لطالما تهيبت دخول بيت بندر عبد الحميد، فما كنت أقوى على دخول بيت يذكره مثقفو سوريا وكتابها وفنانوها كما يذكرون بوابات دمشق السبع ونهر بردى وجبل قاسيون.. ظننت، من كثرة اتساعه وازدحامه وصخبه، أنه كاتدرائية ضخمة للفنون والثقافة، شقة بغرف كثيرة وصالونات كبرى، متحف للفن، وأرشيف للتاريخ الثقافي في سوريا… لكن، عندما حان قضاء الله وقدره في تجليه الأكثر محبة، ودخلته بنوع من الإجلال والخشوع والرهبة، وجدته غرفة صغيرة في أحد تفرعات شارع العابد وسط دمشق. وكانت تلك الغرفة فعلًا كل ما ذكرت: كاتدرائية ضخمة وشقة بغرف وصالونات كثيرة ومتحفًا وأرشيفًا.
“بيت بندر” منارة الشام التي قصدها الكتاب والفنانون والمؤرخون والحالمون، من الدمشقيين ومن ساكني دمشق والعابرين إليها وفيها… نقطة علاّم، ومركز الجهات: ثمة ما هو غرب “بيت بندر” وشرقه وشماله وجنوبه، وثمة ما هو على اليسار منه، ومقابله، وعلى بعد كيلومترات منه.. من لا يعرف دمشق يعرف بيت بندر. ومن يتوه في أزقة دمشق وحواريها يلجأ إلى النقطة الواضحة والبراقة كقطعة الذهب: “بيت بندر”.
ولطالما تهيبت التعرف إلى بندر عبد الحميد، تلك القامة العالية التي يتم ذكرها في أوساط الكتابة والتأمل والفن مثلما يتم ذكر شخصيات تبدو وكأن شعوبها تنتمي إليها مثلما ينتمون هم إلى شعوبهم: المتنبي والمعري وغوته وشكسبير… وعندما التقيته التقيت قلبًا كبيرًا وباذخًا على هيئة إنسان، مبتسمًا، مرحّبًا، مقبلًا على الحياة مثل عاشق مقبل على حبيبته، مثل صوفي مقبل على الله، مثل شاعر في العصور القديمة مقبل على قصيدته.
إنه لأمر باذخ أن تلتقي، دفعة واحدة، القلعتين: بندر عبد الحميد وبيته! أكثر، أن تكون صديق الهرمين على مر الأيام فتلك منحة لطيفة يمنحها لك الحظ في أكثر ظهوراته رأفة. منحني بندر عبد الحميد وبيته تلك القدرة العالية على التشاوف، فلطالما شعرت، بنوع من التنويه بالذات، أنني صديق النهر ومجراه! ولقد تشاوفت بهذا، بكل ثقة، على الجميع الذين هم أصدقاؤه أيضًا!
كأن من لم يدخل “بيت بندر” لم يدخل دمشق، إذ تاريخيًا ثمة أبواب سبعة لدخولها، وتاريخيًا لم يكن ممكنًا دخول دمشق: مدينة الله، إلا عبر واحد من أبوابها السبعة تلك، أما في عصرنا الحاضر، وبدءًا من “بيت بندر” فقد صار وكأن الدخول إلى دمشق سيكون عبر ذلك البيت المترامي الأطراف، وبنوع قليل جدًا من المبالغة يمكن القول إن “بيت بندر” هو البوابة الحاضرة الوحيدة لدخول دمشق! أن تكون هناك يعني أنك في قلب دمشق، وفي قلب الحدث الثقافي والفني والكتابي. أكثر، أنك في التاريخ أيضًا.
ليس من الممكن تفسير كيف تتسع غرفة صغيرة لذلك العدد الكبير من الأشخاص في كل مرة يجتمعون فيها، وتعبير “في كل مرة” هنا يعني: دائمًا، ليس من الممكن تفسير ذلك إلا باللجوء إلى المجازات، وهي أن بندر يفرش قلبه ليتسع الجميع! فالمجاز في “بيت بندر” ومع شخص مثله يتحول إلى حقيقة دون لبس. كنا كأنما نتنافس على قلب بندر، ونتسابق إليه، وكان قلب بندر موزعًا بالتساوي على الجميع. المنكسرون، المهزومون، المخذولون، الهاربون من أوجاعهم وآلامهم كانوا يلجؤون إليه ثم يخرجون طافحين بالأمل وبالقدرة على الحياة، كان يغيّرهم هكذا كما لو أنه ساحر! كان يتحدث ببساطة، لم يلجأ إلى النظريات، ولا إلى المصطلحات، ولا إلى الكلام المعقد… كان يترك قلبه يتحدث مثل شلال يهبط من علٍ، ولأنه هكذا ربما، بل لأنه هكذا على وجه التأكيد، كان ينشر نوعًا باهرًا من الطاقة الإيجابية على محيطه وأصدقائه ومعارفه!
حتى في شعره كتب شعرًا قلبيًا، كتب مثلما تكلم، كساقية ماء تحفر طريقها بهدوء ورسوخ. ركّز أكثر فأكثر على “الإنسان الصغير”، رأى القضايا التي اعتبرتها البشرية عظيمة، كالحرية مثلًا، ليس في الأفكار التي عبرت عنها، وليس في الثورات الكبيرة التي اجترحتها الشعوب لنيلها، وليس في حروب الكون لأجلها أو باسمها… إنما في أكثر الأشياء بساطة وعادية. لم يكتب عن/ أو حول البطل الذي سيأتي، بعد قليل، ويعيد للأرض رائحتها، ويُرجع الموتى إلى أمهاتهم، ولم يكتب عن الرجل الغامض الذي تنتظره البشرية ليخلصها من طغيان الطغاة وفجور الفاجرين… بل عن أناس أقل مقدرة من ذلك بكثير، وأكثر التصاقاً بالهشاشة والضعف…
يقول في قصيدة بعنوان “الدراجة”:
“الولد الصغير الذي يبكي
هو الذي اخترع الدراجة
عندما كان حزينًا وجائعًا
يبحث عن لعبة
لمعت عيناه
وفرك يديه بدهشة
ثم رسم على أوراقه
مئات الدوائر والمربعات
وضرب القطة بعلبة الكبريت
وقبل أن تغيب الشمس
وقبل أن ينتهي الحبر
انتهى الولد الصغير
من اختراع الدراجة”!
بندر عبد الحميد أكثر شعراء جيله تبسيطًا في التعبير، لا يتعمد أي تحويل أو انحراف للغة مهما صغر حجمه، كان يكتب وكأنه في بيته يتكلم مع زوّاره:
“علي أن أعترف بما حدث
أنا وحبيبتي كنا نركض
لا نفهم شيئًا ولا نخاف الوحوش في الغابة
دخلت شوكة في راحة يدها الصغيرة
لمست يدها فاهتزت ونظرت إلي بذهول
أصابنا صداع الحب الأول
وتساقطت فوقنا كل أوراق الأشجار
نمنا ثمانية ألف عام
ثم استيقظنا لنتعلم
الفيزياء والرقص والرسم”.
ومع أنني لست بحاجة إلى من يذكرني ببندر عبد الحميد، ولا برائحته، فدمشق بجلالها وبهائها تذكرني به، وذاكرتي المكتظة تذكرني به، الأنهار والأشجار تذكرني به، مع هذا فقد أحضرت معي من سوريا لدى خروجي الأليم منها نهاية العام 2013 ، دونًا عن أشياء كثيرة أثيرة لدي وغالية على فلبي، زجاجة العطر التي أهداني إياها ذات بسمة ربيعية، وما أزال أحتفظ بها حتى يوم الناس هذا. عندما نتحدث عن بندر عبد الحميد فنحن نتحدث عن دمشق. لكأنما صار بندر مجاز دمشق، وهذا ما يجعلني، بنوع شديد من الهشاشة، أتوجس خوفًا عظيمًا إضافيًا على دمشق، فلقد مات مجازها!
لا أرثي بندر عبد الحميد، ولا أرثي عبره السوريين الذين يموتون على مدار الساعة، أنا أهجو الحياة فقط.
*المصدر: ألترا صوت