حاولت في مقال سابق تفكيك العنوان الرسمي لما يُسمى «صفقة القرن» وحمولته البراقة: «السلام لأجل الازدهار: رؤية لتحسين حيوات الفلسطينيين والشعب الإسرائيلي»، وكشف ما انطوى عليه العنوان من تراتبية استعمارية وحصر مفهوم «الشعب» بالاسرائيليين، وسوى ذلك من عناصر، خاصة في الصيغة الإنكليزية الاصلية للعنوان. (أنظر: «خدعة القرن: تفكيك العنوان وتأملات في لغة العنصرية الكولونيالية»، «القدس العربي» 10 إبريل/نيسان 2020). واستكمالاً لذلك التفكيك، تحاول هذه المقالة كشف عملية خداع أخرى تتربع على غلاف نص «الصفقة» المنشور بالانكليزية، ومتمثلة في الصورة المُستخدمة لمدينة فلسطينية هانئة، يمتد أمامها مستقبل واعد. هذه السطور تستنطق الصورة لتحكي ما حاول مصممو الغلاف إخفاءه على حدودها. العنوان والصورة يستكملان تصنيع الوهم الذي يحمله الغلاف الادعائي، وكلاهما يحرصان على تعزيز حلم «السلام والازدهار» ذاتها. بيد ان واقع القصة، وكما هو واقع نصوص «الصفقة»، منسوج من سراب نقيض لذاك الحلم المُصنع بخداع ليس ماهرا.
يحمل الغلاف المُصمم بدهاء صورة منتقاة بعناية بالغة، يظهر فيها الجزء الجنوبي الشرقي لمدينة بيت لحم بأفق مفتوح يتلاقى أفقيا مع هضبة جبلية لتلال متوسطة الحجم. للوهلة الأولى، يثير هذا المنظر الإحساس بوجود مدينة تخيم عليها السكينة، تنعم بأحياء فسيحة، ونظيفة إلى حد معقول، كما تنتشر في ارجائها مبان متعددة الأدوار. خط الأفق المفتوح يعانق تضاريس شبه خضراء تولد الإحساس بأمل ما و»ازدهار» مقبل. في الوسط العلوي من الصورة ثمة حيز مكاني «مُتاح» يحتل مركزية بصرية فيها يجسد الوعد بإمكانية الامتداد والتطور في الاتجاه المرصود ولا ينتظر من المدينة سوى أن تعمل على تحقيقه فقط. عناصر «الوعد» في الصورة تؤكد جوهر الرسالة المَضمرة والمؤشرة إلى مستقبل إيجابي زاهر للفلسطينيين – ينسجم على نحو سلس مع «الازدهار» الذي يتضمنه عنوان الصفقة البارز عموديا على طول الصورة. المأمول من الصورة هنا هو ان تحقق أثراً بصريا يعزز رطانة الوعد المحمول في العنونة المباشرة والإيحائية. كلاهما يقولان للفلسطينيين إن ما تحمله النصوص المُغلفة بالصورة والعنوان فرصة لا تفوَّت للقبض على مستقبل مشرق. لكن كيف يمكن أن تكون الصورة خادعة وهي حقيقية بالفعل للجزء الظاهر من المدينة؟ وهل ثمة تعسف وتأويل مُتزيد في قراءة تفصيلية كهذه لصورة، ربما كانت «عادية» واختيارها عادي وربما اعتباطي؟ لإختبار ذلك، نحتاج للتلاعب مع الكاميرا بعض الشيء، فلربما ساعدنا ذلك في التأكد من الزعم الذي تسوقه هذه السطور. مثلاً، ماذا لو حركنا الكاميرا قليلا نحو الأطراف، التي لا تظهر في الصورة، يمينا ويسارا؟ ماذا لو اقتربت الكاميرا أكثر (zoom in) نحو عناصر الصورة وكبّرتها، أو ذهبت إلى مكونات الأطراف والزوايا التي بالكاد تظهر، ماذا سنرى عندئذٍ؟
ابتداءً، تتوضح «عدم المصادفة» في اختيار هذه الصورة من الدقة في انتقائها لمقطع من المدينة لا يظهر فيه بوضوح أو فجاجة أي جزء من المستوطنات الإسرائيلية، أو الجدار العنصري أو الوجود العسكري للاحتلال الإسرائيلي. يصعب عموماً التقاط صور جوية واسعة الزوايا (zoom out) لأي مدينة فلسطينية، أو منطقة واسعة، بحيث تكون خالية من مظاهر السيطرة الإسرائيلية والاحتلال والمستوطنات. مع ذلك، وفي صورة الغلاف «التلحمية»، لو أجرينا أي إزاحة ولو طفيفة في زاوية التصوير، من نقطة التقاط الصورة نفسها لتم فضح ما أراد مصممو الغلاف طمسه، وحرصوا على إبقائه بعيدا عن أنظار متأملي الصورة.
فلو عُدلت زاوية الالتقاط إلى أقل من ثلاثين درجة جنوبا، لظهرت في اللقطة مستوطنتا «تكوا» و»نوكديم» الإسرائيليتان. أولهما، «تكوا»، أقيمت في عام 1975 كبؤرة استيطانية مؤقتة فوق أراضي قرية «تقوع» الفلسطينية، ثم تحولت مع مرور الزمن إلى بلدة صغيرة. ولاحقاً، إبان الثمانينيات، جرى ربطها مع مستوطنة «نوكديم» التي أقيمت عام 1982 فوق أرض صُودرت من قرية «جناتا» الفلسطينية. ولو عُدلت زاوية التقاط صورة الغلاف ثلاثين او أربعين درجة شمالا، لظهر جزء من مستوطنة «هار حوما» التي بنيت فوق جبل أبو غنيم الفلسطيني، إلى جانب أجزاء من جدار الفصل العنصري. الجبل والأراضي التي أقيمت عليها هذه المستوطنة جرت مصادرتها في عام 1991 من عشرات العوائل الفلسطينية من أبناء بيت ساحور التي تعد جزءًا من مدينة بيت لحم. في كل صباح تقع عيون الملاك الاصليين على المستوطنة الضخمة التي جثمت فوق أراضيهم المسروقة، يتجرعون مرارة يومية تذكرهم بسطو الدولة «الديمقراطية» على ممتلكاتهم. الصورة الوادعة على الغلاف تظهر «عادية» المساحة الواقعة ما بين سرقات الأرض والمستوطنات على الجانبين، تُظهر رتابة المكان، وتُخفي آثار الجريمة المحيطة به.
لو غيرنا موقع التقاط الصورة بالكامل، وانتقلنا إلى أي نقطة أخرى في بيت لحم للقيام بالمهمة الخداعية ذاتها والتحايل على الواقع، لالتقاط صورة تخلو من المستوطنات، أو الاحتلال العسكري، أو الجدار العنصري، لصار الأمر أصعب. المدينة برمتها مسوّرة بالمستوطنات. من الناحية الشمالية، محاصرة بطوق استيطاني يضم «غيفعات هماتوس»، و»غيلو» و»حار غيلو»، وكلها بني فوق أراض انتزعت ملكيتها من عائلات بيت جالا وصور باهر وغيرها من قرى المدينة. على طول غرب المدينة وجنوبها الغربي تمتد أضخم كتلة استيطانية في الضفة الغربية، التي تضم مستوطنات «بيتار عيليت» و»غوش عتصيون» و»إفرات». في يناير/كانون الثاني 2019، صادقت حكومة الاحتلال على خطة توسيع مستوطنة «إفرات» نحو الجنوب الشرقي، باعتبارها مرحلة من مراحل تنفيذ خطة كبرى تدعى «E2» ترمي إلى ربط الكتل الاستيطانية الجنوبية الغربية بالكتل الاستيطانية الجنوبية الشرقية، التي تضم مستوطنتي «نكوديم» و»تكوا»، وبهذا يتمُّ تطويق المدينة من الناحية الجنوبية بشكل تام. هذا التطويق يقطع بيت لحم عن مدينة الخليل من جهة الجنوب، مثلما تمَّ قطعها عن مدينة القدس من جهة الشمال والشرق، ويستكمل الطوق الاستيطاني الدائري التام حول بيت لحم. السكينة «الواعدة» التي تبديها صورة غلاف «خدعة القرن» تُسكت هذا الخنق المتواصل لمدينة بيت لحم، وتتكتم على الضجيج اليومي لجرافات الاستيطان التي تدمر أراض الناس وآمالهم ومستقبلهم.
الحذر البالغ في إنتاج صورة وغلاف يقولان سرابا ويخفيان جريمة، خانته بعض عناصرها وقد أبت إلا أن تشي بما هو على الضد من التلفيق. ففي أعلى الصورة، في الزاويتين اليمنى واليسرى، هناك رمزان مدهشان للاحتلال والسيطرة الإسرائيلية على الحيز المكاني. أولاهما، في الزاوية اليمنى، محمية «هيرودس» الأثرية السياحية في قمة جبل الفريديس، المحتل منذ عام 1967؛ وثانيهما، في الزاوية اليسرى، طرف مستوطنة «حار حوما» التي تقطع بيت لحم عن القدس. الحيز المكاني الذي تعرضه الصورة كحيز «متاح» ويمثل وعد النمو والتوسع بالنسبة لبيت لحم، يقع في الحقيقة في هذه الفسحة الضيقة بين قمتي الجبلين وفوقهما تمثلات التحكم الاستعماري.
استمراراً في تمرين تدوير الكاميرا واكتشاف ما أخفته الصورة، ماذا نرى لو ضبطنا عدسة الكاميرا لالتقاط صورة مكبرة (zoom in) لما وراء التلال الظاهرة في الفسحة «الواعدة» التي يُظهرها الغلاف؟ عندها تتكشف لنا شبكة من الطرق الواصلة بين المستوطنات، والشوارع الجانبية، والأنفاق والجسور، المبنية أو المتفرعة من «شارع ليبرمان». هذا الشارع الشرياني، يربط بين أجزاء الكتلة الاستيطانية المؤلفة من مستوطنات «نوكديم»، و»تكوا»، والمستوطنتين الأصغر «كفار إلداد» و»معاليه رهفعام» على طول الخط الصاعد شمالا إلى مستوطنة «حار حوما» والقدس. يبطش هذا الشارع في طريقه بأراضي القرى الفلسطينية؛ حرملا، ورفيديا، وزعتره، وقرى التعامرة، وراس الواد، وبيت ساحور والخص. ويمتد بكلفته الباهظة وبنيته التحتية الضخمة على طول تسعة كيلومترات فوق مساحة تبلغ 392 هكتارا من الأراض الفلسطينية المبتلعة، وسمي تيمنًا بـ»أفيغدور ليبرمان»، الزعيم اليميني الإسرائيلي ووزير الدفاع والخارجية السابق، الذي يعيش في مستوطنة «نوكديم» ويعرف بعنصريته الصارخة ضد الفلسطينيين ودعواته إلى طردهم.
خديعة الصورة التي تُظهر أراضي تغمرها السكينة فوق الأرض، تخفي أيضا واقعا بشعا يمتد إلى ما تحت الأرض. سرقة إسرائيل اليومية للمصادر المائية الفلسطينية في بيت لحم، وفي سائر الضفة الغربية، لن تظهر أبدا في صورة الغلاف. منذ احتلالها العسكري في عام 1967، بسطت إسرائيل سيطرتها على كافة المياه الجوفية، والينابيع، والمصادر المائية الفلسطينية، ومنذ ذلك الحين وهي تستغل هذه المصادر في تغذية مستوطناتها ومدنها الإسرائيلية. ومن المفارقات المرعبة للاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي أن يشتري سكان بيت لحم (كما هو حال بقية المدن الفلسطينية) مياههم المسروقة من المحتل الإسرائيلي، وأن يدفعوا أربعة أضعاف ما يدفعه المستوطنون الإسرائيليون، الذين يعيشون بجوارهم وفوق أراض سُرقت أيضا منهم. بسبب الكلفة الباهظة، والانقطاع المتواصل وشح المياه أصلا، يبلغ معدل استهلاك الفلسطينيين الذين يعيشون في البيوت التي تظهر في صورة الغلاف 69 ليترا لكل شخص، مقارنة بـ287 ليترا لكل مستوطن يعيش في الكتل الاستيطانية المحيطة بهم. داخل تلك البيوت الفلسطينية نفسها، هناك شخص من بين كل أربعة أشخاص بالغين عاطل عن العمل وفق الأرقام المسجلة لعام 2019 بسبب خضوع المدينة لسياسات إسرائيلية خانقة، في ما يتصل بالاقتصاد والسيطرة على الأراضي.
خداع المشهد الوديع الذي يظهر في صورة غلاف صفقة القرن، ويقصد خلق شعور بوجود حياة عادية وواعدة، يخفي وراءه البطش المتواصل في المدينة، التي تقلصت إلى 13% من المساحة الأصلية التي كانتها عام 1967، والبطش المتواصل في سكانها، فوق الأرض وتحت الأرض أيضا. تبقيهم «خدعة القرن» كما هم تحت نظام السيطرة هذا، من دون تفكيك أي من أجزائه، وتقول لهم بأن ما فيها فرصة لا تفوت.
*المصدر: القدس العربي