خطيب بدلة: الأخلاق وحدها لا تبني دولًا حديثة

0

لعلنا الوحيدون على مستوى العالم، وعبر التاريخ، الذين نطبّق الحِكَم والأمثال والأشعار في ميدان السياسة، وعلم الاجتماع، والاقتصاد، ونعتبر الأخلاقَ معيارًا لنشوء الدول، وتطورها، انحدارها، ثم زوالها!

كيف يحدث هذا؟

يتربع متحدثٌ “فهيم”، في مجلس عامر بالناس، ويتنحنح لكي يلفت إليه الأنظار، ثم يقول، مستشهدًا ببيت شعر أحمد شوقي:

وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ

فإن هُمُو ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا…

ومع أن البيت لا يحتاج إلى شرح، يصر (حضرتُه) على شرحه قائلًا:

– الأمم التي تذهب أخلاقُها، يا شباب، تذهب؛ أي تفنى. تنقرض!

ويختم كلامه ببيت آخر للمرحوم أحمد شوقي الذي كان مولعًا بالأخلاق، وبصياغة الأمثال شعرًا:

وإذا أصيب القومُ في أخلاقهم

فأقمْ عليهم مأتمًا وعويلا…

حسنًا. بما أن الأمر يتعلق بالدول والأمم والعمران، فتعالوا نحتكمْ إلى المبدأ الذي وضعه عالمُ الاجتماع ابن خلدون، وهو “ضرورة إعمال العقل في الخبر”، وبناء عليه نسأل ذلك المتحدثَ الحكيم الرهيب:

– برأيك، ما هي الأخلاق التي يجب على “قومنا” أن يسلكوها لكيلا ينقرضوا، ونضطر للعويل عليهم؟ وإذا زالت هذه الأقوامُ بالفعل؛ هل تستحق أن نقيم عليها مأتمًا وعويلًا؟

في الأغلب؛ لا يعطيك هذا المتحدثُ الفهيم، ولا أمثالُه من الخطباء، جوابًا شافيًا عن مفهوم الأخلاق وعلاقته بالدول. إنه يشبه خطيب الجامع الذي يقول للمؤمنين، المسلمين، الخاشعين، الجالسين أمامه:

– لقد تخلفنا، أيها الإخوة، لأنكم تركتم دينكم، وفسدت أخلاقكم!

إنه لجدير بالمصلين، في هذه الحالة، أن يسألوه، وبكثير من الاستغراب:

– متى تركنا ديننا؟ وكيف تقول “تركنا ديننا” ونحن نؤدي الفروض والعبادات، وها نحن جالسون، أمامك، ننتظر إقامة الصلاة؟ ثم، وبما أنك تعرف أننا تخلفنا، لماذا لا نتشارك بالبحث عن الأسباب الحقيقية لهذا التخلف، فنعالجها، ونتجاوزها، ونتقدم؟ أليس ذلك أجدى من أن تكتفي باتهامنا بأننا سببُ التخلف؟

في ضوء غياب الأجوبة التي تشفي الغليل عن هذه الأسئلة، نفترض أن ذلك المتحدث يقصد بالأخلاق الكريمة المطلوبة لئلا نتخلف: ألَّا نكذب، ولا نغش، ولا نسرق…

إن هذا الأسلوب في الخطاب شائع بين الوعاظ، حتى إن بعضهم يتحدثون عن “مبادلة أخلاقية” عجيبة جرت، في يوم من الأيام، بين أهل الشرق وأهل الغرب، فالغربيون أخذوا منا أخلاقنا، فتقدموا، وصَدَّروا لنا أخلاقهم، فتخلفنا! وهؤلاء، الذين تحدثوا عن هذه المبادلة، تركوا الموضوع مبهمًا، فلم يذكروا لنا أية أخلاق أعطيناهم، ولا أية أخلاق أخذنا منهم.

هذه الطريقة العائمة في التعبير لم ينج منها حتى المصلح محمد عبده، الذي قال، بعد عودته من مؤتمر باريس سنة 1881، جملتَه الشهيرة: ذهبتُ إلى الغرب، فوجدت إسلامًا، ولم أجد مسلمين، ولما عدت إلى الشرق، وجدت مسلمين، ولم أجد إسلامًا!


نصل، الآن، إلى الفكرة الأساسية التي نبني عليها هذا الرأي؛ وهي أن الصدق، والنخوة، والمروءة، وإغاثة الملهوف، وحفظ حقوق الجار، ورد الأمانات إلى أهلها، أخلاقٌ حميدة، لا تتبدل مع توالي الأيام، ومر السنين، ولكن، لو فكرنا مليًا، لوجدنا أنها لا تفيد في بناء الدول أبدًا!

لماذا؟

لأن الدولة الحديثة، يا سيدي، تقوم على حرية الإنسان، فردًا، وجماعات، وعلى إفساح المجال لكل الطاقات التي يمتلكها المجتمع لأن تنطلق، وتؤدي دورها في البناء، فتكون مشاركة المرأة في العمل والشأن العام، مثلًا، أساسية، وغير مشروطة… وأما العمل فيمارسه المواطنون كلهم، لقاء أجور لائقة، بينما مؤسسات الدولة المختصة ترعى العجزة، والمسنين، وتوفر لهم حياة كريمة… وعلى الصعيدين السياسي والإداري، تقوم الدولة الحديثة على دستور حديث، وقوانين تراعي مصلحة المجتمع، والأفراد، وعلى مبدأ فصل السلطات، والتداول السلمي للسلطة، ولا تتوانى عن بناء المؤسسات التي تمكّن الشعب من المشاركة في الحكم والرقابة على السلطات…

أهل الغرب لا يهتمون للأنساب، وإذا أقمتَ بينهم عُمْرًا بأكمله لا تسمع من أحدهم كلامًا عن الشرف، والعِرض، والنخوة، والحسد، والنميمة، ومهاترات الضراير، والسلايف، وكيد العواذل، والتكفير والتخوين… ولا يمكن لأحد عندهم أن يستلم منصبًا، حتى ولو كان عضو بلدية، إلا بالانتخاب، وإذا انتخبوا شخصًا ولم يعجبهم أداؤه أهملوه في المرة القادمة، وأسقطوه… إنهم ليسوا مثلنا، نحن الذين نتضرع لله العلي القدير أن يُلهم حاكمَنا المستبد على فعلِ ما فيه خيرنا، وإذا أعطانا ذلك الحاكم جزءًا صغيرًا من حقوقنا، سرعان ما نحمل صورَه واللافتات التي تشيد بعظمته، ونخرج إلى الشوارع، ونسير على هيئة (طابقَيْن)، القوي فينا يحمل الضعيف على كتفيه، والضعيف يهتف حتى ينفتق بحياة هذا القائد المجرم الذي تشحطُ مخابراتُه أبناءنا من بيوتهم ليلًا، ثم لا يعيدونهم إلينا، إن أعادوهم، قبل أن تمر عليهم السنون، وتصفر خدودهم، وتحدودب ظهورهم، ويفقدون أسنانهم ويقولون عن الخبز (خبج)…

أبناء تلك الدول الحديثة، المتطورة، لا يقفون للمعلم ويوفُّونه التبجيلا، كما نفعل نحن تنفيذًا لنصيحة أحمد شوقي نفسه، ومَنْ يعلمهم حرفًا لا يكونون له عبيدًا، فهم ليسوا مضطرين لذلك، لأن المعلم له راتب محترم، وتعويضات، وإذا كبر يُحال إلى المعاش، ويُخصص له معاش يكفيه مدى الحياة، يعني النظر إلى المعلم، عندهم، تنطبق عليه حكاية الرجل السراقبي الذي ذهب إلى حمام السوق، واستحم، وقال له الحمامي: نعيمًا حمامك. ففرك إبهامه بسبابته وأجابه: تحممتُ بفلوسي!   

احترام النظام في الدولة الحديثة ليس أخلاقيًا، ولا ينطبق عليه قول شوقي في نهج البردة (صلاحُ أمرك للأخلاق مرجعُه)، بل هو أمر محكوم بالقانون، فلو جاء ابنُ مسؤول بعثي سوري، على سبيل الافتراض، ليعيش في دولة أوروبية، وخطر له أن يشفّط بسيارته، ويتجاوز إشارة المرور الحمراء، وإذا استوقفه شرطي يقول له (اعرف مع مين عَمْ تحكي ولاه كر، أنا ابن فلان)، فلن يجد له نصيرًا أمام القانون الذي سيحصي عليه مجموعة من التهم، أولها؛ تجاوز السرعة، وثانيها؛ إحداث ضجيج (التشفيط) بشكل متعمد، وثالثها؛ الإساءة للشرطي الذي يمثل سلطة القانون، رابعها؛ استخدام اسم والده المسؤول لتجاوز القانون، فوالله، هنا في ألمانيا مثلًا، لو شَفَّط ابنُ مستشار ألمانيا أولاف شولتز، وقال للشرطي اعرف مع مين تحكي، لطبقت عليه عقوبات قانونية تبدأ من دفع الغرامة، وتتدرج صعودًا حتى تصل إلى سحب الشهادة، ثم السجن… ومَنْ كان بلا أخلاق، ويريد أن يسرق من السوبر ماركت، مثلًا، فليجرب شطارته، ويرى كيف سيُطلق البابُ زمورَه، ويحوله إلى فرجة لمن يريد أن يتفرج.

الصدق سلوك ممتاز، حتى في الدول يحكمها القانون، ولكن بماذا يفيد؟

مع بداية المأساة السورية، حينما بدأ السوريون ينزحون إلى أوروبا، فوجئوا بأمر غريب (بالنسبة إليهم)، وهو أن الموظف في دائرة اللجوء يسأل اللاجئ عن أحواله، ويصدق أية معلومة يعطيه إياها، دون أن يبدي أي شك في صحتها. فإذا أدلى اللاجئ بمعلومات كاذبة، نحن نعتبرها قلة أخلاق من قبله، ولكن الموظف لا يكترث بذلك، ليقينه بأنه، حينما يتكشف، في وقت ما، أنها غير صحيحة، سيلام عليها اللاجئ قانونيًا. 

ما أريد قوله، إن بلادنا المتخلفة، إذا أرادت أن تنهض، فإن لديها طريقًا واضحًا، وسلسلة من الإجراءات لا علاقة لها البتة بالأخلاق، تبدأ من الاعتراف بالتخلف، ثم اتخاذ القرار بتجاوزه، ثم السير على الطريق الذي سارت عليه قبلنا تلك الشعوب المتقدمة، ومن يفكر بأن عليه أن يعيد اختراع العجلة، فهو إما مغفل، أو كاذب، أو غشاش… 

ضفة ثالثة