التي ستجابهها بمنهجية صارمة من أجل فضح مصادر الخضوع المزمن، والانصياع اللامحدود الذي يعانيه العربي اليوم. وإلاّ ما جدوى الرواية؟ وما أهمية التاريخ؟ الرواية تحمل في بنيتها، أو يمكن أن تحمل، إمكانية الانتهاك، لا الانتهاك المجاني العابث، وإنما ذلك الذي يلقي الضوء على المكونات الثقافية والسلوكية للكائن. وتعطيه المثال الإنساني الذي هو جدير به: مثال التمرد، لا الخضوع، والإبداع لا الانصياع. وهي تستعيد التاريخ لا لكونه فقط مثالا يحتذى وإنما بوصفه حالة جديرة بالمعرفة، دون أن يكون بالضرورة، منهجا للسلوك. هي لا تريد، إذن، أن «تبعث التاريخ» وإنما أن «تبعث الشك» فيه.
لماذا نكتب، إن لم ننقد؟ سؤال يضع الرواية مباشرة في مواجهة التاريخ. وكما قال لوي آرميسترونغ ملك الجاز المشهور لمن سأله عن «الجاز»: «إن كنت، حقا، بحاجة إلى السؤال، فلست بحاجة إلى الجواب»! ومعناه، كما فهمته أنا: «إن لم تدرك هذه الموسيقى بأحاسيسك، فلن يستطيع أحد شرحها لك»! وهو خير ما يعبر عن العلاقة المتواطئة بين تاريخ الكائن، وما يرويه. فالسؤال لا يحيل دوما إلى جواب، إن لم يكن، أحيانا، علامة العجز المطلق عن الإدراك.
العقل العربي مدفون تحت ركام من التقرير والتبرير.. والفن الشعري، المتأبد عند العرب، لم يساعده على تنفس هواء نقدي صالح للإدراك، باعتباره فنا متهيئا، بشكل عفوي، للانضواء في السياق اللغوي الشيّق، في أغلب الأحيان. إنه، أي الشعر، المثل الأعلى، أو كان كذلك، لهذا «العقل البسيط» الذي سار، منذ البدء، بموازاة العقل اليوناني «المعقد» وقد كان، مع ذلك، خير ناقل له. ناقل لم يتأثر بالمنقول عميقا، ولا لمدة طويلة، ولذلك أسباب لا مجال للدخول في مناقشتها، الآن.
أما الرواية العربية الحديثة فقد نشأت في جو آخر، ولها تراث إنساني خاص بها. وهي بحكم حداثتها المطلقة تستجيب للكثير من النظم المعرفية، وتستوعب العديد من البناءات اللغوية، والعلاقات الفكرية المعقدة، ويمكن لها أن تناقش، وأن تنافس كل الأنشطة الإنسانية وعلى رأسها التاريخ. الرواية، من وجهة النظر هذه، ليست استعادة تاريخية، ولو كانت شائقة وممتعة. فالاستعادة حتى لو بدت مطابقة للأصل، خاصة عندما تكون كذلك، تظل تافهة ولا خير منها. «الرواية النقدية» التي تهمنا، هي التي لا يهمها من التاريخ إلا فضحه، بالكشف عن بؤر القمع والظلام فيه، لئلا نسقط فيها من جديد، ولا يلدغ الغافل من جحر إلا مرتين! لماذا نكتب، إن لم نعارض التاريخ؟ لكن كيف يمكن للرواية أن تعارضه، إن لم تقم بنقده بشكل منهجي وصارم، ولا تنازل فيه! نحن نعرف اليوم أن «من يقبل أي تنازل في اللغة، يقبل أي تنازل في الحياة». وهذه العملية المعرفية البسيطة والمنطقية تحتاج، في الواقع، لإنجازها إلى كم هائل من «الحرية». وفي العالم العربي اليوم يتوفر كل شيء وبكميات كبيرة، ما عدا «هذه»! وهو ما غدا مصدراً أساسياً من مصادر «سياد٥ة الابتذال» في الرواية العربية الحديثة، بشكل عام، وإن كان ثمة أعمال تتمتع بمزايا فنية عالية، ذات بعد إنساني جليل.
لماذا لا يكون شعارنا نحن الروائيين العرب: «هم يعارضون السلطة، ونحن نعارض التاريخ».
(القدس العربي)