إن ظهور عمل روائي سوري كبير، ومهم، وممتع، على نحو مفاجئ، خلال سنوات الحرب الدامية، كاتبُهُ غير مصنف مع الروائيين المعروفين، لَأمر يدعو إلى الدهشة، والغبطة.
المقصود، بالطبع، رواية “المئذنة البيضاء” للكاتب الصحفي يعرب العيسى (دار المتوسط/ إيطاليا، ودار نينوى دمشق) التي نالت، منذ لحظة صدورها، اهتماماً كبيراً من مثقفين سوريين كثيرين، يعيشون داخل سوريا أو خارجها، على حد سواء.
نقاط مثيرة تتعلق بهذه الرواية
النقطة الأولى: أن يعرب، المولود سنة 1969، (52 سنة) صحفي معروف، ليس له كتب مطبوعة من قبل، ولم يكن متوقَّعَاً ذهابُه المفاجئ إلى الرواية، ولكن هذا حصل، ويعني، من ثم، أننا أمام مغامرة أدبية مدروسة، مخطط لها بذكاء، ذات نَفَس طويل.
النقطة الثانية: أن قارئ المئذنة البيضاء لا بد أن يخرج بانطباع أنها كُتبت، بل بُنيت بهدوء، خلال عشر سنوات على الأقل، مثل رواية مئة عام من العزلة، التي أرسلها كاتبُها غابريال غارسيا ماركيز إلى الناشر بالبريد على دفعتين، لأنه لا يملك مالاً يكفي لإرسالها كلها.
النقطة الثالثة: أن المادة الأولية (الاستقصائية) لرواية المئذنة البيضاء، لو كانت مكتوبة على الورق، فلن يكون ارتفاعُ ورقها عن الأرض أقل من مترين، إذ لا يمر سطر واحد فيها غير محمل بمعلومة تاريخية، أو هندسية، أو جغرافية، أو طبية، أو أركيولوجية، أو جينية، وبهذا يكون عالَمُ يعرب العيسى الروائي قريباً من عالم أمين المعلوف الذي يَخرج القارئ من رواياته بكم هائل من المعلومات، والوقائع، والتواريخ التي ترسخ في الذهن مرة واحدة وإلى الأبد، بل ويمكن أن تصدر هاتيك المعلومات في كتاب مستقل (رواية ليون الأفريقي مثلاً).. وشبيهاً بأورهان باموق، الروائي التركي العالمي الذي صرح مرة أن الوثائق التي يستخدمها في رواياته تَملأ فضاء غرفة، وقد نتج عن روايته (متحف البراءة- Masumiyet müzesi) متحفٌ كامل مكتظ بالأدوات والأشياء التي تعبر عن عميق حب راويها للفتاة “فُسُون”.
أسئلة خطيرة في “المئذنة البيضاء”
تطرح رواية المئذنة البيضاء على قارئها عشرات الأسئلة، وتتهرب من إعطاء جواب قطعي واحد عن أي سؤال، وبظني لو أن كاتبها انشغل بتقديم الإجابات لأفسد روايته، وأسقطها بنفسه.
- السؤال الأول: أين، ومتى، وكيف يكون الواقع شبيهاً بالأساطير؟
- السؤال الثاني: كيف نصنع، على نحو روائي، أسطورةً إنسانية من لحم ودم، لا تقل أهمية عن الأساطير الغيبية المتداولة؟
- السؤال الثالث: مَن يشبه ذلك الشخصُ النكرة، المسحوق، المطرود من بلده، الذي تحول إلى صاحب قوة اقتصادية جبارة على مستوى العالم، ثم عاد إلى بلده لكي يعيد إنتاج إحدى أساطيرها القديمة، ظاهرياً، ولكي ينتقم منها، واقعياً، لأنها جوعته، وهزَّأته، وطردته؟
- السؤال الرابع: هل يهمنا أن نعرف مَن هو الشخص الحقيقي المقصود، أم ننظر إلى مايك الشرقي، بوصفه شخصية روائية تشتهر بحد ذاتها مثل دونكيشوت، وزوربا، وكنديد، وزوبُك؟
- السؤال الخامس: هل صنع يعرب العيسى شخصية مايك الشرقي من خلال شخص واحد، أم قام بعملية نمذجة، دمج فيها عشرات الشخصيات الذين انطلقوا من لاشيء، ليصبحوا أصحاب ثروات طائلة، وقادة هيئات تشبه الدول؟ وكيف تُصنع الثروات والأمجاد في المنطقة المنحوسة، المنكوبة، التي نعيش فيها؟
في الميثولوجيا؛ يظهر السيد المسيح شرقيَّ دمشق، ليملأ الأرض عدلاً، بعدما ملئت فجوراً وجوراً، وتكون هذه علامة قيام الساعة. من هنا يأتي السؤال: مَن هو الشخص الذي سيساهم في ملء الأرض بالفسوق والجور؟ ويتفرع عنه سؤال مضحك، هو: هل يعقل أن يكون الشخص الذي ملأها جوراً، نفسه، سبباً في التهيئة لظهور المُخَلّص الذي سيملأ البلاد عدلاً؟
استنتاجات أولية:
– العيشُ في بلادنا، إذا أردت الحق، بحد ذاته خطير.
– بقاء الإنسان في بلادنا نوع من المجازفة المصيرية.
– يبدو الإنسان الذي يعيش في هذه البلاد، ظاهرياً، وكأنه يمتلكً حريته، وقراراته، ومستقبله، ولكن حياته أقسى، وأمر، وأشد لؤماً من حياة العبيد المحكومين بالسجن مع الأعمال الشاقة، فأين الحرية؟
الأصول المخجلة لـ مايك الشرقي
الطفل غريب الحصو.. تركته أمه فضة الجاروش المزواجة، اللئيمة، عند أبيه نظير. سافر نظير وترك الطفل عند عمته الفقيرة. نظير لم يعد. الحارة طردت غريب، وطردته الجامعة، كلية الفلسفة، قبل أن يتخرج منها بسنة، وطرده خادم المسجد الذي أراد أن ينام فيه، وطردته دمشق كلها.
لنسجل هنا أن تسميته “غريب” ذات دلالات متعددة، أولها يتعلق بغربته عن حياته الأصلية، وعن حياته الجديدة أيضاً، وثانيها، لاسم غريب علاقة بأسطورة المئذنة البيضاء، وعلامات قيام الساعة الموعودة.
سافر غريب إلى بيروت، وهناك، ومن خلال عمل سخيف، حصل على أول عشرة دولارات في حياته، وعلى أول لقمة طيبة، وتنقل بين عملين، أو ثلاثة، قبل أن يتعرف على القواد الشيخ قسام الذي أعجب به، وبدأ بتأهيله، ليحمل منذ تلك اللحظة اسم مايك الشرقي.
هل أصبح غريب قواداً؟
لا، طبعاً. فالعمل بصفة قواد أقل بكثير من الإمكانيات الهائلة التي كانت كامنة في أعماق الفتى المطرود، المسحوق، غريب.
ولكن، هل يمكن أن يبني أحد ما إمبراطورية مالية، من لا شيء، دون أن يعمل في مهنة القوادة؟
لا، طبعاً، ولكن الإنسان الذكي يقنّن اعتماده على الدعارة، بما يلزم فقط لإنجاح صفقاته التجارية الكبرى.
من أين تجيء الصفقات الكبرى؟
الجواب: من الحروب، والغزوات، والعقوبات التي تفرضها الدول المستريحة اقتصادياً على دول العالم المنكوبة. من الاتجار بأموال الكويتيين بعد مغامرة صدام حسين 1990، من غسيل أموال الروس بعد انفراط عقد الاتحاد السوفييتي، من تجار صينيين، واسكوتلانديين، من صعود نجم مدينة دبي الاقتصادي والمالي على مستوى العالم، وصولاً إلى سنة 2011، والثورة السورية، وما رافقها من قمع في البداية، ثم التسلح، وتشكيل الكتائب المسلحة..
إيضاحات
1- لا أريد تلخيص الرواية، فهذا غير ممكن أولاً، ويفسدها ثانياً.
2- يمتاز أسلوب يعرب العيسى بالوضوح.. وبالمقدرة على الإمساك بالخط العام لبنائه الروائي، لا سيما حين يعرض أفكاراً أو معلومات أو إحصائيات تتعلق بجزئية ما.
3- الممنوعات الثلاثة المفروضة على الكاتب العربي عموماً، والسوري خصوصاً (التي تحدث عنها الأديب الراحل بو علي ياسين في كتابه “الثالوث المحرم”) هي: الدين، الجنس، السياسة. على هذه الممنوعات الثلاثة بنى يعرب العيسى روايته من الألف إلى الياء. وقد نجح، بمخاتلة فنية تثير الإعجاب، في جعل كل ما كتبه مقبولاً، بعيداً عن الاستفزاز المجاني الذي ورد في أعمال روائيين معروفين سابقين. (رواية حيدر حيدر، وليمة لأعشاب البحر، مثلاً).
4- هذه ليست قراءة نقدية في الرواية، بل انطباعات أولية شخصية، وتعبير عن الإعجاب.
*تلفزيون سوريا