خطيب بدلة: القصة الهزلية.. قصص ممدوح حمادة أنموذجاً

0

مفهوم السخرية ملتبس. سببُ التباسه وجود مترادفات كثيرة تحمل معاني مختلفة قريبة منه، كالهجاء، والكوميديا، والهزء، والتهكم… كثير من الناس يعتقدون أن الكاتب الساخر يجب أن يُضحكنا، حتماً، حتى إن أحد الأدباء قرأ مجموعة قصصية لكاتب ساخر، وعلق قائلاً (قرأتها ولم أضحك).. علماً بأن الكتابات التي يُصطلح عليها بـ “السخرية السوداء” تؤلم، وقلما تُضحك، ومثالها مقالات الراحل محمد الماغوط.

لست الآن بصدد تتبع معنى السخرية، وما يتفرع عنه، ولكنني مقتنع أن أعلى درجات السخرية هي الهَزْل، والهزل وحده هو الذي يُضحك.

يقف وراءه الهزل، عادةً، كاتب كبير، مثل أبي عثمان الجاحظ الذي ظهر هازلاً في كثير من مؤلفاته، منها كتاب البخلاء، حيث بخيلُه يفكر بصوت مسموع، باحثاً عن أحسن طريقة للتقتير، فيضحك عليه الناس.

ومن مؤلفات الجاحظ الهزلية “رسالة التربيع والتدوير” التي يخصصها للاستهزاء برجل من خصومه يدعى أحمد بن عبد الوهاب، كاريكاتيري المنظر؛ طوله ذاهب في عرضه، مربع، مدور، جعد الأطراف، قصير الأصابع، بالإضافة إلى كونه سخيف الطباع، يحاول إبراز عكس ما فيه من صفات وطباع وأخلاق، لذا يجلس الجاحظ في مواجهته، متظاهراً بالجد، ويطرح عليه أسئلة تجعله أضحوكة بين الناس إن هو أجاب عليها، ومسخرةً إن تجاهلها.. (وهذه مناسبة للقول بأن عقل الكاتب الهازل يجب أن يكون مكتظاً بالمعارف والعلوم والأفكار، إلى درجة أن أستاذنا الجاحظ يطرح على خصمه مئة سؤال، بسلاسة استثنائية).

يقول الجاحظ مخاطباً خصمه: “أطال الله بقاءك، وأتم نعمته عليك، وكرامته لك، قد علمت أنك لا تُحسد على شيء حسدك على حسن القامة، وضخم الهامة، وعلى حور العين، وجودة القد، وعلى طيب الأحدوثة، والصنيعة المشكورة، وأن هذه الأمور هي خصائصك التي بها تكلف، ومعانيك التي بها تلهج.. إلخ”.

هناك شعراء عرب كبار تمكنوا من بلوغ جماليات الهزل بالشعر، مثل جرير الذي يصف مهجوَّه التغلبي بأنه، عندما (يتظاهر بالكرم) يتنحنح، ويحك استَه، ويضرب الأمثال! ويبلغ ابن الرومي في هجائياته الشهيرة قمماً للهزل، بعضها في هجاء الشكل، وهذا نوع غير عادل من الهجاء، كقوله “غارت أخادعه ورق قذالُه.. فكأنه متربصٌ أن يُصْفَعَا”، وبعضها الآخر في ذم الطباع، كما في وصفه البخيلَ المدعوَّ “عيسى” بأنه لو استطاع، من شده بخله، لتنفس من منخر واحدِ!

ومن الكتاب الساخرين، في العصر الحديث، أبو زهدي، حسيب كيالي (1921- 1993) الذي كان ساخراً على العموم، ولكنه، في بعض قصصه، يبلغ قمة الهزل، كقصة “يا إخوان”، وبطلها شيخ واقف على المنبر، في أحد مساجد إدلب، يخطب، ويتحدث مع الناس بـ “الجبّيسي”.. وقصة “التابوت” التي تحكي عن رجل أراد أن يضع جثمان أبيه في تابوت، فوجد أن التابوت أصغر من الجثمان.. وهناك المعلم الكبير تشيخوف الذي يبلغ في بعض قصصه القصيرة قمماً هزلية عالية، كقصة صاحب العمل الذي جلس يحسب لخادمته أجرتها، ويخصم عليها غرامات وجزاءات، حتى يصل إلى أنها هي التي يجب أن تدفع له!

وأما الكاتب التشيكي ياروسلاف هاشيك (1883- 1923) فيذهلنا برواية تقارب 700 صفحة، عنوانها “الجندي الطيب شفيك”، هازلة من مبتداها إلى منتهاها. التشيكيون، حتى اليوم، يتندرون بفصولها ويضحكون.

وفي مصر الشقيقة أحمد رجب (1928- 2014) الذي أصدر بضع مجموعات قصصية كلها هزلية مضحكة.

أول ما خطر لي (محسوبكم)، عندما باشرت بقراءة مجموعة الأديب والسيناريست السوري ممدوح حمادة القصصية التي تحمل عنوان “دفتر الأباطرة” هو: الهزل. وإذا كان الهزل، بطبيعته، ممتعاً، فإن ما يزيد قصص ممدوح حمادة جمالاً هو مقدرته الاستثنائية على تحويل سيرة الديكتاتور، أي ديكتاتور كان، إلى مهزلة، أو – كما يقولون أحياناً – مسخرة.

تدور قصص المجموعة، كلها، في دول محكومة بنظام ديكتاتوري، لا يحصل فيها شيء غير الهزل الناجم عن صلابة العقليات، والأعراف، والفرمانات، وتكلسها. ولأجل إنشاء الهزل يسرد ممدوح أحداثاً متلاحقة، يتناسل بعضها من بعض، وتبدو منطقية، ولكنها غبية، ومضحكة.

لنأخذ مثالاً واحداً، هو: قصة “الأجرودي”.

ثمة مملكة يتوسطُ عَلَمَها شاربان معقوفان. الملك وحاشيته يعتزون بضخامة شواربهم، وكل مواطن لا تنبت شواربه يُرسل إلى السجن، وفي القانون نص يعاقب المعارضين ذوي الشوارب بحلق شواربهم على الملأ، من أجل إلحاق أقصى درجات الإهانة بهم..

وبمصادفة جد عجيبة، وبارعة، يكون ولي عهد الملك أجرودياً! وهنا تتصارع عاطفة الملك الأب مع نواميس المملكة، والعاطفة الأبوية، في المحصلة، تغلب، ويحاول حل المشكلة عن طريق المشعوذين بدهن وجه ولي العهد بالروث، ونخاعات القرود، ولكن، لا جدوى.

يؤول الحكم، أخيراً إلى الأجرودي. (وفيما بعد، يسمي المؤرخون هذه المرحلة: مرحلة الأجرودي). فماذا يفعل الملك الجديد؟

يستفزه منظر الشوارب المعقوفة إلى الأعلى، ويفكر بإصدار فرمان بحلقها، ولكنّ مستشاريه يحذرونه من هذه الخطوة، لئلا يستغلها أنصار الجمهورية ضده.. اقترحوا عليه خطة للتخلص من الشوارب تدريجياً، بفرمانات متعاقبة، أولها تحديد شكل الشوارب لموظفي كل قطاع حكومي. الناس بكوا أمام المرايا وهم يتخلصون من الزوائد والعقفات، تطبيقاً للفرمان. فرض الملك ضريبة على الشوارب، متوقعاً أن يحلق رجال مملكته شواربهم توفيراً للمال، ولكنه فوجئ بالطوابير أمام الدوائر المالية لأجل تسديد الضرائب. ولأن الضرائب عبء، وحلاقة الشوارب عيب، انتشرت السرقات في مدن المملكة، وأما الذين حلقوا فقد تحولوا إلى ملثمين. وفرضت ضريبة تصاعدية تعتبر الشوارب المعقوفة نوعاً من (الرفاهية).

تفتقت المخيلة الشعبية عن حلول رائعة: منها حلاقة الشوارب للتهرب من الضريبة، وتركيب شوارب صناعية، يزهو بها المواطن طالما هو بعيد عن “دوريات مكافحة الشوارب”. واخترع تجار الأزياء شوارب متنوعة، تشبه رموش النساء، ومختلف الموضات الصيفية والشتوية.

أصدر الملك فرمانات تقضي بمنع صناعة الشوارب، والاتجار بها وترويجها، وأعلنت حالة الطوارئ في البلاد، وصار من يُضبط متلبساً باقتناء الشوارب المستعارة، يقتل، أو يشرد، أو يسجن في ظروف مرعبة.

تم تشكيل حزب سري، جمهوري، معارض، وصارت جدران المدينة تكتظ بمنشورات تندد بتصرفات الملك، وتدعو إلى إقامة دولة شوارب حديثة، مع أن أعضاء المكتب السياسي في الحزب الجديد انقسموا حول رؤيتهم لشكل الشوارب الذي يجب أن يعتمده الحزب في نضاله.

اضطر الملك لأن يشكل حزباً جديداً، كرد فعل على الحزب المعارض، وارتدى شاربين مستعارين كبيرين، وفي اليوم التالي انتسب 90% من أنصار الشوارب للحزب الجديد، سيما وأن جماعة الملك صاروا يوزعون الشوارب الاصطناعية بالمجان.

استقرت الأحوال في المملكة، أخيراً، باعتماد الشوارب الصناعية، ولدى التفتيش على الحواجز يقلع المواطن الشاربين، ليثبت للدورية أنهما ليسا أصليين.

وصارت التحية بين الناس، تتم، بدلاً من رفع القبعة، برفع الشوارب!  

*تلفزيون سوريا