يشكو الشعراء المعاصرون من تراجع وانحسار وجود الشعر في حياة الناس، وعدم إقبالهم على قراءته وعلى حضور فعالياته الإلقائية، وكنوع من حل هذه المشكلة، وعوضًا أن يبحثوا في الأسباب البنيوية للقصيدة التي نأى عنها الناس، راحوا يزيّنون إلقاء الشعر بتزيينات مسرحية: الشاعر برفقة عازف (أو أكثر) على آلة موسيقية، أضواء تخفت حينًا وتبهر حينًا آخر، مع بعض الديكورات على منصة مسرحية، حيث الجمهور يشاهد عرضًا شعريًا أكثر من كونه يستمع لقصيدة تُلقى بحضوره. وهذا إمعان في الشفوية، فلم تعد شفوية تعتمد فقط على الصوت وحركة الجسد، بل هي، بالإضافة إلى ذلك، شفوية بأضواء وموسيقى. وقد لجأ الكثير من الشعراء العرب إلى هذه الوسيلة في محاولة لتقريب الناس من الشعر، أو تقريبه منهم. هذا جانب، جانب آخر فإن جعل الشعر عبارة عن Show يشير إلى مدى التراجع الذي يعانيه هذا النوع العظيم من الفن والأدب، وإلى أنه رفع راية الهزيمة في مسيرة الحضارة! يحدث الإلقاء غالبًا بالطريقة نفسها، مجرد إلقاء خارجي دون تأمل النص ودون إظهار مخبوءاته أو محتوياته، فالمهم هو إحداث التأثير في المتلقي عبر التركيز على النّبر، والإيقاع، ومخارج الحروف… إلى آخر ما هنالك دون إيلاء طبيعة القصيدة ومستوى منبريتها بالًا. حتى القصائد ذات الصوت الخفيض تتحول أثناء الإلقاء إلى قصائد حماسية! الأمر الذي يعني أن همّ الإلقاء هو الإلقاء ذاته وليس القصيدة.
الإلقاء في العهود الشفوية كان النافذة الأكثر اتساعًا -إن لم تكن الوحيدة- لخروج القصيدة إلى الناس، الأمر الذي أسّس لقواعد صارمة تضبط إلقاءها أو إنشادها أو غناءها، وكان الشعراء الشفويون ذوي خبرة كبيرة في إخراج القصيدة إلى الملأ، أي: كان إلقاؤهم تأمليًّا، وإلا ما كان للمتلقين، آنذاك، القدرة على إيلاء قصيدة ما شأنًا أكثر من أخرى! هذا جانب. جانب آخر، كان الشاعر الشفوي يعدّل على القصيدة، ويغيّر فيها، ويضيف إليها، ويحذف منها اعتمادًا على تفاعل الجمهور معها، فلا يعتبر الجمهور مجرّد حفظةٍ لشعره، بل عليه، كي يضمن انتشار قصيدته، أن يشركه في الرأي ويعمل بما يقتنع به، عليه أن يصغي إلى الجمهور كما يريد هو من الجمهور أن يصغي إليه. على هذا فإن نظريات التلقّي الحديثة التي قالت بأن القارئ كاتب آخر للنص، قالت كلامًا قديمًا جدًا كان يعمل به الشعراء منذ/ أو في العهود الشفوية!عهود هوميروس وامرئ القيس وطرفة.
أما إلقاء القصيدة المكتوبة في عصر كتابي بامتياز فلا مبرر له باعتباره عادة شديدة القدم، وباعتبار أن الكتابة، كما يفترض، تتيح التأمل في النص بصرف النظر عن وجود الشاعر أو المنشد… فسوف تكون غاية الإلقاء مختلفة عن الغاية الشفوية، سيكون الإلقاء، هنا، هدفًا بحد ذاته.
الأرجح أن الإلقاء يعتمد، فيما يعتمد، على الوزن الشعري: البحور أو التفعلية، باعتباره نوعًا من الموسيقى التي تساعد على الإلقاء، الأمر الذي جعل من غالبية شعراء القصيدة العمودية في العصر الحديث يلجؤون إلى بحور شعرية بعينها، تلك التي تعطي القصيدة، ليس طابعًا غنائيًا بالمعنى الملحمي للغنائية، بل طابعًا إلقائيًا يمكن أن يؤثر، تطريبيًا وحماسيًا، بالمستمع: كالبحر البسيط والطويل والكامل… وكذلك لجأ الكثير من شعراء التفعيلة إلى تفعيلات بعينها يمكن لها أن تُحدث الأثر نفسه التي تُحدثة قصيدة العمود، مثل: متفاعلن، مستفعلن، فعلن.
وباعتبار أن قصيدة النثر خالية من هذا النوع من الموسيقى فذلك يعني أنها ليست إلقائية، ليست منبرية إذًا. وإذا حدث وتم إلقاؤها -باعتبار أن الشفوية تعود- فلا بد من قواعد أخرى لإلقائها، لكن الملاحظ أن إلقاءها لا يختلف عن إلقاء القصيدة الموسيقية المنبرية ذات الصوت العالي والحماسية، فيقف شاعر قصيدة النثر الوقفة ذاتها، ويؤدي الحركات ذاتها، ويتمايل ويصرخ ويمثّل دور الشاعر الشفوي، كأنما الزمن واقف هناك، ولكن من دون خبرة الشفوي في استنطاق وإبراز المعنى الجواني للقصيدة!
غالبًا، يمثل شاعر قصيدة النثر بؤس الشفوية. إذ إن هذه القصيدة غير صالحة، أصلًا، للإلقاء، فصوتها خفيض، ومحتوياتها من البلاغة اللغوية والخطابية تكاد تكون معدومة، فهي جاءت، بوجه خاص، ردًا على بلاغة وخطابية قصيدة الحداثة، بالإضافة إلى أنها خالية من الجدل البطولي والملحمي الذي يمدها بشحنات منبرية، فقد اعتنت غالبًا بالناس الذين لاطاقة لديهم على الصراخ، ومواجهة الجبروت، لا بالناس الأبطال، اعتنت بالذات المحطّمة والمهمّشة والمهملة، لا بالذات القادرة على كل شيء، اعتنت بالرصيف لا بالقصر، وهذه مفردات منزوية وخافتة، فكيف يمكن لشاعر هذا همّه أن يقف على منبر ويصرخ ويرغي ويزبد متقمّصًا دور الطغاة الصغار، ومتوهمًا أنه، بهذه الطريقة، يسيطر على الآخرين؟!
من هنا، ربما، يبدو شاعر قصيدة النثر أكثر بؤسَا من شاعر القصيدة المبنية، إلى حد ما، على التفعيلة، لما تنطوي عليه هذه الأخيرة من إمكانيات إلقائية متمثلة، غالبًا، بالبلاغة والخطابية وبالذات الكبرى وبفكرة الشاعر النبوية عن نفسه وعن خطابه، الأمر الذي يجعله مرتاحًا أكثر لأوهامه من شاعر قصيدة النثر الذي تخلو قصيدته من كل تلك الادعاءات!
مع هذا، فإنه إذا كان لابد من إلقاء الشعر، ضمن هذا العرف الراسخ، واستجابة لهذا التقليد الشفوي الغابر، فيمكن أن يكون الإلقاء، بوصفه تقليدًا شفويًا، متناغمًا مع الإلقاء الشفوي، ومع طبيعة القصيدة الملقاة، أي: تأمليًّا، خاليًا مما تفرضه البلاغة والخطابية إذا كانت القصيدة خلوًّا من البلاغة والخطابية، بعيدًا عن مساعدات الإلقاء وتزييناته كالتّمسرح والموسيقى والـ show، ولا يوجد ضروة لتمايلات الجسد والصراخ والعويل وحركات اليدين، ريثما يعاد النظر، ثقافيًا وشعريًا، في أمر الإلقاء في زمن الكتابة وضرورته وجدواه!
*المصدر: الترا