محسوبكم، كاتب هذه الأسطر، من أنصار انتقاد الثورة والثوار، بشكل واضح وصريح ومباشر. لا أرى أية جدوى، بعد عشر سنوات ضياع وانتكاسات ومذابح، من التكتم واللفلفة والمغمغة.
وردت في مقالتي السابقة، على موقع تلفزيون سوريا، الفكرة التالية: إن إلصاق صفة القدسية بالثورة ليس عملاً صحيحاً، بل إنه ضار جداً، ففي هذه الحالة تستنقع الثورة، ولا يجرؤ أحد على ذكر عيوبها وأخطائها، وتُمنى، من ثم، بمزيد من الهزائم.
ولكن انتقاد الثورة، مع اشتداد حالة التقديس، يعود على المنتقِد بكثير من وجع الرأس. كتبتُ ذات مرة زاوية تحدثت فيها عن كذب بعض الثوار، خصوصاً أولئك الذين التحقوا بالثورة دون أن يكون لهم أي ماض ثوري أو معارض.. ولئلا يقال إنني أتهمُ الناس وأبرئ نفسي، ختمت الزاوية بجملة تفيد أنني ضبطت نفسي، أكثر من مرة، وأنا أكذب!
في معرض الرد عليّ، كتب شخص لا أعرف مَن هو، وأجهل موقفه من الثورة: يعني طلع معك أن الثورة كذبة؟
برأيي المتواضع؛ أن الثورة السورية على نظام حافظ الأسد الفاشستي الوراثي هي الحقيقة الساطعة الوحيدة، وما عداها يحتمل الكذب والغش والانحراف، وهي _إذا استعرنا لغة الفلاسفة_ ضرورة تاريخية حتمية، لو لم تنفجر في سنة 2011 لكان تراكم الظلم والقهر والوجع والنهب والفقر والقتل والتعذيب إلى أن تقوم ذات يوم، وربما كانت نتائج انفجارها إذْذَاك أكثر كارثية من ثورتنا هذه، وأشد فظاعة.. ولكن الثورة قامت في 2011، ودفع السوريون ثمنها من أرواحهم ودمائهم وهناءتهم ومدخراتهم وأحلامهم الكبيرة والصغيرة. ليس الثائرون وحدهم مَن دفع، بل سوريا كلها، وبالأخص الكتلة الصامتة التي كانت وما تزال تحتوي على أغلبية السوريين.
يتحدث بعض الكتاب والناشطين الثوريين، في أوقات عطالتهم، عن الثورة وكأنها دين. فمثلما أن الدين الإسلامي يجبُّ ما قبله، يقولون “الثورة تَجُبُّ ما قبلها”. وهم لا يشرحون لنا كيف يكون ذلك، فإذا سألتهم يقولون:
– أخي القصة ما بدها شرح وفلسفة، الثورة تجب ما قبلها والسلام.
لعبارة “الثورة تجب ما قبلها” معنيان: أحدهما إيجابي، فالشخص العادي، المنتمي إلى “حزب الكَنَبَة” (أي الذي يجلس في بيته وينتظر ليعرف أين ستذهب الأمور، ويردد عبارة: الله يفرج)، إذا امتلك بعض الشجاعة وقرر الالتحاق بالثورة، يمكن الصفحُ عما مضى منه، واعتبارُه واحداً من الثوار دون جدال، ودون أن ينط له كل دقيقتين ثائر مزاود ويعيّره بتردده السابق وهشاشته الثورية، وأما المعنى السلبي الخطير جداً، فهو تحويل الثورة إلى مقبرة لا تعترض على أي جثمان، طاهر أو منتن، يدفن فيها.
تعالوا نستعرض الآن الشرائح التي التحقت بالثورة، وأصبحت من أصحاب الشأن والقرار فيها، شاء الثوار الحقيقيون ذلك أم أبوا، وأبرزها شريحة الأشخاص الذين كانوا قد غادروا سوريا منذ زمن طويل، إما هاربين من جحيم ديكتاتورية الأسد، أو كانوا يمارسون أعمالاً صناعية أو تجارية أو خدمية و(يستثمرون) في دول أوروبية أو تركيا أو الخليج. ولنعترف أن معظمهم اضطروا للاستثمار في الخارج، لأن نظام الأسد يحارب العمل والنجاح، ويحاصص الناس على استثماراتهم وأرباحهم وأعمارهم، هؤلاء سعدوا لانفجار الثورة، وسرعان ما استعدوا وتداعوا لتشكيل هيئات ثورية ومعارضة في مختلف دول العالم، أو عقدوا مؤتمرات تحت تسميات مختلفة، وبعد مدة من الزمن تمركز كل واحد منهم في عمل ما، أو منظمة ثورية أو مدنية أو إغاثية، وكانت لمعظمهم علاقة (أو محسوبية) على إحدى الدول المتدخلة في الشأن السوري.
وهناك شريحة المساجين الذين ينتمون إلى تيارات دينية متطرفة، وبينهم عناصر من تنظيم القاعدة الذين جاهدوا في العراق، بتسهيل من المخابرات السورية، وعادوا إلى سوريا واعتقلوا، وأودعوا في السجون إلى أجل غير مسمى، كما هي عادة النظام مع جميع أنواع المعتقلين، ولكن النظام “الخبيث” أطلق سراحهم في بداية الثورة لغاية في نفسه معروفة، وهم بدورهم كانوا عند حسن ظن النظام، وسرعان ما شكلوا تنظيمات متطرفة، من داعش وأنت نازل، وبدؤوا بطرد (أو تهميش) القوى الثورية الحقيقية التي تدعو صراحة إلى دولة ديمقراطية يسودها القانون، وتنعم بالتداول السلمي للسلطة، وتحتفظ لجميع أبنائها بحقوقهم، وتنصف الفئات المظلومة.
الشريحة الأخطر تتألف من أشخاص انخرطوا في الثورة، وعندهم نزوع طائفي مَرَضي، هذا النزوع كان ملجوماً قبل الثورة، بسبب بطش الأسد، وهؤلاء أفرزوا نماذج هستيرية تعادي ديكتاتورية بشار الأسد ووالده بالفعل، ولكن واحدهم يمكن أن يصنع مشكلة إذا تعرض أحدٌ ما أمامه لديكتاتورية صدام حسين بنصف كلمة، النموذج المتعصب منتشر بين مختلف الطوائف والمذاهب، وقد استقطب بعض أنصار إحدى الطوائف شخصيات تنتمي إلى طوائف أخرى، اصطفت وراءهم، وتبنت طائفيتهم نفسها. ملخص تفكير هذا النموذج أن سوريا لا يجوز أن تكون للسوريين، وإنما للطائفة التي يتبع لها حضرتُه، إضافة إلى كونه ذا نزوع قومي، متعصب تجاه القوميات الأخرى التي يتشكل منها النسيج الاجتماعي السوري.
هذه الشرائح المفتقرة إلى التجانس أخفقت حتى الآن، في تشكيل حالة ثورية متناغمة، أو كيان ثوري معارض كبير يشار إليه بالبنان، إضافة إلى أن معظم المنخرطين في الثورة، المطالبين بدولة سورية نظيفة من آل الأسد (وحباشاتهم) لم يناقشوا، على نحو جدي، شكل الدولة السورية المطلوبة، وهم مختلفون إلى حد التصادم حول أبسط البديهيات، من قبيل التسمية والعَلَم والنشيد، والحدود والتجنيد، وحقوق المكونات المختلفة، وربما كانت نقطة الالتقاء الوحيدة بين المتشددين مذهبياً والمتعصبين طائفياً هي العداء للمرأة. ومَن يتمعنْ في صور المؤتمرات التي تُعقد هنا وهناك وتنشر على وسائل التواصل الاجتماعي يتأكد من كونها خالية من السيدات على نحو مرعب.
في التجمعات والمؤتمرات النسائية السورية (السابقة) كنا نرى نساء متباينات في اللباس وتسريحات الشعر والمكياج، وأما الآن فثمة هيئة موحدة للسيدات اللواتي يظهرن في صورة،أو فيديو، بمناسبة نسائية ما.
*تلفزيون سوريا