لم يكن أحد من المثقفين السوريين يعاتب اتحاد الكتاب العرب، أو نقابة الصحفيين، عندما يسكتان عن اعتقال كاتب، أو مجموعة من الكتاب، مع أن الجهتين المذكورتين تعلمان تماماً أن الاعتقال سببُه الرأي، فالكتاب ليسوا مسلحين، ولا مخربين، وليس في مقدوره أحد منهم أن يزرع عبوة ناسفة في مكان ما.
(ملاحظة أولى: لا الاتحادان يجرؤان على التطرق لموضوع الاعتقال، ولا أحد يجرؤ على المعاتبة، لأنه سوف يؤاخذ عليها بالتأكيد. وهكذا كانت الاعتقالات كلها تجري بسلاسة).
لا يذهبنَّ خيالك، عزيزي القارئ، إلى أن الكاتب السوري صاحب الرأي يُعتقل لأنه نشر رأيه في صحيفة، أو مجلة، أو نشرة دورية محلية، فالمطبوعات كلها محاطة بشبكات متداخلة من الرقباء، والأمنيين، والمخبرين، ويتربع على إدارتها أشخاصٌ جبناء يهربون وينظرون وراءهم إذا داس الواحد منهم، بالخطأ، على ظله.. يعني، من المستحيل أن يعبر حتى البط في تلك الوحلة.. ولكن الاعتقال يحدث، غالباً، عندما يقول كاتبٌ ما رأيَه في أحد المجالس وهو يظن، من فرط غفلته، أن المجلس خلو من كتَّاب التقارير..
(ملاحظة ثانية: بعد الاعتقال لا ينفع الكاتب أن يتراجع عن كلامه، أو يتوب، أو يقول عكس الرأي الذي سُجن من أجله، خلاص، هو أخطأ، وسُجن، وحكايته أصبحت – على قولة المثل – فاطمة بنت فطوم).
على ذكر الأمثال الشعبية، أعتقد أن أعز الأمثال الشعبية على قلب نظام الأسد هو (مَن جربَ المجرب، عقلُه مخرب)، ولذلك وضع على رأس اتحاد الكتاب العرب علي عقلة عرسان، وعلى رأس نقابة الصحفيين صابر فلحوط، وقال لهما: سيدا وميدا وابقيا في مكانيكما إلى الأبد.
(ملاحظة ثالثة: مات حافظ الأسد نفسه في سنة 2000، وبقي علي وصابر على قيد الحياة، وهذا ربما يفسر لنا معنى عبارة إلى الأبد).
استجدت، خلال السنوات العجاف الطوال اللواتي حكمت فيها عائلة الأسد سوريا، مهنة ربما لم يوجد مثلها في العالم الحديث كله، باستثناء العراق ومصر والاتحاد السوفييتي وكوريا الشمالية وسوريا، هي مهنة “المُخبر”، وبسبب كثرة المخبرين، وفاعليتهم، وشدة بطشهم بالناس، اخترع لهم الشعب تسميات غريبة من قبيل: عوايني، كتيب تقارير، نَقّيش تقارير، خطه كويس، وهي مصطلحات غير قابلة للترجمة إلى لغات أخرى، فإذا أنت حاولت أن تشرح لصديقك الألماني، أو السويدي، إحدى هذه العبارات، لا بد أن ينشف ريقك، وتتعب، وتضطر لتغيير مجرى الحديث، لأن الرجل الأوربي عموماً لا يمكنه أن يستوعب أن رجلاً يُساق إلى فرع فلسطين، ثم إلى سجن تدمر، وقد يمضي بقية عمره هناك، أو ربما يشنق، أو يُمَاتَ تحت التعذيب، لسبب وحيد، هو أن شخصاً مجهولاً كتب به تقريراً.
(ملاحظة رابعة: إذا أغرتك لغتك العربية، فصغتَ جملتك أمام الرجل الأوروبي على النحو الآتي: كتب بحقه تقريراً لا يقف عليه حكيم، أو: نفضه بتقرير من كعب الدست، سيزداد الرجل حيرة، لأنه لا يعرف ما علاقة (الحكيم) بالتقرير، بأمن البلاد، بفلسطين، بالدست، بصحراء تدمر).
كانت لدى صديقي الأديب الراحل تاج الدين الموسى حساسية خاصة تجاه المخبرين، ولم يكن يتحفظ بالكلام عندما يلتقي بأحد الرجال المحسوبين على السلطة، بدليل حكايته مع الرجل الذي التقيناه معاً في مكان عام بإدلب، سنة 2008 على ما أذكر، وفي سياق الحديث العام عن الديمقراطية، استشهد ضيفنا بقول منسوب لحافظ الأسد هو (لا علاج لعيوب الديمقراطية سوى تطبيق المزيد من الديمقراطية)، وقتها انفلتت مع تاج البراغي والصواميل والفرامات، فقال للرجل ما معناها أننا نعرف، وكل الناس يعرفون، أن هذا الكلام معد للتصدير، فحافظ الأسد الديكتاتور من أعدى أعداء الديمقراطية.. ولكن، على فكرة؛ إذا كنت تقوله لنا لأنك تعتقد أننا مخبرون، اطمئن، أؤكد لك أننا، أنا وخطيب، لا نشتغل هذه الشغلة الحقيرة.
قال الرجل: حاشاكم. والله لم أقصد.
قال تاج: لماذا تمجده إذن وتحكي لنا عنه وكأنه من كبار المنظرين للديمقراطية؟ سؤال آخر يهمني أن أعرف منك جوابه: أنت تحب حافظ الأسد؟
قال الرجل: نعم.
فضحك، وراح يحكي له عن الرحالة العثماني “أوليا شلبي” الذي كان يتحدث عن الأعاجيب، وقال إن أوليا شلبي لو حضر مجلسنا هذا لقال: وعثرنا في مدينة إدلب، سنة 2008، رجلاً يحب حافظ الأسد!
(ملاحظة خامسة: تبين لنا أن ذلك الرجل يحب حافظ الأسد بالفعل، وهو ليس بمخبر، بدليل أننا، تاج وأنا، لم نستدع إلى أي فرع أمن بسبب هذه الحادثة).
وكنا نتعشى، ذات مرة، أنا وتاج في مطعم “أورينت هاوس” بإدلب، وإذا بأمين فرع الحزب يمر بقربنا. توقف، وقال لمرافقيه:
– اسبقوني، لاحقكم.
وقال لنا: حابب اقعد معكم شوي.
رحبنا به. جلس. طلبنا له مشروباً ساخناً.
فاجأنا الرجل، منذ البداية، بكلام عن أهميتنا نحن الاثنين على مستوى الحركة الأدبية السورية، وأشار إلى أنه غير متابع للحركة الأدبية العربية، ولكنه يعتقد أن لنا فيها حضوراً لا بأس به، وأوضح أن هذا الحكي ليس من عنده، فكثيراً ما يُسأل عنا، أو يُذْكَرُ اسمانا أمامه في دمشق، وغيرها من المدن الكبيرة.
شكرناه على هذا الإطراء، وقال له “تاج الدين” خالطاً المزاح بالجد:
– ومع ذلك أنتم المسؤولين في محافظة إدلب روح قلبكم الشاعر المُخبر “فلان الفلاني”.
قال أمين الفرع بجدية تامة: بدي أكون صريح معك يا أبو مصطفى، أنا بصفتي أمين فرع، عندما يأتيني فاكس من القيادة القطرية، يطلبون فيه إقامة مهرجان شعري خطابي في مناسبة قومية، أجد الشاعرَ فلاناً الفلاني هذا أحسن من كل أدباء سوريا، ألا يقولون إن حنا مينة ونزار قباني وعبد السلام العجيلي وحسيب كيالي وسعد الله ونوس كتاب كبار؟ نعم، كبار، لكنْ فلان (عندي) في تلك اللحظة أهم منهم وأكبر منهم مجتمعين، مع إنه صفر على الشمال، وعندما تحضر سيرته بين الناس يشبعونه مسخرة.. ولكن، تصور، أنا أقول له، مثلاً، بدي اياك بكرة الساعة ستة مساء، في صالة الخنساء، وحامل معك خمس قصائد مديح بحق السيد الرئيس، وهو يصل قبل ساعة من الموعد، وفي حقيبته بدل الخمس قصائد عشرة.
(ملاحظة سادسة: أجمل ما في هذا المسؤول البعثي صراحته وصدقه).
*تلفزيون سوريا