فتحت هدى صندوقاً قديماً مغبراً يعود لوالدها الذي توفي قبل سنوات لتجد فيه الكثير من القصاصات المتناثرة والصور والأوراق وشرائط الكاسيت لبعض المطربين القدامى، وبعضها كتب عليه اسم المطرب ووضعت صورته على الغلاف البلاستيكي، وبدا بعضها الآخر بلا ملامح، لكنها تعكس سحر الحنين إلى الماضي.
ورغم التطور الكبير في مجال الموسيقى، وظهور عصر الآيباد والأقراص المدمجة (سي دي) وأجهزة التشغيل الحديثة إلا أن هذه الوسائل السمعية كلها لم تستطع أن تجعل من الكاسيت يتخلى عن مكانته أو يفقد سحره بل ثمة رجعة إلى هذا التراث، وكلمة “كاسيت” تعني علبة أو صندوق وهي فرنسية الأصل، تُستعمل اختصاراً للكاسيت الموسيقي الذى يُسمع عن طريق وضعه فى جهاز تسجيل، فتصدر من جهاز التسجيل الموسيقي والأغاني المسجلة على “شريط الكاسيت”.
ويعود الفضل في اختراع شريط التسجيل الصوتي (كاسيت) والمساهمة في ابتكار الأقراص المدمجة فيما بعد إلى المهندس الهولندي “لو أوتنز” الذي توفي في مارس آذار من هذا العام عن عمر ناهز الـ 94 عاماً وأحدثت أشرطة الكاسيت التي ابتكرها خلال عمله في مجموعة فيليبس العملاقة بمدينة أيندهوفن الهولندية سنة 1963 نقلة نوعية في عالم الموسيقى إذ أتاحت لأول مرة حمل التسجيلات بسهولة وسمحت لجيل من عشاق الموسيقى بإنجاز شرائط يمزجون فيها أغنياتهم المفضلة. وقلب شريط الكاسيت صناعة الصوتيات رأساً على عقب وكان سبباً في كلمة النهاية لجهاز الفونغراف الذي كان يعمل بتقنية الشرائط الممغنطة.
وتشير تقارير إلى أن أشرطة الكاسيت شهدت زيادة في المبيعات خلال الأعوام الأخيرة في العديد من دول العالم، ففي بريطانيا مثلا ارتفعت مبيعات الكاسيت عام 2018 بنسبة 125 في المئة مقارنة بالعام السابق، وأفادت “صحيفة ميرور” أن عدد أشرطة الكاسيت التي بيعت في ذلك العام بلغت أكثر من 50 ألف شريط كاسيت، وهي أعلى زيادة في مبيعات هذا النوع من الأشرطة منذ 15 عاماً ، وبالطبع فهذا يشكل جزءا بسيطا جدا مقارنة بمبيعات أشرطة الكاسيت عام 1989، عندما بيع أكثر من 83 مليون شريط، وانتشرت أكثر من مئة مليار شريط كاسيت في كل أنحاء العالم في العصر الذهبي لهذا المنتج من ستينيات القرن الماضي إلى الثمانينيات، حتى أنها لقيت رواجا متجددا في السنوات الأخيرة لدى محبي المنتجات القديمة بعد أن ظن الكثيرون أن وسيلة الإستماع الصوتي هذه ذهبت إلى غير عودة.
وظهرت في سوريا محاولات متعددة لحفظ تراث الكاسيتات ومنها تجربة المؤرشف الصوتي اﻷميركي العراقي “مارك جرجس” الذي زار سوريا بين عامي 1997 و2010 وتمكن من توثيق العشرات من الأشرطة التي تعود إلى السبعينات والثمانينات من القرن الماضي مما يمكن أن يسمى عصر الكاسيت في سوريا، وقام بنشرها ضمن مشروع أُطلق عليه اسم أرشيف الشرائط السورية Syrian Cassette Archives كان الهدف منه -بحسب الموقع الإلكتروني للمشروع تكوين نظرة شاملة عن الموسيقى السورية لتصبح أرشيفًا عامًا وإتاحة الفرصة لإلقاء نظرة على الأساليب الموسيقية من المجتمعات السورية العديدة بما في ذلك العرب السوريون والآشوريون والأكراد والأرمن، وكذلك العراقيون الذين نزحوا بسبب العقوبات والحروب خلال التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومن بين الأشرطة تسجيلات الحفلات الحية، وألبومات الاستوديو، والعازفين المنفردين، والموسيقى الكلاسيكية والدينية والوطنية وموسيقى الأطفال، مع التركيز بشكل خاص على موسيقى الدبكة الشعبية وأنماط الغناء التي يتم أداؤها وتسجيلها في حفلات الزفاف والحفلات والاحتفالات.
ويضم المشروع الممول من الصندوق العربي للفنون والثقافة وعدة منظمات ويفترض أن ينطلق الشهر الحالي كانون الأول كما قال الفنان والموثق “يامن المقداد” في لقاء قصير لـ”موقع تلفزيون سوريا” العديد من تسجيلات الحفلات الحية، ويسعى فريق أرشيف الكاسيت السوري-حسب قوله- إلى رقمنة هذا التراث وطرحه مجاناً للمهتمين للجمهور عبر الإنترنت، وخاصة أن الكثير من هذا التراث والتقاليد القديمة بات معرضاً للزوال بسبب الحرب والنزوح وفرار العديد من المبدعين والمنتجين من البلاد، بينما أُجبر آخرون على البحث عن الأمان بعيدًا عن مسقط رأسهم كما تم فقدان الكثير من المراجع الموسيقية المسجلة أو تدميرها نتيجة لذلك .
وكان “جاك جرجس” قد جاب على مدار سنوات، الأسواق ومحلات الموسيقى في سوريا بحثاً عن أشرطة قديمة بهدف إنقاذها من المحو أو الإندثار وحفظها وتمكن من خلال رحلاته من توثيق نحو 700 شريط من سوريا، بخاصة من مناطق تواجد الآشوريين والكلدان شمال شرق سوريا، ويقول جرجس في حوار لصحيفة”ذا ناشيونال”: “كصبي صغير، كنت مفتوناً بالثقافة العربية، خاصة الموسيقى”. ويضيف: “وعندما كبرت، كنت أذهب إلى هذه المحلات المتناثرة وأشتري أشرطة الأغاني الشعبية وأغاني البوب. وكنت أبحث عن شيء ما، لكن الموسيقى التي كانت متاحة في الولايات المتحدة الأميركية كانت في الأغلب موسيقى لامعة وشعبية للغاية”. وفي أواخر حقبة التسعينيات، ومع إصراره على مزيد من البحث العميق، انطلق جرجس في أول رحلة له إلى سوريا ــ وهي الرحلة التي اضطر لخوضها مرات عديدة خلال السنوات العشر التالية أو ما بعد ذلك.
ويضيف الباحث الذي ولد نشأ في خليج سان فرانسيسكو الولايات المتحدة الأميركية ويعيش في لندن: “كنت أحضر معي جهاز راديو في أي مكان أذهب إليه ــ وكنت أقترب من الناس وأقول، (ما هذا؟) أين يمكنني أن أجد المزيد من ذلك؟ وكنت أذهب إلى وسط المدينة وأزور المدن الصغيرة والقرى لأحصل على نصائح. ولكن كان علي أن أتحكم في نفسي. فشرائط الكاسيت كانت كبيرة وثقيلة عندما يكون لديك الكثير منها. وكانت لدي دائماً الرغبة في أن أقتني المزيد”.
شيء غريب يأبى أن يموت
وشهدت سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي بزوغاً واضحاً لما بات يعرف بـ”دعاة الكاسيت”، إذ اعتمد رجال يعتنقون رؤى دينية مختلفة على شريط الكاسيت لنشر أفكارهم ودخولها كل بيت من دون الحاجة إلى المرور من بوابة الإذاعة أو التلفزيون الرسمي، فكان عصر مجد الشرائط الدينية في العالم العربي. كما تقول الصحفية أمينة خيري في مقال لها بعنوان شريط الكاسيت هذا الـ “شيء الغريب” يأبى أن يموت ، وهذا ما حصل في سوريا أيضاً إذ تحولت الكاسيتات فيها إلى مادة ممنوعة كالسلاح والكتب، وبخاصة تلك التي تحتوي خطباً دينية بعد ثورة الإخوان المسلمين على حافظ الأسد مطلع الثمانينيات وشيوع أشرطة الداعية الشيخ “عبد الحميد الكشك” الذي خصص العديد من خطبه لفضح الطاغية حافظ الأسد وكشف كيف باع الجولان ولاحقت مخابراته المعارض الشيخ “عصام العطار”في ألمانيا وقتلت زوجته بيان الطنطاوي، وبات كاسيت هذه الخطبة وغيرها يتم تداوله سراً ولجأ الكثير من ممتلكيها إلى إلقائها في آبار منازلهم أو حرقها مع الكتب التي كانت تعتبر ممنوعة في عرف النظام بعد أن بدأت مخابراته بتفتيش البيوت واعتقال الناس لأدنى سبب.
متحف صوتي للكاسيتات في حمص
ومن تجارب حفظ تراث الكاسيت الفردية الشخصية في مدينة حمص تجربة الهاوي الراحل “أديب محرز” الذي كان يحتفظ في أركان منزله في حي جب الجندلي بمئات الكاسيتات والتسجيلات الغنائية والموسيقية النادرة التي جمعها خلال ستين عاماً من حياته حتى بدت أشبه بالمتحف الصوتي، وسجل الكثير منها بذاته حيث كان يرافق الحفلات الشعبية التي كانت تقام في المدينة وريفها لمطربي المدينة الشعبيين من أمثال “أبو حيان الأنصاري” و”أبو كامل الشاويش” و”ممدوح الشلبي” والمطرب “محمد صنوفي” و”ياسر المظلوم” و”أبو مروان الطش” بالإضافة إلى مطربي حلب كـ “مصطفى وردة” و”محمد خيري” وصباح فخري” و”محمد أدي الدايخ” و”مصطفى ماهر” و”محمد أبو سلمو” و “أبو حسن الحريتاني”
وروى محرز لكاتب التقرير قبل سنوات من وفاته أن بداية اهتمامه بالتسجيلات القديمة وأرشفة الكاسيتات بدأ منذ أكثر من ستين عاماً وورثت هذا الاهتمام عن والده محرز فياض الذي كان يقتني صندوق ” جرامفون” وهو صندوق من الخشب يحتوي على بوق ويتم تشغيله باليد أو بواسطة “الزنبرك” وكان والده –كما يروي– يمتلك عدداً كبيراً من الأسطوانات القديمة لمشاهير الغناء والطرب في مصر وسوريا ومنها تسجيلات نادرة لمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم والشيخ أبو العلا محمد والسيد الصفتي وسامي الصيداوي والمنولوجست عمر الزعني من لبنان والسيد يوسف تاج معلم الفنانة الكبيرة صباح، ومجموعة كبيرة من التسجيلات العراقية كأغاني خضيري بوعزيز ولميعة توفيق ومحمد القوبنجي ويوسف العمر وناظم الغزالي وسليمة مراد ، وهناك أيضاً تسجيلات أخرى لفنانين سوريين من أمثال أحمد الفقش وبكري الكردي والمنولوجست سلامة الأغواني الذي كان يهاجم الاستعمار الفرنسي وأعمال الفنانة ناجية الشامية ونادرة أميرة الطرب آنئذ وفتحية أحمد ونجاة علي وجميع تسجيلات ليلى مراد وتسجيلات أخرى لوالدها زكي أفندي مراد وعباس البليدي .
وورث محرز آلاف أشرطة الكاسيت القديمة التي يحتفظ بها في منزله الصغيرة مرتبة ومؤرشفة عن والده وأضاف إليها الكثير خلال أكثر من ستين عاماً حتى بات كما يقول يمتلك أكثر من 90% من أغاني أساطين الطرب في الوطن العربي خلال مائة عام، وأردف محرز في الحوار المومى إليه أن أرشيفه يضم أكثر من أربعة آلاف أسطوانة، ويتألف هذا الأرشيف من مكتبتين واحدة لأسطوانات “البَكَرْ” وهي أشرطة قديمة وواحدة للكاسيتات ومنها تسجيلات نادرة يعتز باحتفاظه بها كتسجيلات محمد عبد الوهاب عندما كان في الثانية عشرة من عمره أي منذ حوالي ثمانين عاماً وقبل محمد عبد الوهاب الشيخ “أبو العلا محمد” و”يوسف المنيلاوي” والشيخ “سلامة حجازي” و”السيد الصفتي” و”صالح عبد الحي” و”سيد درويش” وأغلب أعمال هؤلاء الفنانين مسجلة على أسطوانات ماركة “بيضافون ” وأوديوفون ” وجرامفون ” وهي شركات تسجيل ألمانية أخذت قصب السبق في الشهرة والانتشار آنذاك وقام بنقلها فيما بعد إلى أشرطة كاسيت مصنفة ومؤرشفة لديه .
فريد الأطرش – الجبان يخرج
ومن بين الأعمال المحفوظة في متحف محرز كاسيت يضم الحفلة الجماهيرية التي أقامها الفنان الراحل فريد الأطرش عام 1971 لصالح المجهود الحربي في دمشق في ملعب العباسيين وأثناء غنائه (أول همسة) و(الربيع) وهما أغنيتان شهيرتان له قام الطيران “الإسرائيلي” باختراق جدار الصوت فوق ملعب العباسيين فأُصيب الجمهور بذعر شديد وهرب الكثيرون منهم فقام فريد الأطرش وتكلم على الميكرفون ليهدىء من روع الجمهور، وقال لهم: “الجبان يخرج – إحنا مش جبناء – خلي إسرائيل تيجي هنا إحنا مش خايفين – يحيا العرب وتحيا سوريا”. وردد العبارة الأخيرة مرات عدة، واستمرت الحفلة بعد ذلك حتى الصباح، وتسجيل هذه الحفلة مع الكلام الذي قاله الموسيقار فريد موجود لديه، إضافة إلى ذلك لدي تسجيل نادر لفريد الأطرش على البيانو لأغنية ( ناديتك يا حبي الباقي ).
ويحتوي أرشيف محرز أيضاً عشرات التسجيلات النادرة للمونولوجات الناقدة التي غناها فنانون عرب امتازوا بهذا اللون من الغناء في كل من سوريا ومصر ولبنان ومنهم الفنان “سلامة الأغواني” و”عبد الغني الشيخ” و”سامي الصيداوي” و”عمر الزعني” و”محمود شكوكو” و”محمد الكحلاوي” و”عمر الجيزاوي” وكلها مسجلة على أشرطة تقاوم شراسة الزمن وافتئاته تركها لورثته ذكرى لزمن جميل مضى.
وبدوره قال معد ومقدم برنامج “خبر نوستالجي” على يوتيوب “أغيد شيخو” لـ “موقع تلفزيون سوريا” إن ما يميّزنا كـ”جيل واي”، كما أطلق علينا علماء الديموغرافيا، هو أننا عشنا الفترة التي سبقت ثورة التكنولوجيا وتأثيرها على الحياة الإجتماعية وعلاقة الأفراد ببعضهم وبما حولهم، وأردف شيخو أن أهمية أشرطة الكاسيت بالنسبة لنا، تأتي من كونها وثيقة مهمة للنشاط الفني والثقافي وحتى الديني لتلك الفترة، فكان الكثير منّا يقصد محل الكاسيت لعمل “ألبوم مشكّل” يضم أحدث أغاني السنة، بشرط أن لا يتعدى مجموع الأغاني المختارة 12 أو 14 أغنية على وجهي الشريط كحد أقصى، مع الأخذ بعين الاعتبار طول كل أغنية على حدا. واستدرك المصدر مستذكراً عثرات الاستمتاع لشريط الكاسيت:”كم كانت المأساة كبيرة عندما تدرك فجأة محاولة المسجل ابتلاع الشريط فتقضي بسببه ربما، ساعات وأنت تحاول لفّ بكرة الشريط بقلم، كان الأفضل أن يكون مسنن الأطراف منه أملساً، وعلى الرغم من انحسار الاهتمام بالكاسيت حالياً-كما يقول- إلا أنه لن يلبث أن يعود مرة أخرى، وبقوة، وهو ما سيفعله الجيل واي حينما يتقدم بالعمل قليلاً ويحركه الحنين إلى أيام مضت.
*تلفزيون سوريا