انطلقَ حديثُنا عن أصول الأغاني العربية المشهورة من مقالة بالغة الأهمية كتبها الأستاذ صقر أبو فخر بعنوان “هارون هاشم رشيد ومقصلة الاستعارة والسطو”، نشرها في “ضفة ثالثة” 6 آب 2020، وأورد فيها عدداً من الأمثلة عن أغنيات اقتبسها بعض الملحنين – ومنهم الأخوان الرحباني – عن مبدعين آخرين، فعُرفت باسم المُقْتَبِس، وبقي مؤلفُها الأصلي مجهولاً لا يعرفه سوى المهتمين بالبحث والتوثيق.. وكان أكثر الأمثلة إثارة أن أغنية “زوروني كل سنة مرة” التي اقتبسها الرحابنة عن سيد درويش، وكان الأخير قد اقتبسها عن الملا عثمان الموصلي! وهذا كلام سيبدو منطقياً عندما نقرأ في سيرة سيد درويش أنه تتلمذ، في حلب، على يد عثمان الموصلي، وأما أستاذه الأبرز، درويش الحريري، فقد تعلم الغناء والموشحات والمسرح الغنائي من أبي خليل القباني.
لا يوجد خلاف حول صحة الأمثلة التي جاءت في مقالة الأستاذ صقر، ولكن، يجدر بنا الإقرار بأن الأخوين الرحباني كانا يحشدان لخدمة مشروعهما الفني كلَّ ما هو جميل ومتميز من الأشعار والألحان، مما يؤلفانه -وهما مبدعان في الشعر كبيران- أو يقتبسانه؛ مع الإشارة إلى المصدر أحياناً، وإغفاله في كثير من الأحيان.
هذا كله قابل للأخذ والرد، وثمة وجهات نظر متباينة حول مشروعية الاقتباس، ومستوى الاقتباس، فهناك مَنْ يقول إن قصيدة “حامل الهوى تعبُ” معروفة أنها لأبي نواس، والأبيات الغزلية الرائعة “ولقد ذكرتك والرماحُ نواهلٌ” لعنترة، وموشح زمان الوصل للسان الدين بن الخطيب، سواء أذُكِرَ اسم الشاعر في سجل الأغنية، أو وُضعت مكانه عبارة “شعر قديم”.. وثمة مَنْ يذهب، من جهة أخرى، إلى أن الأغاني الفولكلورية هي ملك الأمة، ويحق لأي مبدع كان أن يعيد إنتاجها بطريقته الخاصة، بدليل أن الأغنية الأصلية لا تُسجل على اسم المقتبِس، بل تسجل على اسمه النسخةُ التي أبدعها هو، كأن نقول، مثلاً، إن فيروز غنت “بردا برداني بردا” من فولكلور بلاد الشام، ولكن بتوزيع الأخوين الرحباني. ونتحدث، كذلك، عن ثلاث نسخ من أغنية “يا جارة الوادي”، نسخة محمد عبد الوهاب، ونسخة نازك، ونسخة الرحابنة- فيروز.
يحضرني هنا مثال آخر، أغنيةُ “أبو خليل القباني” الشهيرة (يا طيرة طيري يا حمامة) التي غنتها فيروز بصياغة شعرية وموسيقية رحبانية، وغناها كل من صباح فخري، وحنان، وأصالة نصري، ورشا رزق، وغناها كثيرون حتى ليمكننا أن نتساءل عن المطرب الذي لم يغنها في حفلة رسمية أو في جلسة خاصة! وباعتقادي أن النسخة الوحيدة التي تختلف عن النسخة القبانية الأصلية، وعن النسخ المتداولة الأخرى، هي التي غنتها شادية في فيلم “خياط للسيدات 1969″، من كلمات عمر حلبي وألحان سهيل عرفة، وهذه بعض كلماتها:
يا طيرة طيري يا حمامة روحي على بر السلامة
روحي على ديرة أحبابي يلي اشتاقوا بغيابي
وهاتيلي من إيدُن علامة
أنا على ناري- تاهت افكاري- دوبني البعد حرام والله..
يا طيرة طيري يا حمامة، وديلن سلام..
الفرقة صعبة يا حمامة، وبتزيد الآلام..
أنا والله من بعد غيابُن جافاني المنام..
وعيوني جافتها الدمعة.. ونستني الابتسامة..
تحدث الأستاذ صقر أبو فخر في مقالته المشار إليها عن مشروع التوثيق الغنائي الفولكلوري الذي أنجزه المطرب السوري مصطفى هلال، واستفاد منه الرحابنة وغيرهم، وهذا يقودنا للحديث عن مشروع مماثل أنجزه المطرب الأردني الشهير توفيق النمري (1918- 2011) فقد قام بعملية توثيق كبرى للتراث المتداول في مختلف أنحاء المملكة الأردنية الهاشمية، بدعم من رئيس الوزراء هزاع المجالي.. فكان “النمري” يغني الأغاني الفولكلورية بصوته، بعد أن يرمم كلماتها، ويلحنها، فتنتج عنها ما يمكن تسميتها “النسخة النمرية”، وكان يأخذ عنه مطربون آخرون، منهم وديع الصافي ونجاح سلام وسميرة توفيق، وللعلم فإن أغنية النمري “وشلون أنام الليل وإنتوا على بالي” تتضمن المقطع التالي:
يا صبابين الشاي زيدوا حلاته
اللي ما يحب الكيف لشو حياته
وهو المقطع الذي تحول مع سميرة توفيق إلى أغنية شهيرة حازت شهرة واسعة..
وعلى ذكر “صبابين الشاي”، اشتهرت قبل بضع سنوات أغنية “فيديو كليب” لمطربة صاعدة اسمها “إلين خلف” تبدأ على النحو التالي:
قال له أمان يا دكتور.. جسمي تقلت حركاته
تليها أغنية يا صبابين الشاي.. وهذه النسخة المزدوجة ليست مأخوذة من توفيق النمري ولا من سميرة توفيق، بل من المطربة السورية طَرُوب (أمل إسماعيل جركس) التي كانت على سروج خيلها في السبعينيات والثمانينيات وشكلت مع المطرب الفلسطيني محمد جمال ثنائياً ظريفاً.
ومثلما يُتَّهَمُ الأخوان الرحباني بأنهما أخذا أشعاراً وأغانيَ من مبدعين آخرين، كان هناك محاولات لسلبهما بعضاً من إبداعهما النادر. ومن أكثر هذه المحاولات غرابة، وبعداً عن المنطق، واحدة تحدث عنها الناقد محمود الزيباوي في مقالته بموقع المدن 26 تشرين الثاني 2016، أشار فيها إلى مقالة كتبها طوني حداد، نسبَ فيها قصيدتين من روائع الرحابنة إلى الشيخ النجفي علي بدر الدين.. هذا الشيخ، بحسب تعريف طوني حداد، من مواليد جنوب لبنان عام 1949، ظهرت لديه موهبة الشعر وهو صبي، وأبدع في القصيدة الغزلية ولم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، وقد التقى عاصي الرحباني، بترتيب من أحد الأصدقاء، وباعه أكثر من قصيدة، لقاء ثلاثين ليرة لبنانية ثمناً للقصيدة الواحدة. فخرجتا إلى النور- بتلحين الأخوين الرحباني وبصوت فيروز دون ذكر اسم الشاعر – وهما: لقاء الأمس، وعصفورة الشجن.
لم يذكر طوني حداد مصدر الخبر، وقد نقله في الواقع عن مقالة لـ جواد غلوم نُشرت في آذار 2016 تحت عنوان “أيام الشاعر علي بدر الدين النجفية”..
في الواقع، تسقط هذه الرواية بسرعة عندما نعلم أن فيروز سجلت أغنية “لقاء الأمس” أول مرة في العام 1953 أيام محطة الشرق الأدنى ضمن لوحة غنائية رحبانية هي “حلوةُ الموطن”، وكان علي بدر الدين (المولود سنة 1949) يومها، في الرابعة من عمره!
* ولهذا الحديث شجون
تلفزيون سوريا