خطيب بدلة: جماليات الغناء.. عن وديع الصافي وثياب أميرته

0

التغزل بثياب المرأة سمة أو “ثيمة” موغلة في عمق تاريخ منطقتنا، وله أسباب كثيرة، وشجون. لعلّ السبب الأبرز، في رأيي، أن الشعر الذي يُغنى في عصرنا هو امتداد للشعر العربي القديم، يحمل بعضًا من خصائصه، ولعل الجديد في الأمر هو غناء الشعر المكتوب باللغة المحكية، إلى جوار الشعر الفصيح. ومما قاله الشاعر الغنائي، جوزيف حرب، أن الشعر المحكي لم ينل حظه حتى الآن من الدراسة والتحليل، لأنه جديد، بينما الشعر العربي عمره مئات السنين.
كان الشاعر القديم، في الأغلب، لا يرى محبوبته عن كثب، أو في أوقات متقاربة، بسبب الفصل الاجتماعي الكتيم بين الجنسين، لذلك يتغزل بما يدل عليها من آثار، والجميع كانوا محكومين بهذا النأي، حتى مجنون ليلى، الذي يقول:
تخبّرني الأحلامُ أني أراكُمُ
فيا ليت أحلامَ المنامِ يقينُ.
وقد يبدو مضحكًا لنا، اليوم، أن شاعرًا فطحلًا، مثل زهير بن أبي سلمى، عندما أبدع معلقته، لم يكن قد اقترب من دار محبوبته “أمّ أوْفَى” منذ عشرين سنة:
وقفتُ بها من بعد عشرينَ حجة
فلأيًا عرفتُ الدار بعد التوهمِ.
وبعدما أيقن أن هذه الخرائب هي أطلال دارها، تغزلَ حتى بالأثفية التي كان أهلُها يستخدمونها للطبيخ، فقال:
أثافيَّ سُفعًا في مِعَرَّسِ مِرْجلٍ
ونؤيًا كجذم الحوض لم يتثلمِ.
وأما الشاعر الفطحل الآخر، امرؤ القيس، فتغزل بـ بَعْر الغزلان المتناثر بالقرب من الدار المهجورة، فقال:
ترى بعرَ الآرام في عَرَصاتها
وقيعانها كأنه حَبُّ فُلْفُلِ.
السبب الثاني؛ يتعلق بطبيعة الحياة الاجتماعية في البلاد العربية بشكل عام، بمعنى أن الشاعر يتغزل ضمن ما هو مسموح به (الثياب)، فتخيلوا لو أن شاعرًا تجاوز هذا الحد، لا سمح الله!
والسبب الثالث، يستند إلى سابقه: وهو أن الشاعر الذي لا يجرؤ على تجاوز منطقة التغزل بالثياب، يريد تضمين قصيدته رسالةً إلى محبوبته، معناها: أحب كل شيء فيكِ. ابتداء من المنديل والشال، وحتى كعوب رجليكِ، على حد تعبير سلطانة الطرب منيرة المهدية، وبعدها مرسي جميل عزيز.

الأثواب والفساتين

يمكن أن يكون الثوب الذي يتغزل به المطرب قليلَ الخصوصية، كما في أغنية سيد إسماعيل “يا أم التوب أخضر ليموني”، التي لحنها الموسيقار عبد العظيم عبد الحق، في بداياته.
ومن هنا، يمكننا تصديق ما ذهب إليه بعض النقاد حينما قالوا إن نزار قباني أحدث ثورة في مضمار النظر إلى المرأة، والدليل أن محبوبته تعرفُ ولعه بثيابها، سواء الجديدة أو القديمة، فتترنم بثيابها معه، ولأجله. ولعل قصيدته “أيظن”، التي غنتها نجاة الصغيرة، من ألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، خير دليل على ذلك:
حتى فساتيني التي أهملتُها
فرحتْ به، رقصتْ، على قدميه.
وفي قصيدة نزار قباني الأخرى “ماذا أقول له؟”، التي لحنها محمد عبد الوهاب أيضًا، تقول نجاة:
ما لي أحدقُ في المرآة، أسألُها:
بأي ثوب من الأثواب ألقاه؟

المرأة الرحبانية

لا يقل الأخوان الرحباني احتفاء بـ ثياب المرأة وزينتها من نزار قباني، مع وجود اختلاف ظاهر بين التجربتين، فالرحبانيّان يبتعدان كثيرًا عن الإثارة الحسية التي تُحدثها كلمات نزار.. فعقد الياسمين، والتنورة، والشال تذكر من دون أن تثير أي عواطف سوى الطرب.. مثال ذلك المونولوج الذي يؤديه نصري شمس الدين ضمن اسكتش “القول:
كانت هَاكي الحلوة بعمر الولدني
تبقى بـ عقد الياسمين مزيني
تقلو احكيلي عالمحبة والهوى
تـ إلحقك ع آخر شطوط الدني.

وأغنيته الأخرى:
شو حلوة هالتنورة.. على جسمك متل الصورة.. تلبق لك تنورة حلوة.. القالب غالب يا اهل الله..
ومثلهما أغنية فيروز التي كتبها عاصي وغنتها فيروز سنة 1959، واتُّهم عاصي، يومها، بأنه أخذها من الزجال زين شعيب، وتقول:
سمرا يا امّْ عيون وساع.. والتنورة النيلية
مطرح دَيِّق ما بيساعْ.. راح حطك في عينية.
وهي الأغنية التي عدها الناقد سعيد فريحة، في تلك الأيام، هابطة، وأحدث حولها لغطًا حسمه المستمعون عندما أحبوها وراحوا يستمعون إليها ويغنونها في كل مكان.



ثياب محتشمة
من جهة أخرى؛ اشتهرت مطربات عصر النهضة الغنائية الكبرى بالاحتشام في الملابس.. ومع أن أم كلثوم ونجاة وفيروز وغيرهن، ظهرنَ في أدوار بطولة نسائية في السينما، إلا أن ظهورهن المصور، في السينما، أو التلفزيون، أو على المسرح، استمر على هذا النحو المحافِظ. وربما كان الاستثناء الوحيد أن نجاة ظهرت في فيلم “سبعة أيام في الجنة” مرة بثوب نصف كم، ومرة أخرى بثوب طويل يُظهر بعض صدرها وزنديها.


طرفة
من طرائف الموسيقار حلمي بكر أنه قال، في مقابلة تلفزيونية، أننا كنا في السابق نقول: عايزين (نسمع) أغنية، وأما الآن فيقول الناس (شفنا الأغنية)، وبما أن العين حلت مكان الأذن في الاستماع إلى الأغاني، فقد أصبحت (الكليبات) مكانًا للمبارزة بين المطربات في مجال استعراض الملابس والحلي..
من هنا، نصل إلى مقارنة من نوع آخر، يتابع حلمي بكر، وهي أن المطربة في السابق كانت تقول: صار وقت الحفلة، أقوم بقى ألبس. واليوم تقول: صار وقت تصوير الأغنية، أقوم بقى أقلع!
ويقول كمال الطويل: جمهور العصر المتأخر لا يذهبون إلى المسارح ليستمعوا إلى الغناء، بل ليرقصوا مع المطرب، وهكذا يسمع المرء بـ (وسطه).



وديع الصافي وأميرته
لا يجوز، في النقد، أن نقول إن بيت الشعر الفلاني هو أجملُ بيتٍ قالته العرب، سواء في الغزل، أو في الفخر، أو في الهجاء، أو في الرثاء. والكلام نفسه ينطبق على الغناء، فلو كان ذلك جائزًا؛ لقلت إن ما غَنَّاه وديع الصافي عن ثياب محبوبته هو الأجمل:
كرمال قلبي يا عيوني تْصَبَّرُوا
عليِّ وعَ سكب الدمع لا تتكبروا
وقدام يَللي بحبها رشوا الطريق
لا تخلوا تيابها يتغبروا

يا حلوة ارفعي الجَمْبَر

وعلى هذا المنوال، ننظر إلى أغنية معن دندشي:
يا حلوة ارفعي الجَمْبَرْ.. لا يتغبَّرْ
كلمة شمبر، بالشين المفخمة (çember) تركية، وتعني الدائرة.. وللتوضيح: ثمة، في القسم السفلي من ثوب المرأة، دائرة واسعة، هي الأقرب إلى الأرض، كانت تسمى، منذ أيام العثمانيين، “الشَمْبَر”، فإذا عَبَرَت المرأةُ مكانًا مُتْرِبًا مغبرًا، كان يجب عليها أن ترفع الشمبر، لئلا يتغبر.. وفي السابق كان هذا الشمبر يُصنع بطريقة الزيك زاك، فيقال: هذا الثوب له كَشْكَش.. ومن الواضح أن المعنى الذي أتى به وديع الصافي هو الأجمل، لأنه يطلب من الناس أن يرشوا أمام حبيبته الطريق، كما لو أنها أميرة، بينما ينصح معن دندشي محبوبته الحلوة بأن ترفع شمبر ثوبها بنفسها.

*ضفة ثالثة