خالد حسين: “الخزَّاف الطائش”.. السَّرديّة المغايرة

0

ينكشفُ التاريخُ الحديثُ والمعاصرُ للكُرْدِ عن ضَراوةِ الإلغاءِ والإقْصاءِ اللذين يحفّان بكينونتهم، في مَسْعَىً مُسْتَمِرٍ لِتَرْسِيخِ أَسَاطِيرَ، أو سَردياتٍ أُخْرى، تَتَوَخّى الهيمنةَ والتغوّلَ لإبادةِ هذهِ الكينونةِ، لغةً وثقافةً ومكانًا، بتشريدِ الأخير عن ذاكرته، كما يشير سليم بركات في إحدى مقالاته. وفي ظلِّ هذا الاختناقِ الأنطولوجي، لا مفرَّ للرّوائيّ الكرديّ سوى أنْ يقوّضَ أَسَاطِيْرَ الهيمنة التي تختلقها تلك القُوى التي تقتسمُ الفضاءَ الكرديَّ، وذلك عبر الردّ كتابةً بسرديةٍ مغايرةٍ، تتوسّلُ التَّاريخَ الشَّفَويَّ الكردي الموغل في القِدَمِ، وتَسْتَعِيْدُ المكانَ من غُرْبَتِهِ وشقائِهِ في لُغَاتٍ تَعْبَثُ بروحهِ، سرديةٌ تطلق سراحَ أسماء “العلم” الكُرْدِيّة من أرشيفاتِ المنع والاحتجاز التي أَسَّسَهَا المهيمنُ في محاولةٍ صلفةٍ لإجهاض (أو الإجهاز على) أيّ نظامٍ سيميائي يشي بوجودِ هذه الكتلة البشرية الهائلة، أو يكفل لها رأسمالًا رمزيًا، وفي الوقتِ ذاتهِ العمل الحثيث على نسف الميزة التعددية التي تنبني عليها مجتمعاتُ هذه المنطقةِ تحديدًا.

هذه السَّرديّةُ المضادة يمكنُ القبضُ عليها لدى الرّوائيين الكرد بصورةٍ عامةٍ، لكنَّها تتجلّى راهنًا بقوام كثيفٍ، وبلغةٍ تمتحنُ الشّعرية في أرضية السَّرد، وذلك في روايةِ “الخزّاف الطائش” للشَّاعر والروائيِّ أديب حسن.

يمكنُ لنا، ولِضًروراتِ متابعةِ القَارىء لمسار القِراءة، أنْ نُهَيْكِلَ تضاريسَ الرِّوايةِ وعوالِمَهَا وقوَاهَا الفاعلَةَ بالقول: تنهضُ الرِّوايةُ على مكانٍ مركزيٍّ، حيثُ تنبثقُ مدينةُ قامشلي (أو قامشلو في التهجئة الكردية) ــ شمالي شرق سورية تمثيلًا عارمًا له، وهي المدينةُ التي تفرزُ شخصيةً مركزيةً، أي شخصية “سامان”، والمسارات التي تصنعها هذه الشَّخصية: العلاقة مع “سوزي” (الفتاة الأرمنية)، والعلاقة الوجودية مع “المعول”، ثم العلاقات مع “سمو ـ المهرّب”، و”لجنة الأطباء الأربعة الغامضة”، ثم الاختفاء الغامض في بحر إيجه قبل الوصول إلى المكان الحلم (جزيرة كوس اليونانية ـ فأوروبا)، وذلك على خلفيةِ الحدث ـ الزلزال الذي عَصَفَ ويَعْصِفُ بسورية، وكلُّ ذلك في جسدٍ روائيّ مارسَ فيه الكاتبُ اقتصادًا نصيًا بمهارةٍ عاليةٍ، وتجاوزًا لأيّ تبطيىءٍ يمكن أن تمارسَهُ مشاهدُ الحوار التي جاءتْ مقتصدةً. وهذه النجاحاتُ في صنعةِ ممارسةٍ سرديةِ دالّة ومهمّةٍ لا تمنع من القوِل بتأثُّر الكاتبِ بأسلوبيةِ الشَّاعر ـ الرِّوائي سليم بركات، في بعض الصياغات هنا وهناك. بهذا الانضغاطِ للسّرد، يمكنُ التَّحرُّكَ وفق مساراتٍ ثلاثةٍ للاشتباكِ مع أسرار هذه الرّواية:



I ـ اسم العَلم:
ليست السَّرديةُ المغايرةُ (أو المضادةُ بلغةٍ أُخرى) سوى الردِّ بالكتابة على الاجتثاث الثَّقافي، التي تعرّضَ له الكرد (تغييب اللغة الكردية عن مجالات التعليم، مطاردة التَّسمية الكردية، تشريد المكان عن ذاكرته بتعريبه أو تتريكه، أو فرسنته،… إلخ)، هذه الإبادة يقابلها الروائيُّ الكرديُّ بردٍّ معاكسٍ لبناء روايةٍ أخرى عن الكائن والمكان والزّمن، عبر ترميز هذه الفئاتِ الثلاثِ بخصوصيةٍ كرديةٍ إمعانًا في تقديم حقيقة أخرى، وتاريخ آخر. هكذا يُشفّر الروائيُّ الشَّخصيةَ المركزيةَ في سرديتِهِ باسم العَلم المفارق “سامان/ Saman”، و”سامان” يعني معجميًا “الصَّبر والتحمّل”، لكن اسم العَلم في المسار الروائيّ هنا يتشظّى في التدلال؛ فمرةً يغدو علامةً، هويةً للشَّخص المعنيّ، الكرديّ الفاقد لأيّ سجلاتٍ تثبتُ مواطنتَهُ، ومرةً أُخرى يُومىءُ إلى المكان، الفكرة، أي الفَضَاءِ الكرديَ المعروفِ في المصنّفات التاريخية باسم (كردستان، أو بلاد الكُرد)، والمقسّم راهنًا بين أربع قوى (ممثّلَة بالأطباء الأربعة). لكنَّ من ناحيةٍ أُولى، ومن الأهميةِ بمكانٍ التفاتُ القراءة إلى “سامان”، الشَّخص، مساراته، برامجه وتشكّل هويته السردية:
من هذا الذي يتحدّث في “ظل المتاهة” ـ البداية الروائية؟ أهو سامان؟ وما المتاهة في حدِّ ذاتها؟: “أنا أتحدّثُ عنك، لا أحد سواك يعرفُ أنّ بطولة رواية لا تعادل شيئًا أمام بطولة المكوث في سفوح الحنين إليك. حين سألتني الرّيح عن وجهتي في المتاهة الطويلة ضحكتُ كثيرًا… ص7”. وإذا كانت العلامات (عنكِ، سواكِ، إليكِ) تحيلُنا إلى علامةٍ دالةٍ على الأنثى “أنتِ غائبةٌ في جهة من هذه المتاهة. ص7″، فإن مفردةَ (المتاهة) تمارسُ عِصْيانًا وَاضحًا في الانسحابِ من التَّعيينِ والانفتاحِ على “اللا ـ حسم undecidable”، والانكماشِ على غُموضِهِا، فهل (المتاهةُ)، التي افتتحَ بها الروائيُّ نَصَّهُ، هي، إذا ما تجاوزنا التَّحديداتِ المعجميةَ في اللسانِ العربيِّ، رحلةُ الغبنِ والمجهولِ، و/أو تِيْهِ سامان من “المكان ـ المركزي” إلى دمشق بتلك (البطاقةِ الحمراء ـ غير المعترَفِ بها في سلطةٍ كليانيةٍ)، أم رحلتُهُ الفاشلة الأولى إلى تركيا سرًّا، وما جرى له على أيدي السلطة التركية، أو رحلتُهُ الثانيةُ إلى ديار بكر، فإزمير، فالتيه الأبديّ في أمواه البحر؛ لتتّحد هنا متاهةُ سامان مع متاهةِ الطّفلِ (آلن الكرديّ) في بحر إيجه، أو ليتّحدَ الموتانِ في متاهةٍ واحدة؟ لكنَّ متاهةَ سامان قد تكون متاهةَ الروائيّ ذاتها، الكتابة/ الرّواية بوصفها متاهةً، أليستِ الكتابةُ متاهةً، صحراءَ، مفازةً، أم هي البلد الحلم، المقطّع الأوصال، حيث الوصولُ إليهِ متاهةً في حدّ ذاتها؟ هذا الانفتاح على التّحديد واللاتحديد يجعل المتاهةَ تنطوي على بُعْدٍ شَبَحِي، حاضرٍة وغائبة، واضحة وغامضة، يقين وسراب!

في هذه “المتاهة”، تنمو الهوية السَّردية لـ”سامان” صفحةً إثر صفحةٍ: “كما يحدث كل يومٍ.

يخرج “سامان” حاملًا معوله إلى جهةٍ لا يعرفها، لا يدري كم سيسير، ولا متى ستتوقف قدماه؟ ص9″، هذا شأن سامان “الأجنبي”، سامان المجرّد من الجنسية السُّورية (كتمثيل لآلاف الكرد السوريين): “رجل يشبه ظله كثيرًا لفظته السّجلات الحاكمة بأمر الله. السجلات المدوّنة بمكائد العرق الصافي واللغة الواحدة والأمة الواحدة والرسالة الواحدة. ص21″، لا مكانَ له سوى المتاهةِ، مسافرٌ أبدًا، يحيا في مكانه وليس له، أو قل مسافر من دون سفر، فحين يبدأ زيارته الأولى إلى دمشق، يُمنع من السّفرِ لكونهِ “أجنبيًا”…! لا يحمل سوى بطاقةٍ حمراءَ مهترئة بخلاف بطاقة الهويةِ الأصليةِ التي يحوزها السوريون عادةً، هذه البطاقةُ الحمراءُ لا تخوّله حتى حقّ السفر إلى العاصمة: “هويتك ولاااك. (…) ارجع لقامشلي ولااااك ص36”. بهذا المنطق، منطق السُّلطةِ الشُّموليةِ التي ابتلعتْ بلدًا مثل سورية جرى ترسيخُ سرديةٍ مفخخةٍ بالأكاذيب والإلغاء والإقصاء ضدَّ الكرد: إنهم أجانب، إنهم ضيوف، إنهم عملاء…! ليغدوا بذلك من أهل المتاهة: “ورقة حمراء مهترئة تثبت أنه من أجانب محافظته، وأنّه أهلٌ لهذه المتاهة. ورقة حمراء تطيح باليقظة وبالحلم عليها ختم العناية الإلهية للقائد. والختم الأزرق الضاغط بقوةٍ على صورته الشاحبة في زواية الوثيقة. يضغط الآن بقوةٍ على صدره، فيفتح الجرح الماكث هناك. ورقة حمراء ستضعه في البرزخ، وفي قوارب المتاهة التي تشقّ المجهول بحثًا عن قدر يعيد إلى اللعبة صوابها”. إنها ليست إلا الهجرة في متاهتها وجراحها، إنها ليست إلا قوارب المتاهة/ البحر تنقلب بسامان ليضع حدًّا لهذه المتاهة. لكن ما هذه المتاهة الأخيرة التي تتموضع في السُّطور الأخيرة في الرواية؟
قبل استكشاف هذه المتاهة ــ الحدّ يتطلب الأمر الإحاطة بمسار آخر لشخصية “سامان”، وهي تضفر هويتها السّردية ـ أقصد علاقة سامان بلجنة “الأطباء الأربعة”، فالسَّردُ يعيّن مساحات متعددة لهذه الثيمة، إذ تتحوّلُ فيها رمزيةُ سامان من الفرديّ (… ذلك الجرح الطُّوليُّ في صدره. ص16” إلى الكليِّ تحت وطأة التشظّي إلى أربع جهاتٍ، إلى كينونةٍ على مشرحةِ التَّقسيمِ: “الغرفة الواسعة تزداد عتمةً. صفير الأجهزة المحبطة يتعالى في توتّر منذرًا بحدوث شيءٍ ما، الأطباء الأربعة يرفعون أياديهم في يأس مبطن، طاولة العمليات تعجّ بكتلٍ من الأحلام التي استأصلها جراحة المتاهات، الجرح المستطيل في أعلى الصَّدْرِ ينتفضُ مصدرًا أصواتًا جنائزيةً غريبةً. ص103”. هذه الصُّوْرة السَّردية قائمةٌ على الاستعارة والتماثل، إذ تستدعي تاريخًا مؤلمًا، ليس بالبعيدِ، إلى الذَّاكرة حين أُخرج “الكرد” ـ في لعبة تقسيمات القوى الإقليمية والعالمية لفضائهم عصرئذ ما بين الحربين العُظْمَيَينْ ــ من سجلاتِ الوجودِ بوصفهم كينونةً وثقافةً جرى إيداعهم في خزائن التَّغييب والمجهول باسم “أتراك/ عرب/ فرس الجبال”، أو عصاة خارج التاريخ. هكذا حاول الأطباء (القوى) الأربعة اختلاق سرديةٍ قائمةٍ على التلفيق، لذلك كان لابدّ من سرديةٍ مغايرةٍ، سردية تقول تاريخًا آخر على صنفِ “الخزّاف الطائش”: “ذاهب بهواجسه المرتعدة يجمع ما تناثر أمامه من أوراق، ويرتّب عمره المنكسر بين حبرها المرتجف. يكتب تاريخ ولادته ويترك بياضًا هائلًا… قبله وبعده. ص28، ليكتب سؤالًا حارقًا على صفحة التاريخ تنهض معه الدَّهشةُ باستنكار عارمٍ: “وماذا عن شعبٍ يعيش على أرضه عيشةَ الغريب الأجنبي الذي لا ناقة له ولا جمل في إدارة شؤون وجوده، يولد ويشبّ ويتزوج ويُقمع من دون أن يتركَ في السجلات أي أثر على مروره؟؟ص 78”.

سيخوض “سامان” رحلتين للخروج من المتاهةِ بعد انجراف بلده (والأصوب لاـ بلده، فهو مكتوم القيد) إلى أتون جحيمٍ لا يُوصف، هربًا من الجحيم ذاتهِ مع أفواج من الكرد والسُّوريين بحثًا عن ملجأ إلى “تركيا” عبر منافذ حدودية يرسمها المهربونَ، لكنَّ الرحلةَ الأولى تقعُ في مصيدةِ “الكمين التركي”، ولم تكن إلا صورةٍ عن الرحلة الأولى إلى دمشق، يسأله الضابط التركي: “ما اسمكَ أيُّها الكلب…! ص45″، يعود “سامان” إلى المكان ـ المركز (قامشلي)، إلى سوزي الأرمنية، ليفكّر بالمتاهة الأخرى، الرحلة الثانية إلى إزمير صوب أوروبا في عُهْدَةِ مهربٍ كرديٍّ محترفٍ (سمو)، الصُّورة أخرى لـ”سامان”، أحدهما أجنبي في سورية، والآخر مكتوم في تركيا: “إذا كنتَ مكتومًا في مسقط رأسك، فأنا مكتوم في الجبال التي رسمتُ دروبها بحوافر فرسي طيلة ستين سنة…!! ص91”. ينجحُ سامان أخيرًا في الوصول إلى إزمير بعد عبور حدودٍ ملغمة، نصيبين، ديار بكر، فالبحر ــ المتاهة، فهل ينجزُ برنامجَهُ السّرديَّ، أم أن فقدانَ الموضوع أصلٌ في رحلته التي تمفصلُ بين حدّين، كما كتبتْ سوزي له: “غرب البحر محمّل بالأمطار، وشرقه محمّل بالغبار. ص169″، حين صعدَ البلم المطاطيّ لم يكن يحمل سوى بطاقةٍ حمراءَ، ومعولٍ، وأحلام هائلةٍ للعيش في غرب البحر، لكنها لحظةٌ وسينهار البلم في عرض البحر، وحده سامان سيبقى يصارع الموج: “إنني أبحث عن الأرض لكي أُكملَ العبث الخالد…!! ص172″، أهي الأرضُ ـ الحلمُ والعِناد الكُرْديُّ في البحث عن فسحةٍ من الوجود؟ هنا؛ يضعنا النصُّ على الحدِّ، في لعبةِ البين بين، لعبةِ الغموض والوضوح، بين الغياب والحضور، بين الموت والحياة، نهاية مفتوحةٌ على حقلٍ من الظنون والاحتمالات، فتارةً تتجسد النهاية في غياب الجسد وحضور (أثر ما)، دالّ على المكان المركزي:” توقف صوت المعول فجأةً، توقف نشيج الكمنجة (…) وانحسر الماء عن صورة قامشلي الناجية الوحيدة من برزخ الهذيان. ص173″، وتارة ثانيةً ينتصر سامان على البحر: “خرج الرجل الذي يشبه الجرح الذي يفتحه في جسد الأرض إلى الجهة نفسها التي لا يعرفها (…) وعندما رفع الشاهد البيضاء، (…) أضاءت ذاكرته لأوّل مرة باسم يألف… فكتب بأحرف كبيرة.. س… ا… م… ا… ن. ص 174”.
لكن الشّذرةَ الأخيرةَ من خاتمة الفصل الأخيرة تزجُّ بنا من دون هوادة في متاهة المعنى، متاهة الموت حينًا (انغلقت عيناه، وثمة ظلال وغبار وحفيف هواءٍ حزينٍ يصعد سلالم الفراغ…ص174)، وحينًا آخر متاهة الحياة (… في المكان العائد من الضياع… المكان المرسوم بمعولٍ وصخرةٍ وشجرة وطين غفير. ص174″، كأنَّ خاتمة الرواية تعكس لنا مصائر الكرد الملتبسة في هذه الحياة بين نجاحات صغرى وإخفاقات كبرى ومريعة!

II ـ رمزيات مُسْتَحْضَرَة
لا تنفكُّ السَّرديةُ في “الخزّاف الطائش” عن تحشيد رمزيات، أو علامات دالة، لتأسيس “المغايرة”، فالرواية ليست تمرينًا في الكتابة السَّردية بقدر ما تشفُّ، وبقوةٍ، عن قصديةٍ عاليةٍ ومركزةٍ عن كينونةٍ محفوفةٍ بمخاطر جمةً تُهدّدها في العمق. ومن هنا، اعتماد الروائيّ على توظيف عناصر رمزية تعضدُ من سرديته لتفكيكِ السَّرديات الشمولية، لتؤكد عراقة هذه الكينونة المغيّبة عن سجلات الوجود: “امتد الطريق بالعربات العسكرية التركية وهي تشقُّ الليلَ إلى وجهتها المحاذية لجزيرة بوطان. هنا في ذات المكان وقعت الملاحم الكردية. ص4”. حين وقعت تلك الملاحم لم يكن ثمة من حضورٍ تركيٍّ غريبٍ ينغصُ الوجودَ، ويحدثُ إبادةً لذاكرة المكان. لذلك، وفي تحدٍّ للحضور “التركي الغريب”، فإنَّ هذه الملاحم تؤكد الإقامةَ الأصيلةَ لأهل المكان: “وكأنَّ قدر الكرد أن يختبروا صنوف الألم بين سهولهم وجبالهم، ويدوّنوا حسراتهم في مواويل ومآسٍ تتناقلها الحناجر من جيل إلى جيل. ص40″، فالملاحم هي اللغة، اللغة التي كادت تُباد لولا استحضار هذه النصوص الغائبة، وعلى هذا المنوال تستدعيها الرواية إلى ساحة السرد: “ها هنا كان “مم” يبحث عن معشوقته “زين”. وهنا أيضًا كان موكب مير بوطان يشقُّ هدأة السهول في رحلات الحرب والصيد. من هنا مرَّ بائع السلال “زمبيل فروش”، الذي رفض إغراءات “خاتون” الغنية الجميلة، وفضّل أن يجري على رزق عياله في حواري وأزقة بوطان. وهنا في سفوح أحد الجبال وقع “سيامند” على غصن شجرة اللوز الذي اخترق صدره، واخترق في ذات الوقت فؤاد حبيبته “خجي” التي ماتت حسرةً على عاشقها.

ص40″. من شأنِ سرديةٍ تستدعي ملاحم غائبة هو أن تمعن في تأكيد غيريتها، أن تومىء إلى كينونةٍ أخرى في أن تتمتع بأحقيةِ الوجود أسوةً بالآخرين. يمضي الروائيُّ في المسار ذاته من الترميز وتقديم المختلف، ففي الطّريقِ إلى إزمير يبدأ السَّائق بالغناء “يدا “حمو” تقبضان على المقود وفمه يقبض على أغنية كرديةٍ هاربة تتحدث عن جبل “آكري”، أو “آرارات”، وعن ثورة الشيخ سعيد بيران التي اشتعلت ضد الأتاتوركية في بدايات القرن العشرين…ص166. هنا، يتحدّثُ السائق لسامان عن الحكمة التي تمتّع بها “الشيخ سعيد ـ قائد ثورة 1925″، وامتناعه عن قصف ديار بكر للحفاظ على أسوار المدينة الأثرية التي يجب أن تبقى كرديةً! وهذا هو الوجه المختلف، وهو تمامًا ما يُقصد به الردّ كتابةً حين تتيح الكتابة حيزًا لرؤية الحقيقة من زواية أخرى، وجهة نظر المغلوب، تحديدًا، ورؤيته للعالم.

III ـ المكان وطاقة المجاز
يتعامل الرّوائي مع المكان بإخضاع المكان الأنطولوجي لِسَمْطَقَةٍ مضاعفةٍ بآليات المجاز، ليتجاوز المكان دوره البنائي إلى دوره الثقافي، وكعلامةٍ مميزة في مسار السَّردية المضادة التي تقدُّمها رواية “الخزّاف الطائش”. ويمكن القول، بكثيرٍ من الاطمئنان، إن الرواية تبدأ بـ”قامشلي”، وتنتهي بها؛ المبتدى والمنتهى، وهذه خصيصة للمكان الجاذب؛ لتغدو بذلك المكان المركزي في الرّواية، كما جرت الإشارة، حيث منها تنطلقُ مساراتِ “سامان” نحو دمشق تارةً، و”ديريك” و”بوطان” تارة أخرى، وثالثة إلى نصيبين، ديار بكر صوب جزيرة “كوس” الإغريقية. هذه المسارات تشكّل الفضاءَ الروائيَّ المتحكمَ بكينونةِ سامان، وتسهم في بناء هويته وتبلورها.

“قامشلي” مسقط رأس “سامان”، المدينة التي أُصيبَ فيها بطلقٍ ناريّ في ذراعهِ من “بندقية وطنية” ـ حريصة على الأمة الواحدة، واللغة الواحدة، والحقيقة الواحدة، والعرق الواحد، كما روجّت السلطة الشمولية هنا وهناك ــ وهو يهمُّ بإشعالِ شُعلة نوروز، أو مدينة الحبّ كما يسمّيها “الكرد” هي فضاءُ العشقِ الذي جمعَ بين “سامان” و”سوزي” الأرمنية. في فضاءِ العشق هذا، تتيحُ السّرديةُ ذاتها لألعاب اللغة الشعرية، حتى يكاد القارىء يجد ذاته مشرفًا على ممارساتٍ شعريةٍ، وهو في الواقع دَيْدَنُ السرد في هذه الرواية التي استثمرت على نحو واضح تقنيات الكتابة الشّعرية، من غموض، مجاز، مساحات بيضاء، وكتابة مقطّعة على شكلٍ شذراتٍ تفرضُ على القارىء أن يملأَ هذه الصُّدوع حتى يستمرَ السَّردُ في مسارهِ.
ثمة احتفاءٌ بتفاصيل “قامشلي”، حاراتها، ونهرها، والملعب البلدي، ودور السينما الأربع فيها، وعالمها السكانيُّ المتنوع. و”قامشلي ـ المكان” هنا تنمو مع تطور النصّ، سردًا وحدثًا وقوىً فاعلةً، وتكشفُ الشذراتُ التي تتمظهرُ فيها المدينةُ عن قوة المعايشة الأنطولوجية بين المكان وسامان: “ينصتُ لآخر مرةٍ إلى تلك المقطوعة الموسيقية الفريدة التي يتشارك في عزفها ورق الشّجر، وريح خريف قامشلي”. في الصيف تبدو موسيقاها رومانسية هادئة فيما تزداد صخبًا في الشتاء مع دخول إيقاعات المطر وأحيانًا أصوات الرعد. ص25″. هذا الإيقاع المؤلم للغةِ السَّاردة تعكسُ إرهاصات السّفر عن المكان والأم، عن حارة “قدور بك” في قامشلي، لكن حالما يتعلّقُ الأمرُ بمدينة الحبّ، حيث سوزي الأرمنية، تخطفُ المدينةُ مجازاتِهَا من الشّعر الصَّافي: “في قامشلي يهطل وردٌ غفير فيسقي الأفكار الظامئة ويوقظ الصُّور الجميلة من قبور الذكريات، هي المدينة التي خطفها الحب ومنحها اسمه وسوّرها بأنفاس العشاق. ص48”. إنها مدينةُ الحبّ التي تفوز بعنوان مستقلٍ في منعطفاتِ السَّردِ “وردة قامشلي”، إذ يفيضُ السَّرد شعرًا: ” قامشلي امرأة. والمرأة إن أحبت مال الكون إلى سرّتها وسالت البرية أمامها كجدول في حكاية. هي أكثر من نقطة تائهة على الخريطة. وأكبر من حنين يتدثّر به الغريب كلما استبدّ به عبث الجهات. ص49″، وكما أشرتُ في هذا المحور يوظّف الكاتب المكان ـ المركزي، وسواه من الأمكنة الأخرى، بمهارةٍ تخدم البنيةَ العامةَ للنَّصِّ الرّوائيِّ حتى يغدو “المكانُ” من القوى الفاعلةِ لإنتاج الدّلالة المتكثرة بالتضافر، مع إعطاءِ السرديةِ نكهةً مضادةً بالتركيز على الأمكنة التي تفيضُ بالوجود الكرديّ: قامشلي، ديريك، بوطان، نصيبين، ديار بكر، لكن “قامشلي” تبقى هي المبتدى والمنتهى، حين تنبثق في بداية الرواية وتضيءُ صورتُها خاتمةَ الرّواية.


IV ـ شيفرة العنونة: عودٌ على بدءٍ
تنطوي الرّواية على عناوينَ/ علاماتٍ تمنح القارىء إمكانية التأويل والإحاطة بـ/أو الالتفاف على الصُّدوع الدّلالية التي تضرب بقوةٍ تضاريس النّص، وهي عناوين بعضها يؤدي وظيفةً إشاريةً مكانيةً، أو زمانيةً، تشدُّ النصَّ إلى العالم (ديريك، القافلة، الكمين، ورقة حمراء، المخفر، الجندرما، أربعاء ما، الأجنبي، ديار بكر، البحر)، وبعضها الآخر يتكىء على المجاز (ظلّ المتاهة، حيلة العدم، فاتحة الجرّاح، فكاهة التراب، صكوك العراء، وشاية الهواء لتزيد من اخــ(تـ)ـلاف النصّ، أو تُسهم في رسم المتاهةِ التي تاهَ فيها “سامان”، لكنها في الوقت ذاته هي مفاتيحُ للخروج منها. وإذا كان من الصَّعب مطاردةِ هذه العلامات كلها، التي تنبني وفق استراتيجيتين في العنونة، كما أشرت: إشارية ومجازية، إذ يقتضي التَّحليلُ مساحةً أوسع، فما يهمُّنا هو الاقتراب من أسرار العُنوان الرئيسي (الخزّاف الطائش)، الذي يشي بكونه علامةً على ممارسةٍ شعريةٍ أكثر منها سردية للوهلةِ الأولى، لكنه يعكسُ في الحقيقة الواقع النَّصيّ المجدول من تعاضد السّرد والشّعر بعد قراءة القارىء للنّصِّ.

ويمكن تسويرُ دلالاتِ العنوان مبدئيًا بالقول: الخزّاف: صانع الجرار والأواني من الطِّينِ، أو الصّلصال، وهي مهنةٌ تتلاءمُ وجغرافية الرّواية ـ منطقة الجزيرة، وطبيعتها منذ القدم، وحتى اللحظة الراهنة. لكن ما شأنُ “الطَّائش” هنا كتوصيفٍ للخزّاف، إذ يعطّلُ حضوره الدلالةَ المعياريةَ للمتوقّع من التركيبِ في صيغتهِ التَّداوليةِ: الخزّاف الماهر؟ معجميًا يشيرُ اسم الفاعل (الطائش) إلى دلالات النَّزقِ والخفّةِ وكسر المعيار (الانحراف)، لكنَّ العربيةَ تمنحُ دلالةً مهمةً هنا، وهي (التشتُّت) أيضًا. لكنْ لِنَعُدْ إلى الرِّواية ثانيةً، التي تظهر في دورها علاقةً قويةً بين سامان والأرض، فالمعول لا يفارقه أنّى ذهب، كما لو أنُّه يَسْتَبْصِرُ به مناطق الصّلصال الصالحة لِصِنَاعَةِ (الخَزَفِ). يقول سامان: “هو ذا الطين مرة أخرى يا سامان… أين الأصابع الطائشة التي تتجاسر على الذّاكرة فتجرُّ سكانها من هيئات الحلم السّاحرة إلى أشكال حائرة مقيّدة، وكأنّها اُقتطعت من أحجار الجحيم… أين هي لتصف اكتمال الطيش… وسطوة العبث في هذا الفراغ المريع. ص30”. من الواضح للقارىء التنادي الصَّوتي والدِّلالي بين العنوان الرئيسيّ والشَّذرة المقبوسة هنا (الأصابع الطائشة، اكتمال الطيش)، ليقودنا المقبوسُ إلى الكشفِ عن “مهنة” سامان ذاتها، أي “الخزّاف” المنهم بصنع الأشكال الهندسيّة الطّينيّة في بيئةٍ زراعيةٍ تحتفي بالطِّين، بامتحان الخيال في أشكال حائرة من الجمال. لكننا يمكنُ بإحداثِ زحزحةٍ في تركيب “الخزّاف الطائش” نحو مَجَازٍ مُضَاعِفٍ أن نعقدَ مضاهاةً بين “الخزّاف” و(الشّاعر ـ الرِّوائي)، حيث الطَّرفان يشتركان في ابتكار الأشكال، أشكال من صلصالٍ، وأخرى من اللغة. هكذا، فليس سامان “الخزّاف” إلا “الشَّاعر، أو الرّوائي، أو الرسام المنذور لألعاب الخيال، وهي تتجسدنْ في هيئات متنوعة: “أنا الخزّاف الطائش أقول للطين: اكتب هذياني إن استطعتَ. ص 75”. هذه الهذيانات سرعان ما تميطُ اللثامَ عن نفسها في صورةِ “مذكرات” في الفصل الأخير من الرواية، حين يحصل سامان على الإقامة في بلد أوروبي: “في فترة الإقامة، سيكتب مذكراته، وسيفرع كل ما في جعبة جراحه، من دون خوفٍ من مقصِّ رقيبٍ، أو من هراوة شرطيٍّ، أو من تقرير سام لأحد المخبرين (….)، وسيكتب على زاوية الشارع الذي يسكنه: (الرجاء الهدوء وعدم إصدار أصوات مزعجة… هنا يسكن الكاتب سامان). ص 171”. وعلى هذا النَّحو، وإذا أخذنا بالنظر دلالات (الطائش) بوصفها “تشتُّتًا”، ومجازية (المعول) الذي يرافق سامان في حلّه وترحاله، كناية عن أداة الكتابة، نستطيعُ أن نترجمَ “الخزّاف الطائش” إلى سامان “الشاعر، الروائي، الرّسام”)، الذي أجبرته ظروف بلده، التي هوتْ في جحيم حربٍ أهليةٍ، وقبل ذلك جحود السلطة بعدم الاعتراف بكينونته، وذلك بإقصاءِ قطاعٍ من الكرد (الأجانب والمكتومين بدعاوى لا تصمد أمام الواقع) برمتهم من شؤون الحياة، على التشتُّت في الجهات للبحث عن فضاءٍ آمن، “سامان الكردي” المبعثر في جهات المتاهة…!!!

*ضفة ثالثة