أدوات النداء في اللغة العربية خمس، ولكن الأداة (يا) هي الوحيدة التي تُستخدم في الغناء، باعتبارها سهلة، ودارجة… إذ من غير المعقول أن يكتب شاعرٌ ما، قصيدةً غنائية مع أداة النداء الهمزة، أو (أي)، أو (وا)… وربما كان النموذج الأكثر فصاحة على الإطلاق هو الذي جاء في قصيدة الأخطل الصغير “الهوى والشباب”، وهي من روائع الأستاذ محمد عبد الوهاب، وفيها:
(أيها) الخافقُ المعذب يا قلبي
نزحتَ الدموعَ من مقلتيَّا.
إعراب “أيُّها”: منادى بـ يا المحذوفة. التقدير: يا أيها.
مخاطبة الحبيب بالأمر
يصعب إحصاءُ الأغنيات العربية التي تبدأ بأداة النداء (يا). هذه الكثرة تحولها، بلا شك، إلى ظاهرة. والملاحظ أن النداء يحصل بأشكال مختلفة، ولأغراض مختلفة أيضًا، منها أن يبدأ المغني بأداة النداء، يليها ذكر المنادى باسمه، مثل: يا مصطفى يا مصطفى لمحمد فوزي، يا سميرة لفيروز والأخوين الرحباني، يا سالمة لفهد بلان، أو أن يُذْكَرَ المنادى بصفته، مثل: يا هلالًا، يا حبيب الروح، يا ولف، يا جميل، يا حلو، يا قمر مشغرة، يا جبل اللي بعيد، يا أسمر اللون، يا طيب القلب، يا أم الزنار، يا أبو الطاقية…
بعد تحديد ماهية المنادى؛ يأتي فعل (الأمر)، كما عند أسمهان، في أغنية “يا حبيبي تعالَ”، التي كتبها أحمد جلال، ولحنها مدحت عاصم… والأمر لا يُزعج الحبيب طبعًا، لأن له مسوغاته، فالمغنية تريده أن يأتي ليطَّلع على ما جرى لها بسبب غيابه عنها:
يا حبيبي تعال، الحقني، شوف اللي جرى لي، من بعدك
سهرانة من وجدي، بناجي خيالك، مين قدك؟
وأنا كاتمة غرامي، وغرامي هالكني
ولا عندي لا أب، ولا أم، ولا عم أشكي له
نار حبك.
وفي بعض الأحيان، يتأخر فعل الأمر بالظهور، كما في موشح (يا حبيبي كلما هب الهوى)، من كلمات وألحان الأخوين الرحباني:
يا حبيبي كلّما هبّ الهوا
وشَدا البلبل نجوى حُبِّهِ
لَفَّني الوجدُ وأضناني الهوى
كفراشٍ ليس يدري ما به
(صُغْ) لقلبي يا حبيبي حُلُما
من سنا الصبْح وغدر الغَلَسِ.
لاحظ أن فعل الأمر (صُغ) لم يأت حتى مطلع البيت الثالث.
وفي بعض الأحيان، يكون المنادى شريحة كبيرة من الناس، كما في أغنية “فلاح” لشريفة فاضل (1938 ـ 2023) رحمها الله، حيث تقول:
يا اهل الله
حدش شاف كدع أسمر ظله خفيف؟
له خطوة جريئة ويمشي بشهامة أهل الريف.
وليس شرطًا أن تبدأ الأغنية بأداة النداء، وإنما يمكن أن يأتي النداء في أحد الكوبليهات، كما عند أم كلثوم التي تطلب من حبيبها أن يأتي، بالصيغة ذاتها (يا حبيبي تعالَ)، لتعويض ما فاتهما من حب:
يا حبيبي تعالَ، وكفاية اللي فاتنا
هو اللي فاتنا يا حبيب الروح شوية؟
ملاحظة: الأغنية من كلمات أحمد شفيق كامل، وألحان محمد عبد الوهاب، 1964… وكان هذا أول لقاء فني بين عبد الوهاب وأم كلثوم، لذلك حمل لقبًا كبيرًا هو: لقاء السحاب.
البحث عن الحبيب التائه
ويكون النداء، في بعض الأحيان، غير محدد الوجهة، كما عند ليلى مراد في أغنية “يا حبيب الروح”، من تأليف حسين السيد، وألحان رياض السنباطي، فهي تناديه، وتبحث عنه، لتبلغه أنها مشتاقة إليه، وقد (وحشها) كلُّ شيء فيه، حتى خصامه:
يا حبيب الروح، فين أيامك؟
وحشتني، ووحشني خصامك
يا حبيب الروح، فين أيامك؟
ويبدو أن الشاعر حسين السيد مولع بالعزف على وتر الخصام بين الحبيبين الذي يتبعه الصلح، ويرى فيه حالة درامية نادرة، لأن الصلح يحتوي على نشوة لا يستطيع وصفَها إلا من عاشها، بدليل ما كتبه لمحمد عبد الوهاب، في أغنية “شكل تاني”، التي غناها بصوته، قبل أن تغنيها نجاة الصغيرة:
من جمالَك، من حنانَك، يومها وانتَ بتصالحني
كنت عايزة أقول لك: قوم خاصمني!
اللجوء إلى التنجيم
إذا تتبعنا الأغنيات التي تتكئ على النداء، ربما نعجز عن حصرها، فالعاشق يبدو إنسانًا حائرًا ضائعًا يستنجد حتى بالمنجمين والسحرة، كما في أغنية هدى سلطان “يا ضاربين الودع”، من كلمات عبد العزيز سلام، وألحان محمد فوزي. (وفيها، أيضًا، إشارة إلى الخصام، ولكن بأسلوب مختلف):
يا ضاربين الودع
هوه الودع قال إيه؟
خصام حبيبي دلع؟
ولا خصامه ليه؟
محمد فوزي (1918 ـ 1966)، بالمناسبة، كان من أهم الشخصيات الفنية والموسيقية والتجارية في ذلك العصر، فهو لم يكن مجرد مطرب وملحن، بل هو الذي أحدث شركة “مصرفون” للأسطوانات، سنة 1958، وجعلها تنافس الشركة البريطانية الموجودة، ولكنْ، جرى تأميم شركته على نحو متعسف، سنة 1961… وهو صاحب أغنية الأطفال الشهيرة “ماما زمانها جاية”، وكذلك أغنيته الشهيرة التي تبدأ بحرف النداء (يا مصطفى ـ 1959)، التي بلغت شهرة عالمية، وغناها إنكليز وفرنسيون وأتراك، وبسبب لحنها الراقص، الذي يمزج بين الموسيقى الشرقية والغربية، وقد جرى تضمينها في فيلمين سينمائيين، ولكن مجلس قيادة الثورة أصدر، في سنة 1960، قرارًا بمنع طباعتها في أسطوانات وتوزيعها، لأنها تحكي عن الزعيم الوفدي مصطفى النحاس، الذي أطاح به انقلاب 1952، وبقي الناس يحبونه ويغنون له، ما يعني أنه منافس قوي لجمال عبد الناصر على قلوب الجماهير:
يا مصطفى يا مصطفى
أنا بحبك يا مصطفى
سبع سنين في العطارين
دلوقتي جينا Chez Maxim.
وقد تأكد “المجلس” من صحة هذا البلاغ، من خلال قوله سبع سنين في العطارين، وفيها إشارة إلى مرور سبع سنين على زوال النظام الملكي.
الطاقية الشبيكة
الطاقية الشبيكة، بحسب ما هو منشور في مواقع على الإنترنت، بيضاء، مكورة، مشغولة بالمخرز، وفيها رسومات وزخارف، يعتمرها الرجال غالبًا، وكما هي عادة النساجين، فقد أجروا عليها تنويعات، فكانت إحداها ملونة على نحو هندسي، زخرفي، يمكن أن ترتديها صبية جميلة في الشتاء.
ويبدو أن لها تقديرًا شديد الخصوصية في مصر، بدليل أن ثلاث أغنيات لفنانين كبار قيلت فيها، والملاحظ أن الأغنيات الثلاث كلها من كلمات مرسي جميل عزيز.
الأغنية الأولى، من ألحان محمد الموجي، غناء حورية حسن، وفيها:
يابو الطاقية الشبيكة مين شغلها لَك؟
شغلت بيها البلد، وَلَا انشغل بالَك؟
يابو الطاقية الشبيكة بَيِّنْ القصة
وكيد عوازلي وعِدَايَ وبصّ لي بصة
واضحك بسن الرضا أمانة وتْوَصّى.
الأغنية الثانية، غناها محمد منير من ألحان محمد الموجي:
يابو الطاقية شبيكة، يا مين عاملها لَكْ
عاملها لي قاضي الغرام يا عمدة يا عقبالك
ليه يا حبايب تبيعوني رخيص وانا الغالي
قطر المحبة انقطع، مين يوصلو صيلوه بدالي.
ومما هو معروف أن المطرب السوري فهد بلان حط رحاله في القاهرة، وغنى من ألحان العباقرة الكبار، ومن ضمن أغانيه المصرية يا بو الطاقية الشبيكة والحزام… من ألحان سيد مكاوي الذي قدم عن فهد بلان وصفًا مدهشًا، إذ قال: أنت تعطي فهد بلان اللحن شجرة عارية، وتسمع منه اللحن مزهوًا بأجمل الأثمار.
أخيرًا: ذكرنا، في مقالة سابقة، أن مبدع أغنية “يا جارحة قلبي” هو سامي الصيداوي، غنتها نجاح سلام في سنة 1956، واشتهرت بها، ثم اقتبسها الفنان الكبير صباح فخري، وغناها بصوته.
وبالمناسبة، كثيرة هي الأغاني التي كتبت ولحنت خصيصًا لصباح فخري وتبدأ بأداة النداء: يا لابسة الخلخال، يا واردة ع العين، يا سالبة عقلي، يا سايقين النوق، يا حادي العيس.
ضفة ثالثة