حين يكون القلم إزميلًا ينحت وقت الفراغ: قراءة في مجموعة أيمن ناصر (رهان الغيم)*

0

علاء الدين حسو، كاتب سوري مقيم في عينتاب

مجلة أوراق العدد 13

النقد

ما هو القاسم المشترك في قصص الفنان والروائي أيمن الناصر التي جمعها في كتاب واحد تحت اسم (رهان الغيم) وصدرت عن دار “عالمي الأزرق” في أورفا عام 2020؟ هل من خيط واحد يربط (دزينة) الاثنتا عشرة قصة المتفاوتة في الطول والطرح؟ وماذا يريد أن يقول لنا؟

من وجهة نظري، نعم هناك حبل يضم القصص، فالقاسم المشترك هو: الصراع من أجل البقاء على قيد الحياة. وهذا يتطلب صراعا متعدد الأبعاد، عاطفياً واجتماعياً وفكرياً واقتصادياً. أما الصراع السياسي فهو الحاضر الغائب، وتفسير ذلك سيكون في الإجابة عن السؤالين. 

هناك من يرى -وأنا منهم- بأن الحياة زمنٌ مقسمٌ إلى مواقيت، وقت النوم، ووقت العمل، ووقت الفراغ، وهذا الزمن المحصور ضمن نطاق وقت (الفراغ) هو الذي يدعونا الكاتب للانشغال به، فهو الذي أخرج لنا الأعمال الجميلة، وهو الذي يجعلنا نطور ذاتنا ويسمح لنا بالتفكر والتدبر وتحسين حياتنا.

في عصرنا الذي نعيشه اليوم، ننشغل في تأمين احتياجات الحياة، وهي التي نسميها وقت العمل، والتي لا تسمح لنا في التفكير والتأمل، وكذلك وقت النوم الذي نحتاجه لشحن مدخراتنا، ويبقى وقت (الفراغ) وهو ذلك الوقت الذي يحاول الطغاة إلغاءه من حياتنا، هو وقت التفكير والتأمل وطرح الأسئلة والبحث عن الاجابات، فالفن لا يعمل وأنت تركض خلف لقمة العيش، وهو مهنة مستحيلة لمن ليس له وقت وتفكير، وهنا لب الصراع…

 يمنعك المستبد – مهما كان نوعه سياسياً كان أم اجتماعياً أو دينياً – من استثماره لتحسين المعيشة والتنمية والتطوير والحب. هو الصراع الأزلي، سبب أساسٌ وجوهر تطور وتقدم بلاد دون أخرى. لذا يحارب الفنان والأديب حين يطرح فكرة استثمار هذا الوقت.  وهذه المحاربة لا تقتصر على الجهات السياسية بل تمتد إلى محاربة اجتماعية ودينية وهي أشد وطأة، فالنظام القبلي وعقلية الحجي والتسلط حاضرة في كل مجالات الحياة والصراع معهم ضرورة للبقاء.

وهذا ما نجده في قصص أيمن ناصر، ففي قصته الأولى (رائحة الخبز) يقص لنا حكاية رجل يكافح من أجل الحياة، ومن أجل حبه، ولكن ابن عمه الذي عاد غنياً، حاربه في رزقه، وتكون نهايته من أجل الحياة، فخلف الذي تزوج من ابنة عمه (فاطم) دون رغبة أخيها، يعود بعد أن يغتني لينتقم على طريقته، يفتح فرنا للخبز في القرية وحافلة حديثة لنقل أهل القرية إلى المدينة، وبالتالي ينقطع عمل خلف الذي كان ينقل الركاب والأشياء بسيارته القديمة إلى المدينة ويعود بالخبز إلى القرية. وحين تتحول القرية إلى ابن عمه، يجد في الكلب الجائع الذي يصادفه في طريقه فرصة لتحقيق إنسانيته، ويبدأ بتقديم الخبر للكلاب الجائعة، وتكون نهايته حين يهوي في الوادي السحيق عندما حاول إنقاذ الكلب من السقوط، ويلحقه الكلب حين يسقط بإشارة إلى الوفاء الذي لم يجده في قريته. 

هي حكاية صراع الإنسان من أجل حبيبته ولعل اسم (فاطم) يذكرنا بحبيبة امرؤ القيس الذي خلدها في معلقته. إنّه صراع ومحاربة ليس للقضاء على عمله بقدر ما هو تدمير وقت (الفراغ) وهنا الحب. 

يمكن أن تُقرأ القصة على عدة وجوه، صراع طبقي، صراع تقاليد، صراع الإنسان ضد الرأسمالية التي قضت على القيم، ويمكن اسقاطها بأنه من زمن الوحدة (سيارته تعود لذلك الزمن) والحياة الجديدة، ولكن أية محاولة أدلجة ستقتل إنسانية القصة، لأنها قصة إنسانية بامتياز، والخبز حاجة اساسية وكذلك الحب الذي هو جوهر الصراع هنا من أجل الحب.

وللأنثى دور كبير في قصص أيمن ناصر، بل تشعر أن حسّه وشعوره الفني يتجلى بأحلى صوره خلال وصفه للأنثى، التي هي شريك الرجل في الحياة. وليست تابع أو ظل.  وهي ليست زهرة في مزهرية أو بصمة في لوحة تزين جدار البيت، تعالوا لنتأمل معاً هذا الوصف الجميل لنورهان بطلة قصته الطويلة (الجرف). “بدت أمامه أيقونة سوداء تشتعل أطرافَ جسدها بوهج خيوط الفجر تمنحها هيبة وجلال”. من يقرأ هذا الوصف الجميل يقول ليس الشعر وحده قادر على خلق الصور البديعة، كما وصف امرؤ القيس في معلقته في تشبيه الجواهر التي تزين وشاح حبيبة بنجوم السماء حين قال: “إذا ما الثريا تعرضت / تعرض أثناء الوشاح المفصل”. هذه اللوحة الجميلة يمكن أن نتصورها عبر غلاف الرواية الرائع وكأنه مستوحى من هذا الوصف وقد كان اختياراً رائعاً.

ولكن الفرق عند ايمن ناصر، أن المرأة كما ذكرت ليست هامشا تجميلياً، بل كانت شريكة وذات حضور، وقد وحد أيمن ناصر الشروط التي تصنع مثل هذه الأنثى حين أشار إلى أربعة شروط: وجود الضوء (أخ نورهان الذي كان بداية التنوير) ووجود المناخ (مساعدة الأب لها وإتاحة الفرصة) ووجود المعاناة للصقل (زوجها الطاغي الذي يلقى حتفه في نهاية القصة) والفهم والنضج (عبر صهرها المتنور)، ولكن ثمة شرط غائب حاضر هو الحب الذي ظهر يوماً في حياتها ثم اختفى. وربما هذا يفسر لنا حلم زوجها في القصة حين يرى نفسه يسقط في الهاوية وأن نورهان من تدفعه، ونورهان تمثل (الوعي) الذي يظهر على يد الشاب القهوجي الأخرس في لحظة (تفكير) وهو يتأمل عند الوادي، ويقوم بقتل الزوج الطاغي انتقاماً لوالده الذي قتله زوج نورهان. وكذلك يمكن أن نقرأ شخصية روجين في قصته روجين التي عرفتها في الراوية وهي تشهد له أنه أعاد اعتبار الشخصية الإنسانية.

وحين الحديث عن الزمان يقتضي الحديث عن المكان أيضاً، فماذا عن المكان عند أيمن ناصر؟ هو مكان حب ودفئ وعشق، وهو نابع من احساسه الفني الذي يدرك جماليات الطبيعة وتفاصيلها التي تغيب عن المشغولين بزمن العمل. فالمكان ليس معادي كما في قصص زكريا تامر، حيث الشمس والنهر والسيارة كلها جنود تقبض على البطل ترعبه تنقض عليه، بينما هنا نجد المكان فسحة تنفس للبطل، فالشوارع والمتحف والنهر والجسر وحتى الغيوم هي تهدئة للبطل المتأزم، فما الغيمة التي تبشر بالمطر إلا حلماً وأملاً لدى البطل العائد من السجن، وما الشوارع إلا صديقة ترحب به وتسير معه وتجوب في الأماكن التي يقطعها البطل العائد في قصة رهان الغيم، فهي تحدثنا عن الصراع من أجل الحياة، من تلك الحقبة الزمنية التي تسمح لنا بالتفكير والحلم والتطوير. وتتجلى هذه الصورة بشكل مدهش بين الحب والواجب، بين الحرية والمتعة الجسدية ولا فرق في نهاية القصة إن كان عاد من السويد أو من السجن، فكلاهما واحد عند البطل، لأن كلا المكانين قتلا وقت التطوير الذي نعرفه بوقت الفراغ.

لذا المكان مهم جداً عند أيمن الناصر، وهنا يحضرني قول الروائي الإنساني المدهش رسول حمزاتوف في عمله (بلدي) حين يقول بأن على الإنسان أن يفهم منذ صباه أنه أتى إلى هذا العالم ليصبح ممثلا عن بلده. الأديب والفنان عند رسول حمزاتوف هو سفير خاص ومراسل ثقافي لبلاده، ومن لا يرتبط (بأرضه) لا يمكن أن يمثل العالم. لذلك المكان عند أيمن الناصر حي نابض وحنون. وللنهر عنده حظوة فهو الثورة الصامتة، منه يتم الشحن، ومن النهر تستلهم الأفكار، لأنه من أكثر الاماكن التي تستثمر فيه وقت الفراغ للتأمل والحب والتفكير والمراجعة والتطوير. أمامه اتخذ الشاب القهوجي الأخرس قرار الانتقام من زوج نورهان الطاغي في قصة الجرف، وهو المكان الذي تظهر فيه شجاعة وانسانية المرء كما نراها في القصة الاخيرة (وجع النوارس). وهو المكان الذي يكفر فيه الإنسان عن خطاياه. وهو الخرج الذي يبوح به أسراره وأشجانه، وهو المكان الأنسب لاستثمار وقت الفراغ. أختم حديثي عن شخصيات ناصر بإيجاز، هي حزينة، ولكنها لم تكن أبدا عقيمة، بل فاعلة، ومحفزة، وانتصار الخير في كل قصصه دليل على هذا التفاؤل ولكنه لا يعني ذلك رومانسية حالمة أو متجاهلة. وهذا ما نجده في لوحاته أيضاً، فلا يمكن فصل قصصه عن لوحاته، ولفهم اللوحات نحتاج لقراءة قصصه، ولفهم قصصه نحتاج للوحاته، ولعل لوحة الغلاف تشرح لنا مضمون قصصه كما القصص تساعدنا على فهم