حوار مع الشاعر السوري فرج بيرقدار

0

حوار: اندرش ريديل Andres Rydell

ولد شيء من هذا الألم، الذي يفوق تصوّر البشر، في الزنازين وتحت التعذيب. بعد إحدى جولات التعذيب، أدرك فرج بيرقدار أن تعذيبه على هذا النحو سيقتل روحه ببطء، سيمزق ليس فقط رجليه وذراعيه ويديه وقدميه، بل أيضًا داخله. وذلك هو ما أرادوا تحطيمه، تحطيم ما يجعلك إنساناً.خضع الشاعر بيرقدار لما يُسمَّى في تدمر “التشريفة”، وهي طقوس استقبال منهجية وسادية، يتعرّض فيها السجناء لجلد وحشي بالسياط يتراوح ما بين 200 و 400 جلدة. وهناك سجناء ماتوا تحت وطأة تلك الطقوس.يوصف سجن تدمر السوري بأنه أسوأ سجون العالم على الإطلاق. وكان بيرقدار نفسه يسميه: مملكة الموت والجنون.في الوقت نفسه، كان سجن تدمر يمثل تناقضاً غريبًا، فمثلما بنى النازيون معسكر اعتقال بوخنفالد خارج مدينة فايمار الثقافية المشرقة في الثلاثينيات من القرن الماضي، كذلك تماماً بُنيَ سجن تدمر على شيء مشابه، إذ على مسافة قريبة من أسوار السجن، تنهض آثار مدينة تدمر القديمة، رمز الثقافة والحضارة، الواقعة ضمن واحات غنّاء، مدينة جذبت المشاهير وعلماء الآثار والسياح من جميع أنحاء العالم . تُرى هل يمكن للسائحين سماع صراخ السجناء؟ في الليالي الأولى من بداية الاعتقال، عندما كان بيرقدار ينزف في زنزانة انفرادية، غير قادر على وقف الألم، ولا إيجاد سبيل إلى الانتحار، التمعت في ذهنه فكرة أخرى أو بديل آخر، هو الشعر.

س1- أخبرني فرج، لماذا وكيف أصبحتَ شاعراً؟

ج1- في بدايات ذهابي إلى المدرسة، كان المعلِّم يأخذ ما أرسمه ويمرّ به على الصفوف المتقدمة ليخبرهم أن من رسم اللوحة تلميذ عنده في الصف الثاني. حين أصبحت في الصف الخامس اقتنع أخي الكبير بموهبتي فاشترى لي علبة ألوان مائية وفراشي. كان أهلي فقراء مثل معظم أهالي القرية، ولهذا حين انتهت علبة الألوان لم يستطع أخي أن يشتري لي واحدة جديدة. لقد تبخَّر حلمي في أن أكون رساماً. صرت أكتفي بأن أرسم بقلم الرصاص على الأقمشة التي تطرزها أمي وتبيعها لنساء القرية. لم تكن أمي هي المرأة الوحيدة التي تشتغل بالتطريز، ولكنها كانت الوحيدة التي لديها ابن مثلي يرسم لها على الأقمشة، ولهذا كانت تطريزاتها أكثر مبيعاً. في تلك الأيام لم يكن لدينا تلفزيون. كنا نقضي أوقاتنا بسرد الحكايات والأساطير وحفظ الشعر والقرآن. بالمصادفة انتبه أهلي وبعض الأصدقاء إلى أني أمتلك ذاكرة قوية لا يمتلكها أقراني. ذات يوم ناداني أخي الكبير وكان عنده عدد من أصدقائه. قال لهم: هذا أخي فرج أمامكم فاسألوه. سألني أحدهم كم بيتاً من الشعر أستطيع أن أحفظ في ليلة واحدة، فقلت أستطيع حفظ الكثير. سألني: هل تستطيع أن تحفظ خمسة أبيات مثلاً؟ قلت أكثر. قال عشرة مثلاً؟ قلت أكثر بكثير. قال: لدينا قصيدة مؤلفة من أربعة وستين بيتاً، فهل تستطيع حفظها الليلة؟ قلت: أستطيع.قال لي أخي أن مكافأتي ستكون كبيرة إن حفظتها وألقيتها غداً في المدرسة بمناسبة عيد الجلاء “اليوم الوطني”. هم يعرفون أني منذ ثلاث سنوات ومدير المدرسة يكتب لي كلمة في هذه المناسبة ويطلب مني أن ألقيها بصوتي أمام الطلبة وأهاليهم الذين يحضرون هذه المناسبة، ولا بد أن يكون لي كلمة هذه السنة، وبعد الكلمة يمكن أن ألقي القصيدة. ولكن فاجأني أخي بطلب آخر كان غريباً ولم أفهم له سبباً. قال لي: بعد أن تنتهي من إلقاء القصيدة قد يطلب منك أحد المعلمين أن تكتبها له، فلا تقبل أن تكتبها، فإذا ألحّ عليك قل له إنك نسيتها. حين كبرت فهمت أن القصيدة تتعلق بخصومات وصراعات بين الأحزاب السياسية.الرغبة في الرسم والألوان أخذت منحى آخر يمكن أن نسميه الرسم بالكلمات. كان مخزوني من المحفوظات الشعرية أوسع من أن يدانيه أحد من أقراني باستثناء واحد صار شاعراً أيضاً.الرسم بالكلمات لا يكلِّف أموالاً مثل الرسم، بل لا يكلِّف شيئاً سوى ورقة وقلم. في الصف الثامن أعطيت أستاذ اللغة العربية قصيدتين لعله ينصحني أو يشجعني، ولكنه للأسف لم يصدق أنهما لي. في الصف العاشر انتقلت إلى الدراسة في المدينة، وهناك نشرت أول قصيدة لي في صحيفة المدينة، وهكذا وجدت الآخرين يهتمون بي ويعتبرونني شاعراً.

س 2- أخبرني عن تربيتك، هل شجّعك والداك على القراءة والكتابة؟

ج 2- للأسف لم يكن على عهد أبي وأمي مدارس. ولأننا فلاحون، ولكن لا نمتلك أرضاً، فقد كنا نعمل في أراضي وحقول الآخرين كعمال زراعيين. أبي وأمي أرسلونا إلى المدرسة لأننا لا نملك أرضاً، وبالتالي لا مستقبل لنا غير المدرسة. والمدرسة عندهم تعني أن تتعلم لتصبح موظفاً يتقاضى مرتباً شهرياً. لذلك لم تكن أمور الثقافة والأدب والفن تعنيهم في شيء، بل يرونها تؤثر على الدراسة المدرسية وتعيقها، ولهذا كان أبي وأمي ضد أن أهتم بالشعر أو بأي شيء يؤخر دراستي. صرت أكتب قصائدي سراً، وكانت أمي التي لا تعرف القراءة والكتابة تميز بين الكتابة المدرسية وكتابة القصيدة من خلال شكل وطريقة توزيع الكلمات على السطور، وكانت تهددني بأن تخبر أبي في حال اكتشفت مرة ثانية أني أكتب الشعر. في الحقيقة أنا كنت أكره المدرسة، وبشكل خاص دروس التربية الوطنية والقومية والدينية والتاريخ والجغرافيا والجبر، ولهذا كنت أهرب من هذه الدروس وأذهب إلى مكتبة المركز الثقافي في المدينة، وهي أول مكتبة عامة عرفتها في حياتي.

س 3- ما نوع الأدب الذي تواصلت معه لأول مرة عندما كنت طفلاً؟ أي نوع من الأدب ألهمك في ذلك العمر ولماذا؟

ج 3- أحد أصدقاء أخي الكبير كان عنده صندوق كبير مليء بالكتب. هو أحد اثنين أو ثلاثة في قريتنا يهتمون بالقراءة، رغم أنه ترك المدرسة وهو في الصف الخامس. أغلب الكتب عنده كانت روايات بوليسية “أرسين لوبين”، وكان لديه بعض الروايات لأرنست همنغواي وكازانتزاكي وبعض دواوين الشعر العربي القديم. ما من سطر من هذه الكتب أُفلِتَ مني، هذا إضافة إلى حفظ ما يحفظه الآخرون من أشعار.

س 4- ما هو نوع المشهد الأدبي الذي كان سائداً في سوريا في ذلك الوقت؟ أين التقيت وعبرت عن نفسك؟

ج 4- حين انتقلت من القرية إلى المدينة،من أجل الدراسة، اكتشفت مدى فقر القرية مادياً وثقافياً. المدينة أمر آخر، وخاصة مدينتي “حمص” العريقة بتاريخها القديم منذ فترة الملكة زنوبيا والعصر الروماني وحتى تاريخنا المعاصر. نسبة كبيرة من الشعراء والسياسيين وزعماء الأحزاب وحتى رؤوساء الجمهورية في سوريا كانوا من حمص. في المدينة تعرّفت على واحدة من أهم الفرق المسرحية في سوريا. كان مدير الفرقة الكاتب والمخرج فرحان بلبل. هو أستاذي في مرحلة الدراسة الثانوية ثم أصبحنا أصدقاء. في الحقيقة كانت الفرقة تضم نخبة من المثقفين، وقد تأسَّستُ ثقافياً وفنياً ونقدياً في نطاق هذه الفرقة وأصدقاء الفرقة من مثقفي المدينة.

س 5- كنت محررًا في مجلة أدبية، أخبرني عن تلك المجلة وكيف بدأت العمل معها.

ج 5- في عام 1975 كنت موفداً من وزارة التعليم العالي لدراسة الإخراج المسرحي في بودابست. في الصيف عدت مع غيري من الطلاب لزيارة الأهل في سوريا. ولكن في نهاية العطلة الصيفية عاد الطلاب إلى بودابست باستثنائي، لأن السلطات ألغت دراستي هناك عقاباً على موقفي ضد دخول الجيش السوري إلى لبنان واحتلالها. قبل سفري إلى بودابست كنت طالباً في السنة الثانية في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق. أعدتُ تسجيلي في الجامعة وتعرفت إلى عدد من الطلبة المهتمين بالأدب وكتابته والرافضين لما تقوم به السلطات من رقابة على النصوص فترفض النشر أو تحذف من النصوص كل ما لا يروق لها. النظام في سوريا ديكتاتوري منذ زمن، ولكنه في عهد الطاغية حافظ الأسد أصبح أكثر ديكتاتورية، مع احتكار كامل لجميع وسائل الإعلام ومصادرة حرية التعبير بكافة أشكالها. لذلك قررنا، أنا وعدد من الكُتّاب الشباب، أن نصدر مجلة أدبية شبه فصلية تعنى بالشعر والقصة وخاصة بالنصوص التي لا تسمح السلطات بنشرها، واتفقنا أن نوزع المجلة في الجامعة بصورة شبه سرية على الطلبة الذين نعرفهم ونثق بأنهم ليسوا مع الديكتاتور. بعد بضعة أعداد من المجلة اعتقلت السلطات الشاعرين رياض الصالح الحسين وخالد درويش، وهما محرّران في المجلة ولكنهما لا يعرفان كيف وأين تُطبَع المجلة. بعد صدور العدد التاسع اعتُقلتُ أنا، ولأني بقيت لشهور مجهول المصير فقد توقف الأصدقاء عن إصدار المجلة.

س 6- ما نوع القضايا والمواضيع التي كتبت عنها في ذلك الوقت – قبل أن يتم اعتقالك؟

ج 6- كنت أكتب عما أراه وأتمناه وأحس به. أكتب عن الفقر والجوع والحرية والحب والسجون والطبيعة والخوف والحزن والموت والغضب والألم والكوابيس وعتمة الواقع واغتيال الأحلام. أجهزة المخابرات يمكن أن تسرِّح أي كاتب من عمله الوظيفي بسبب مقالة أو قصيدة، ويمكن أن تستدعي أي كاتب وتحقق معه بشأن ما يكتب وما يرمي إليه من وراء بعض الجمل والرموز والإشارات. على سبيل المثال سئلتُ في إحدى المرات عن قصدي من استخدام السكين والوردة والخبز مرتين في أحد نصوصي. قال لي المحقّق: هل تريد أن تقول أننا نحن السكين والمعارضة هي الوردة، وأن الشعب يعاني من الجوع ولا يجد الخبز؟!

س 7- كتابك الأول يحمل عنوان “وما أنتَ وحدك”.

ج 7- نعم.. أردتُ أن أقول لنفسي و لكل سوري: لا مبرر لخوفك، ولا تظنّ أنك وحيد في مواجهة الاستبداد، فمن هم مثلك ومعك كثيرون.

س8- هل يمكنك وصف استيقاظك السياسي في هذا الوقت؟ كيف دخلت سياسياً في مقاومة النظام؟

ج 8- تربيت في أسرة ريفية لا تمتلك ما تعتدّ وتعتزّ به غير قيمها الأخلاقية المتمثِّلة بالصدق ورفض التسلُّط والجرأة على قول الحقّ والوقوف إلى جانب المظلوم. هذه القيم يمارسها أهل القرية بصورة اعتيادية وكنت مثلهم، ولكن في الجامعة تعرفت على أشخاص وأفكار وأحزاب ونظريات تضع هذه القيم الأخلاقية في إطار عمل سياسي منظَّم ينتمي إليه أشخاص كثيرون. في أواسط سبعينيات القرن الماضي ازدادت شدة قمع السلطة للمعارضة اليسارية، وخسرتُ كثيراً من الأصدقاء الذين غيَّبتهم المعتقلات، فازددتُ قناعة بضرورة مواجهة الاستبداد، وحسمت خياري في الانتساب إلى حزب شيوعي معارض، وبعد سنوات داهمت أجهزة المخابرات بيوت أهلي وأقاربي وأصدقائي، وبالتالي صرت ملاحَقاً ومطلوباً، وكان الأمر متوقعاً بالنسبة لي، ولذلك لم يستطيعوا اعتقالي في تلك البيوت التي داهموها.

س 9- أخبرني متى تم إلقاء القبض عليك؟ كيف حدث هذا؟

ج 9- بقيت بضع سنوات أعيش بشكل سريّ، بعد أن غيَّرت لون شعري ولبست نظارات توحي أنها طبية وأطلقت شاربي وحملت هوية شخصية عليها صورتي ولكنها باسم آخر. بقيت على هذه الحال سنوات إلى أن كان قرار السلطات بتصفية الحزب مهما كلَّف الثمن واعتقال قيادته، وأنا أحدهم، حتى لو اقتضى الأمر إطلاق النار علينا في الشوارع. نشروا عناصرهم ومخبريهم في كل مكان من دمشق. في إحدى الليالي كنت عائداً مع إحدى الرفيقات إلى غرفة تسكنها مع أخريات في مخيّم اليرموك “مخيَّم للفلسطينيين” فتبِعنا أحد الأشخاص. قلت للرفيقة أني سأتركها ريثما أتأكد مما إذا كان الشخص الذي يتبعني يستهدفني أم أن طريقه بالمصادفة نفس طريقنا. أنا أعرف أزقة المخيم جيداً ولهذا استطعت التملص ممن تبعني، وحين دخلت إلى غرفة الصديقة لم يرني أحد، لكن بعد بضع ساعات سمعنا أصوات أقدام كثيرة توحي بأن هناك جيشاً، ثم ما لبثت أن هدأت الأصوات. في الصباح داهموا الغرفة، وحين اعتقلوني وأخرجوني رأيت الشوارع وأسطح المنازل مليئة بعساكر مدججين بالأسلحة. هم يعرفون أني لا أحمل سلاحاً، فحزبنا ضد العنف، ولكن ذلك الاستعراض العسكري أثناء اعتقالي كان لبث الرعب في نفوس أهل الحيّ الذين يراقبون المشهد. لاحقاً عرفت أن من تبعني لم يستطع تحديد المبنى أو البيت الذي دخلته، فقرروا تطويق الحيّ كاملاً. وعرفت أيضاً أن الشخص الذي تبعني هو الجنرال عبدالكريم عباس الذي صار لاحقاً أحد المتهمين بالمشاركة في عملية اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري.

س 10- لقد أمضيتَ 14 عامًا في السجن. وقرأتُ أنكَ تعتبر نفسك من بين “المحظوظين”. لماذا؟

ج 10- كنت أتوقع أن يعذبوني أثناء التحقيق حتى الموت. معتقلون سياسيون كثيرون تم قتلهم أثناء التعذيب، منهم رفيقي مضر الجندي عضو اللجنة المركزية في الحزب وقد اعتقل معي في نفس الحملة. بعد 11 شهراً انتهى التحقيق، فأخذوا مئات من رفاقنا المعتقلين إلى سجن صيدنايا، وأخذوني أنا و17 رفيقاً إلى سجن تدمر، لنبقى هناك قرابة خمس سنوات تحت تعذيب شبه يومي منظَّم، ومقطوعين تماماً عن العالم الخارجي. هناك في تدمر قتلوا رفيقاً آخر كان معنا واسمه “عماد أبو الفخر”، وكان يمكن أن يقتلوني لأن عسكرياً بصق في وجهي بدون سبب سوى الإهانة،ـ فرددت إليه البصقة، وتلك واحدة من الجرائم الكبرى في سجن تدمر وتستدعي القتل، ولكن كنا في تلك الفترة مضربين عن الطعام، وكان همّ إدارة السجن إنهاء الإضراب فلم يتوقفوا طويلاً بشأن البصقة، ولكن التعذيب أو الجلد والانتقام طالني كما طال الجميع. بعد سنوات وتحت ضغوط منظمات حقوق الإنسان قررت السلطات إحالتنا إلى محكمة أمن الدولة العليا، وهي محكمة استثنائية تضم بين أعضائها ضباطاً عسكريين، وكان التوقع أن يحكموا علي وعلى قيادة الحزب بالإعدام أو بالمؤبد في أحسن الأحوال. ولهذا كان أهلي وأصدقائي سعداء حين اكتفت المحكمة بحكمي 15 عاماً مع الأشغال الشاقة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية. في النهاية بقيت حياً ونجوت وها أنذا في السويد. ألا يستحق ذلك أن أعتبر نفسي محظوظاً.

س 11- أفهم أنه من الصعب وصف مثل هذه الفترة الطويلة في السجن- ولكن كيف تمكنت من التحمل والبقاء إنسانًا؟

ج 11- لا أنا ولا أحد يعرف بالضبط كيف استطاع أن يصبر وأن يبقى إنساناً. ربما لأنه لم يكن أمامنا خيار آخر سوى أن نصبر أو ننتحر، سوى أن نبقى آدميين أو نتحول إلى بهيميين. وقد يكون أحد الأسباب هو عمق إيماننا بعدالة أهدافنا، وعمق قناعتنا أننا نتفوق أخلاقياً على النظام وجلاديه. وقد يكون الأمل أحد الأسباب. وبالنسبة لي يمكن أن أضيف المزيد من الأسباب التي منها أمّي وابنتي وأصدقائي وضرورة أن لا أعود إليهم منكسراً أو محطَّم الروح، ومن الأسباب أيضاً الحب واليأس والشعر. الحب عندي طاقة خلاقة بإطلاق، واليأس عندي قوة دافعة تختلف عن القنوط والاستسلام، أمّا الشعر فهو طائر الحرية الأجمل الذي يمكن أن أرسم بمنقاره المُحنَّى أجمل الأحلام.

س 12- قرأت أنه مرت 6 سنوات قبل أن تتمكن من مقابلة أسرتك. كيف تصامدتَ أنت وعائلتك؟

ج 12- في عهد الطاغية الأسد الأب، كما في عهد ابنه الوريث، هناك مئات آلاف السوريين ممن تمّ تغييبهم لسنوات طويلة، وفي كثير من الأحيان تغييبهم بشكل نهائي، هذا غير مئات المجازر في السجون وخارجها، ومع ذلك لا يزال نظام الأسد عضواً في هيئة الأمم المتحدة التي لا أعرف على ماذا تتَّحِد. هذا الواقع المستمر منذ عقود جعلَ تغييب أحد أفراد أسرة ما لعشرة أو عشرين عاماً أمراً شائعاً. أخي الأكبر على سبيل المثال اعتقِل في سجن تدمر لمدة 11 عاماً بدون أن يعرف عنه أهلي أي شيء إلى أن خرج من السجن. صار السوريون، إذا أرادوا مواساة أسرة على غياب ابنها لبضع سنوات، يتحدثون عن فلان المغييب منذ 15 أو 20 أو 30 عاماً بدون أي خبر عنه. فظاعات الطاغية الأسد تجعل المرء يتوقع أن اسم سوريا مشتقّ من السوريالية.

س 13- ما مدى أهمية الأدب بالنسبة لك في السجن، وهل كان لديك إمكانية الوصول إلى الكتب؟

ج 13- للسجن وجوه أو قراءات متعددة أحدها أنه محاولة لإلغاء أي معنى لدى السجين، بل محاولة لإلغاء معنى السجين كاملاً، وربما لإلغاء المعنى أصلاً وبإطلاق. قراءة الأدب أو كتابته هي نوع من التعاطي مع المعنى، وأحياناً نوع من خلق المعنى. وبهذا فإن الأدب، قراءة أو كتابة، هي مواجهة أو ردّ مباشر على السجن بوصفه ضد المعنى. لذلك فإن الكتب والأوراق والأقلام كانت ممنوعة خلال السنوات الأولى، ولكنهم لاحقاً تساهلوا بإدخال الكتب شريطة أن تكون مُجازة ومختومة من قبل الرقابة.

س14- أخبرني عن كتاباتك في السجن. متى بدأتَ الكتابة وكيف فعلت ذلك، ولماذا كان الأمر مهماً بالنسبة لك؟

ج 14- أنا قبل السجن لم أكن أستطيع أن أتخيّل نفسي أو حالي من غير كتابة. فكيف أستطيع مواجهة السجن بدونها. مع الشعر أشعر أن إرادتي أقوى، وإنسانيتي أغنى وأرحب، وحريتي تمتلك أسراباً من الأجنحة ومناجم من الجمال لا تستطيع هزّها بشاعات السجن ولا بشاعات غيره. ربما لهذا السبب وجدتُني خلال الأيام الأولى من وجودي في زنزانتي الانفرادية أهجس بأول قصيدة تحملني على أجنحتها إلى خارج السجن.

س 15- هل تغيرت علاقتك بالأدب في السجن؟ إذا كان الأمر كذلك، فصِفْ لنا كيف.

ج 15- نعم. في السجن تغيرت علاقتي بالأدب من ناحيتين على الأقل، الأولى هي في مدى إدراكي لما يشكله الشعر من آلية دفاعية أمام كل ما يتناوشني من هجومات تتكالب فيها الظروف مع الزمان والمكان والجلاد، والثانية في أني حرّرته في داخلي، فحرّرني داخلياً ممّا يحيط بي من جدران وأنفاق وجنازير وأقفال. لم أعد أمارس أي رقابة على كيفيات ولادة القصيدة لا بمعانيها ولا بأشكالها ومدارسها بدءاً من الشعر الكلاسيكي القديم وانتهاء بالشعر الحر غير المنظبط بأي نواظم إلا النواظم النابعة من داخله، كما تراجعت عندي رقابات السلطة والدين والمجتمع. في الحقيقة لو كنت سياسياً فقط، لكان يمكن أن أنهزم بكل المعاني، ولكن الشعر ساعد على إنقاذي وأعطى حياتي في السجن معنى مختلفاً وقيمة مختلفة عما كان يُراد لي. ما من شيء يستطيع أن يشّد القوس بي الى النهاية أكثر ممّا يفعل الشعر.

س 16- ما هو دور الشعر والأدب في بقائك على قيد الحياة؟

ج 16- خلال الكتابة أشعر أني أنا نفسي، أعني نفسي على حقيقتها،أو أنني ألتقي بنفسي على انفراد بعيداً عن كل ما يحيط بي، وهكذا أستطيع أن أعيد فرمتة أفكاري وهواجسي وأحلامي، وبالتالي أستعيد توازني وآخذ استراحة لكي أستطيع مواصلة السير في الهُوّة العميقةَ التي تفصل ما بين التقدم التكنولوجي والتخلُّف الأخلاقي في عالمنا الراهن.

س 17- لقد وصفت السجن بأنه “ذكورة افتراسية قصوى”. هل يمكن أن تخبرنا ماذا تقصد؟

ج 17- الأنوثة ليست حكراً على النساء، ولكنّ نسبتها عندهنّ أعلى مما هي لدى الرجال، مثلما أن نسبة الذكورة لدى الرجال أكبر عموماً مما هي لدى النساء. وليس من المصادفة أن الثقافات في الغالب أطلقت على النساء تسمية الجنس اللطيف، ما يعني أن الذكور جنس غير لطيف. إذا صحّ ذلك بدرجة ما، فإنه يصح في السجن بدرجة مطلقة. السجن اغتصاب للكينونة البشرية. اغتصاب عبر التعذيب أو اغتصاب متمثل بالأسر الجسدي أو اغتصاب معنوي وأحياناً جنسي بالمعنى المباشر. الأنوثة تستطيع أن تغري أو تقنِع، ولكنها لا تستطيع أن تنتصب وتغتصب. حتى في ممارسة الحب الطبيعية فإن الأنوثة تستقبل والذكورة تدخل بلطف أو تقتحم. وفق هذا التصور أرى أن السجن نوع من الاغتصاب والافتراس والسادية، ولهذا أسميته ذكورة افتراسية قصوى وليس مجرد ذكورة عادية أو طبيعية.

س 18- أنت تعرّضتَ للتعذيب في السجن. هل يمكنك أن تصف ببعض الكلمات تلك التجربة وما فعل ذلك بك؟

ج 18- تحت التعذيب يصبح كل شيء في الكون نذلاً وحقيراً ومُداناً ولا أخلاقياً. حتى الآلهة تصبح عمياء وطرشاء وخرساء وجبانة. تحت التعذيب لا يعود هناك من شيء يستحق الاحترام باستثناء الموت الذي لا تستطيع الوصول إليه وأنت مقيد اليدين والرجلين، وعلى فمك خرقة كبيرة كريهة الرائحة يغلقون بها نافذة صراخك الوحيدة. الصراخ يمكن أن يوسِّع حدود الكون، وأنت ممنوع منه. التعذيب خلطة فظيعة لا تستطيع الآلهة صنعها بمعزل عن مساعدة الشياطين. التعذيب هو أسوأ تحالف ممكن بين الآلهة والشياطين. أقول ذلك متَّكئاً على ما قرأتُه في الواقع وتجربتي، وفي كتب التاريخ أيضاً.

س 19- أنت سجنت في صيدنايا وتدمر ، وهما سجنان سيِّئا السمعة. هل يمكنك وصف تلك السجون وأي نوع من السجناء يوجد فيها؟

ج 19- سجن تدمر واحد من أسوأ السجون عبر التاريخ. هذا السجن عار على المجتمع البشري برمته، وليس فقط على نظام الرئيس الأسد الأب ووريثه الابن. سجن تدمر هو الدرك الأسفل في جهنم، أما سجن صيدنايا في تلك الفترة فكان في الدرك الأعلى من جهنم. في سجن تدمر لا زيارات ولا راديو ولا أقلام ولا أوراق، ولا طبابة، ولا طعام إلا في الحد الأدنى للحفاظ على الحياة، والتعذيب شبه يومي لأسباب غير معروفة ولا مفهومة. في صيدنايا لم يكن هناك تعذيب إلا في حال مخالفة قوانين السجن. الموسيقا والغناء والضحك والتراسل بين السجناء وتهريب الرسائل عبر زيارات الأهل ومحاولة رؤية الطبيعة من نوافذ السجن العالية وتفاصيل من هذا القبيل كلها ممنوعة، وعقوبتها قاسية عبر الجلد أو العزل في زنازين انفرادية تحت الأرض. خارج هذه القائمة الطويلة من قوانين السجن وممنوعاته، كان الطعام أقل سوءاً وكانت زيارات الأهالي مسموحة مرة واحدة في الشهر لمدة 15 دقيقة، وتكون الزيارة في قاعة يتوسطها شبكان حديديان يسير بينهما العساكر لمراقبة السجناء وأهلهم. الفاصل بين الشبكين حوالي 75 سنتيمتراً، والأهالي على أحد الشبكين والسجناء على الشبك الآخر. ولكن حين جاءت أم أحد رفاقنا الكرد لتزوره، طلب منها العسكري أن تتحدث بالعربية. شرح رفيقنا الكردي للعسكري أن أمه كردية وعجوز ولا تعرف العربية، غير أن العسكري لم يسمح بأي كلمة غير عربية ولم يطلب مترجماً. كانت أم رفيقنا تبكي، ورفيقنا يقول للعسكري: أترى أمي.. إنها الآن تبكي بالكردية، أتستطيع أن تجعلها تبكي بالعربية؟بقيت هذه الحال في صيدنايا من عام 1987 وحتى عام 2008، إذ قام السجناء بعصيان احتجاجاً على سوء المعاملة، وانتهى الأمر بمجزرة. أما بعد اندلاع الثورة عام 2011، فقد أصبح سجن صيدنايا هو الأسوأ عبر التاريخ، لا سيما بعد أن أطلق النظام سراح بعض القادة الإسلاميين ليشكلوا فصائل مسلحة ضده كداعش وجبهة النصرة وجيش الإسلام إلخ.

س 20- تم تفجير سجن تدمر من قبل داعش. ما هو شعورك حيال ذلك اليوم؟

ج 20- بودي أن أقول أولاً أن داعش خلال ثلاثة شهور من تأسيسها كان لديها آلاف السيارات ذات الدفع الرباعي ومحملة برشاشات متوسطة وثقيلة. سيارات جديدة خارجة لتوها من مصانعها. وخلال زمن قصير تشكَّل تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة لمواجهة داعش. وحينها أعلن أوباما أن التحالف الدولي يحتاج عشر سنوات على الأقل ليهزم داعش، وأحد أركان الجيش الأمريكي قال إنهم يحتاجون على الأرجح لثلاثين عاماً كي يهزموها. ربما كان عليّ حينها أن أقلق من احتمال أن تقوم داعش باحتلال البنتاجون والكرملين والبوندستاغ إلخ. ما لم يرغب أن يراه العالم هو أن السوريين وحدهم كانوا قادرين على هزيمة داعش، بل كانوا على وشك أن يهزموها ولكن لم يكن مسموحاً لهم ذلك، فمواجهة داعش من اختصاص أميركا وتحالفها الدولي. في هذا السياق استطاعت داعش احتلال مدينة تدمر والسجن الموجود فيها. كان تدمير السجن هدية ثمينة قدمتها داعش لنظام الأسد. أكبر فظائع النظام ومجازره وتصفياته لعشرات آلاف المعتقلين جرت في هذا السجن، وقد قامت داعش بتدميره وبالتالي تدمير ما يعنيه من ذاكرة سوداء يخشاها النظام. سجن تدمر هو الصندوق الأسود لنظام الأسد، أو للدقة أحد الصناديق السوداء لحقيقة هذا النظام. كان بقاؤه مهمَّاً كشاهد، ومهماً لكي يزوره المعتقلون السابقون بوصفه صار متحفاً مثلاً. زيارة أي سجين سابق هي أشبه بتصفية حساب مع هذا السجن بغية تجاوز الماضي نحو المستقبل. هذا ناهيك عما كان يمكن أن ننجز فيه من أفلام ومسلسلات تلفزيونية تقدم للأجيال دروساً في ضرورة عدم العودة نهائياً إلى ما يشبه أو يقارب ما حدث.

س 21- تم إطلاق سراحك كجزء من حملة دولية. ماذا عرفت عن هذا عندما كنت في السجن؟

ج 21- للأسف لم أكن أعرف أن هناك حملة دولية لإطلاق سراحي، بدأت من قبل بضعة رفاق لي نجوا من الاعتقال، ثم تركَّزت الحملة في فرنسا، ولا سيما بعد أن قام الشاعر عبداللطيف اللعبي، وهو معتقل سابق في المغرب، بترجمة فرنسية لمجموعة شعرية لي هرَّبتها من السجن، بالإضافة إلى قيام المناضلة الجزائرية لويزة حنّون بترجمة دفاعي أمام محكمة أمن الدولة العليا ونشرتْه في وسائل الإعلام الفرنسية. هذه أمور عرفتها لاحقاً. أما داخل السجن فلم أعرف سوى أن الرئيس شيراك طالب الرئيس الأسد بالإفراج عني. هكذا أذاعت مونت كارلو، وكذلك كان موقف الإدارة الأميركية كما سمعناه في إذاعة صوت أميركا. ولكني كنت واثقاً أن لدى الرئيس الأسد من الميول العقابية والانتقامية ما يحول دون تفكيره في الإفراج عن أمثالي. لذلك لم أشغل بالي بالتفكير في احتمال إطلاق سراحي. ولكن بعد أن مات الأسد الأب في حزيران عام 2000، افترضتُ أن الأسد الابن ضعيف ولا بد له من ترتيب أوضاعه ومحاولة الظهور بمظهر إيجابي ومنفتح أمام العالم، وفي هذا السياق يمكن أن يطلق سراحي، وذلك ما حدث.

س 22- كيف تعاملت مع الحرية بعد أن سُجنت كل هذه المدة الطويلة؟

ج 22- في الحقيقة لم أكن قادراً على التعامل مع الحرية بعد إطلاق سراحي. الحرية هي التي تعاملت معي. في لحظة خروجي من السجن كان أكثر ما فاجأني هو زرقة السماء وامتدادها السافر اللامتناهي. في تدمر وصيدنايا لا تستطيع أن ترى السماء إلا خلف برقع من الأسلاك الشائكة. كان من الصعب عليّ أن أتجرّع تلك الزرقة الفائضة دفعة واحدة. ولكن الأهل والأصدقاء ساعدوني كثيراً، وبخاصة أخي الأصغر الذي اخترتُه معلِّماً لقرابة أربعة أشهر. كنت ألتزم بتوجيهاته كأي تلميذ مهذَّب ونجيب.

س 23- هل تشعر أن الأدب يمكن أن يغير الأشياء؟ أن الأدب والشعر لهما أهمية حقيقية؟

ج 23- استمرار الأدب منذ آلاف السنين حتى اليوم يشير إلى أهميته أو ضرورته. أما أن يكون قادراً على إحداث تغييرات كبيرة في الواقع، فذلك ليس دوره وليس من شأنه. قد ينعكس تغيير الأدب بصورة سريعة لدى كتَّابه أو قرًّائه وهم أقلية عبر التاريخ. تأثير الأدب عموماً ليس متعجِّلاً، فهو عابر للزمن ولكنه دؤوب بالمعنى البعيد والعميق والاستراتيجي. لكل أمة خطوط دفاع متعددة. الأدب والثقافة بالإجمال هي خط الدفاع الأخير لدى أي أمة، إن سقط سقطت الأمة.

س 24- كيف تشعر اليوم عندما تقرأ شعرك من فترة وجودك في السجن؟

ج 24- لدي قصائد عديدة كتبتها وأنا في السجن، ولكن موضوعاتها لا علاقة لها بالسجن. قصاذد أشبه بفسحات حرية. وحتى القصائد التي تتحدث عن السجن أستطيع قراءتها بوصفها شعراً لا تاريخاً ولا مذكرات. أما كتابي أو مذكراتي عن تجربة السجن فأتمنى أن لا أضطر إلى قراءة شيء منه. هذا الكتاب أنجزته وأنا في السجن، وكان ذلك مرهقاً، لأني استعدتُ فيه تجربتي كاملة ومكثَّفة خلال فترة كتابته التي لم تتجاوز مئة يوم، واضطررت لتهريبه على ثلاث نسخ مكتوبة على ورق السجائر، ثم انتظرت سنوات طويلة لعل ناشراً عربياً يتجرَّأ على نشره، إلى أن أتيح لي أن أنشره مترجماً إلى السويدية أولاً، وبعد ذلك بشهور صدرت الطبعة العربية. أشعر كأني كتبت ذلك الكتاب من أجل الآخرين أولاً. أمّا قصائدي فقد كتبتها من أجل نفسي أولاً.

س 25- ما نوع القصص والأساطير التي سمعتَها عندما كنت طفلاً – وهل رواية تلك القصص أثّرت على أدبك لاحقًا، وكيف؟

ج 25- هناك قصص كثيرة موضوعها خطورة المرأة منذ حواء التي أغرت آدم بأكل التفاحة، فكانت سبباً في غضب الله وطردها هي وآدم من الجنة وإنزالهم إلى الكرة الأرضية التي نعيش عليها الآن نحن أحفادهما الوارثين لخطاياهما. ولهذا هناك قصص تُماهي بين المرأة والشيطان، وقصص تماهي بين المرأة والأفعى أو الحيَّة رغم أن الحيّة في اللغة العربية ذات دلالة إيجابية، فهي مشتقة من الحياة، وتجدِّد جلدها مراراً، وتمتلك سماً يدخل في تركيب الأدوية، ولكن المجتمع الذكوري يبرّئ آدم ويلقي مسؤولية كل شر على حواء. طفولتي لم تقبل هذا الهراء، وربما من هنا انبثق موقفي المتعاطف مع المرأة في مواجهة ظلم الرجل لها، بل ربما من هنا انبثق موقفي المنحاز لأمي حين يحدث خلاف بينها وبين أبي. بالطبع كان هناك قصص وأساطير تتعلق بالجنّ وببعض الرجال الذين منحهم الله كرامات خاصة، فمنهم من هو “من أهل الخطوة”، أي أنه إذا مشى هو وسيارة من القرية إلى المدينة فإنه سيصل قبل السيارة. ولكن أجمل القصص كانت تلك التي تحكي عن الفرسان وبخاصة الشعراء منهم ونبل مواقفهم وكرمهم وشجاعتهم وإغاثتهم للملهوف ومساعدتهم للضعيف، وجرأتهم على مواجهة الظالم. أعتقد أن جزءاً مهماً من سيرة حياتي وكتابتي إنما كانت منابعه من تلك القصص والأساطير.

س 26- قلت إنك كنت تهرب إلى مكتبة المركز الثقافي. ماذا تعني لك تلك المكتبة. ما نوع الأدب الذي قرأته ، وما الذي أثر فيك أكثر؟

ج 26- قبل مكتبة المركز الثقافي في مدينة حمص كانت حالي مع الكتب كمن يتناول وجبة واحدة فقيرة كل بضعة أيام. أما في هذه المكتبة فقد كنت أتناول في اليوم الواحد كتابأً أو اثنين وأحياناً ثلاثة. أعتقد أني قرأت كل ما في المكتبة من دواوين شعر بدءاً من عصر ما قبل الإسلام وانتهاء بالشعر المعاصر، كما أتيح لي أن أقرأ كل الكتب التي لها علاقة بنقد الشعر. بعد ذلك التفتُّ إلى الروايات العربية ولا سيما تلك التي شاهدتها سابقاً كأفلام سينما. أما في الروايات المترجمة فإن كازانتزاكي كان أكثر من شدّني وأثر بي حتى شعرياً. كنت أشعر أن أجواء رواياته قريبة إلي أو إلى رغباتي وأحلامي، ولهذا استطاعت رواياته أن تؤثر في خيالي ولغتي وشعري. قد يكون غريباً أن يتأثر شاعر بروائي وليس فقط بشعراء، ولكن هذا ما حدث معي.

س 27- كيف كان رد فعل والديك عندما انتقلت إلى المدينة وأصبحت جزءًا من المشهد الأدبي؟ هل قبلوا طريقتك في الحياة في النهاية؟

ج 27- بعد أول قصيدة لي نُشِرت في جريدة المدينة تغيَّرت قناعة أمي وإخوتي فأصبحوا واثقين أن ما أكتبه ليس لعباً ولا عبثاً، بل وله مردود مالي أيضاً. أمّا أبي فقد أبدى تجاهلاً للأمر، ولكنه أخذ يتعامل معي بوصفي شاباً لا طفلاً. حين كنت في الصف الثالث الثانوي تقدمت إلى مسابقة شعرية، وطلبت من أصدقاء والدي أن يأتوا ويُحضِروا أبي معهم إلى المركز الثقافي في حفل إعلان النتائج. كنت أعرف من خلال إعلان عناوين القصائد التسع التي وصلت إلى نهاية المسابقة أن قصيدتي واحدة منها. فوجئت كثيراً حين أعلنت لجنة التحكيم أني أنا الفائز الأول. لم يستطع والدي تمالك نشيجه المسموع على الملأ، وكنت مشتَّتاً ما بين فرحي بالفوز وبين حزني على والدي الذي لم أره في حياتي يبكي قبل ذلك اليوم.

س 28- عندما نشرتم المجلة في الجامعة هل كنت على علم بالمخاطر التي تقْدِم عليها؟ لا بد أنك قد امتلكت الكثير من الشجاعة.

ج 28- لم يخطر في ذهني حينها أن الأمر يحتاج إلى شجاعة بل إلى أخلاق. بالطبع كنت أفترض أن إصدار المجلة له مخاطره، في حال كشفت السلطات أننا نحن المسؤولون عن إصدار المجلة، وقد ندفع ضريبة ما، قد تصل إلى السجن لأسابيع وربما لشهور، ولكن لم نكن نتوقع أن يتعرض أحدنا للتعذيب من أجل قصيدة أو مجلة أدبية. يبدو أننا مهما حاولنا أن نتصوَّر مدى الانحطاط الذي يمكن أن يبلغه الاستبداد، فإنه في الحقيقة والواقع أكثر انحطاطاً.

س 29- لماذا في اعتقادك أنه كان من الأهمية بمكان أن يقوم النظام بإغلاق مجلة أدبية؟ لماذا شعروا أنهم مهددون بذلك؟

ج 29- أعطانا التاريخ نماذج لديكتاتوريات عسكرية أو سياسية أو دينية أو مافياوية، أو شمولية وهي الأخطر والأسوأ، لأنها تتدخّل في كل نواحي الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والفنية والرياضية، وحتى في شؤون الأهلية الجنسية للزواج أو تصريح أجهزة المخابرات لافتتاح محل حلاقة أو تصليح أحذية. نظام الأسد الأب، وابنه الوريث الآن. قلت “الوريث” لأنه ورث الحكم عن أبيه بدون أي انتخابات مما هو متعارف عليه عالمياً. كان عمر الوريث 34 عاماً حين مات أبوه، وكان عمر رئيس الجمهورية 40 عاماً حسب الدستور الذي فرضه أبوه، ولكن بعد موت الأب اجتمع البرلمان وصوَّتَ بالإجماع وخلال دقائق على تغيير المادة المتعلقة بعمر رئيس الجمهورية من 40 عاماً لتصبح 34 عاماً. بالطبع من المعروف وربما المألوف أن الأنظمة الملكية وراثية، ولكن نظام الأسد استطاع أن يقدِّم للبشرية نظاماً جمهورياً وراثياً جاء إلى الحكم على أبراج الدبابات وليس عبر صناديق الانتخابات. نظام كهذا هشٌّ إلى درجة يخشى فيها من قصيدة أو مقالة أو مسرحية، نظام كهذا لا بد أن يكون ممتلئاً بعقد نقصه، الأمر الذي يدفعه إلى وهم الألوهة التي لا تقبل غمزاً أو لمزاً أو مجازاً لغوياً أو تعدّياً على ممتلكاتها واحتكاراتها التي من بينها احتكار كل وسائل النشر والإعلام، حتى لوكانت مجلة أدبية بسيطة تصدر كل فصل مرة كمجلتنا التي غامرنا ونشرنا منها تسعة أعداد.

س 30- أنت تقول أن الكتب والأقلام والورق كانت محظورة في السنوات الأولى في السجن. كيف بقيت على اتصال بالأدب والشعر خلال تلك السنوات الطويلة؟

ج 30- بالنسبة لي، أنا كنت محروماً من الزيارات والأقلام والأوراق والكتب والجرائد، أعني مفصولاً تماماً عن العالم الخارجي خلال أول ست سنوات. أجدادي قبل 2000 عام عاشوا أيضاً بدون أقلام وأوراق وكتب، ومع ذلك أوصلوا لنا شعراً عظيماً تناقلوه شفاهاً. كان عليّ أن أعيد سيرة أجدادي قبل الإسلام وأنا في أواخر القرن العشرين. ولكن من جانب آخر كان بين الرفاق الذين كنت معهم في السجن موسيقيون ورسّامون ومخرجون مسرحيون وأطباء ومهندسون وخبراء لغات في الإنكليزية والفرنسية والألمانية والروسية، واختصاصيون في الكيمياء والرياضيات والجيولوجيا والعلوم الدينية والكهرباء والميكانيك، وكان بيننا شيوعيون ومسلمون ومسيحيون وعرب وكرد وأرمن وشركس وآشوريون. كنت أستمع إلى محاضرات في الهندسة والطب والتمريض واللغات، وكنت أدعو إلى محاضرات في قواعد اللغة العربية والشعر وموسيقاه. تنوّع اختصاصاتنا واهتماماتنا ساعدنا على تجديد وإغناء مشاعرنا ومعارفنا. أعتقد أن السجن كان يضم اختصاصيين يفوقون ما تمتلكه أي جامعة سورية. أما أنا فكنت أذهب إلى كل مهتمّ في الشعر وأسأله أن يسمعني شيئاً مما يحفظ، كما كان كثيرون يأتون إلي ويسألونني عن رأيي في بيت شعري أو قصيدة أو شاعر، فبقيت ذاكرتي يقظة وندية.

س 31- أخبرني المزيد عن تلك القصيدة التي كنت مهووسًا بها خلال أيامك الأولى – هل كتبتها لاحقًا؟

ج 31- بعد العديد من جولات التعذيب التي لا تستطيع أن تتحملها حتى الخيول، شعرت أنهم ينوون قتلي ببطء، ولم يكن لدي أي أداة تسهِّل عليّ وضع حدّ لحياتي. تذكّرت حينها شاعراً عربياً، اسمه مالك بن الريب، قال قبل 1300 عام قصيدة مشهورة رثى فيها نفسه حين شعر باقتراب منيَّته. القصيدة مضمَّنَة في المناهج المدرسية في سوريا. شعرت أن عليّ أن أرثي نفسي كما فعل ذاك الشاعر، ولم يكن يهمني إن كان هناك من سيستمع إلى القصيدة أو يحفظها وينشرها بعدي. من حسن الطالع أني بقيت حياً، وأني استطعت بعد 8 سنوات أن أهرّب القصيدة مع مجموعة أخرى من القصائد، واستطاع رفاقي وأصدقائي في الخارج نشرها في بيروت.

س 32- أخبرني كيف تمكّنت من تهريب شعرك من السجن الى الخارج – كيف كانت آليّة التهريب ؟ و هل حدث أن ضبطوك في إحدى المرّات؟

ج 32- كان لدينا فائض من الممنوعات. ممنوع على السجين أن يخرِج ولو رسالة لأمه أو ابنه، ولكن كان لدينا أيضاً فائض من الوقت للتفكير والتجريب واختراع طرائق تهريب. بين حين وآخر يكتشفون إحدى الطرق، فننتقل إلى طريقة ثانية وثالثة ورابعة. في البداية كنا نكتب ما نريد على أوراق السجائر، فهي رقيقة جداً وصغيرة الحجم، ويمكن أن نضعها داخل لوحة فنية مرسومة على قطعة خشبية صغيرة. نحفر قطعة الخشب، ونضع فيها عدداً من أوراق السجائر، بعد طيَّها بالحجم المناسب، ونغلقها بقطعة خشب صغيرة بحجم الحفرة، ثم نحفّها على الجدار حتى يغدو سطحها أملس، ثم نرسم عليها منظراً طبيعياً بسيطاً. حين انكشفت هذه الطريقة انتقلنا إلى طرق احتياطية. السجناء في سوريا دائماً لديهم خطة تهريب 1 ثم 2 ثم 3 إلخ. بالطبع هناك طرق كثيرة لا أرغب في أن أتحدث عنها، فقد تلزم لسجناء آخرين في بلدان ديكتاتورية أخرى. أهالينا أيضاً كانوا مضطرين إلى اختراع طرائق تهريبهم، وأيضاً لن أكشف أسرارها. حين زرت سجن ماريا فرِيد، وعرفت أن السجناء يمكن أن يكتبوا الرسائل وأن يتحدثوا مع أهلهم وأن يزوروهم في عطلة نهاية الأسبوع، لم أعرف إذا كان علي أن أبكي أو أضحك. السجين السياسي في سوريا لا يستطيع أن يحلم ولو بجزء بسيط من حقوق السجين القضائي أو العادي في السويد. أنا كنت من المحظوظين الذين لم يتمّ ضبطهم في تهريب ما هرّبوه.

س 33- ما هي دوافعك وأهدافك من تهريب مؤلفاتك إلى العالم الخارجي؟

ج 33- لا شيء أكثر من أن يعرف من هم خارج السجن حقيقةَ النظام وممارساته. لم أكن أريد أن أموت وأنا صامت. بالطبع كنت أفترض وأحلم أن تأتي في المستقبل ظروف وأجيال جديدة تضع نهاية للاستبداد، وتتعامل مع كتاباتنا بالصورة المناسبة.

س 34- أنت تقول انك قد اتخذت من أخيك الأصغر معلِّماً لك بعد إطلاق سراحك. ماذا كان عليك أن تتعلم بعد تلك السنوات الطويلة في السجن؟ ما الذي كان قد فُقِد بالنسبة لك؟

ج 34- لا بد، خلال 14 عاماً من غيابي عن العالم، أن الأمور والناس والعلاقات تغيّرت كثيراً، ولا بدّ أني صرتُ أمّيّاً أو من أهل الكهف كما في الأسطورة القرآنية. لقد نسيت في تلك السنوات ما يقال في طقوس الفرح من زواج وولادة ونجاح، ولا ما يقال في طقوس الحزن والموت. كما أني لم أعد واثقاً من طريقة اختياري لملابسي أو طريقتي في المشي. حتى قاموسي اللفظي اليومي تغيّر. في السجن لا يحتاج المرء لأكثر من بضع مئات من الكلمات. لهذا كنت أتسلق إلى النوافذ الصغيرة العالية لألقي نظرة خاطفة ثم أعود لأتذكّر بصوت مسموع أسماء الأشياء التي رأيتها من جبل وواد وسهل وسفح وطريق وطائر وشمس وريح وتراب وألوان وسيارات وشجر ومئات المفردات من هذا القبيل. باختصار لقد فقدتُ مع تراكم الزمن أجزاءً كبيرة من نفسي، وكان عليّ استعادتها بصورة هادئة وعميقة وعقلانية.

س 35- قل لي كيف انتهى بك المطاف إلى برنامج “كاتب المدينة الحرة” في السويد؟ وهل كنت تخشى في ذلك الوقت في سوريا أن يتم سجنك مرة أخرى؟

ج 35- السوري في عهد نظام الأسد هو إما سجين سابق أو سجين راهن أو سجين محتمَل. لذلك كنتُ دائماً خائفاً من الاعتقال، ولكني كنت خائفاً أكثر من أن يحوِّلني الخوف إلى شخص تافه لا يفكر في أبعد من أن يأكل ويتبرّز وينام. لذلك كان قراري أن لا أغادر سوريا مهما كانت المخاطرة تنطوي على احتمال إعادة اعتقالي. في 2003- 2004 كنتُ أدرِّس مادة الشعر العربي القديم في جامعة ليدن في هولندا. حينها جاءتني دعوة من الملتقى العالمي للثقافات في برشلونة. هناك التقيت بكثيرين من أعضاء نادي القلم العالمي، وفوجئت أنهم كانوا يتابعون وضعي وأنا في السجن. بين أولئك كانت الروائية السويدية ماريا موديج، وكانت حينها رئيسة لجنة “كُتّاب في السجن”. سألتني ماريا عن رأيي في أن أكون ضيفاً على مدينة ستوكهولم لمدة عامين. قلت لها أني مشتاق لأهلي ولسوريا، فأنا لم أرهم ما يكفي بعد خروجي من السجن، ولكني يمكن أن ألبي الدعوة لو كانت لمدة ثلاثة شهور. قالت لي ماريا بصورة جازمة أن الدعوة لسنة أو لسنتين فاعتذرت لأني على وشك أن أعود من هولندا إلى سوريا، ولكن لو كانت الدعوة بعد عام فسأوافق بالتأكيد. أمهلتني ماريا عاماً ثم كتبت لي أن نادي القلم جاهز لاستقبالي في ستوكهولم. وهكذا جئت إلى السويد، وبعد بضعة شهور صدر “بيان بيروت دمشق- دمشق بيروت” بتوقيع 164 كاتباً لبنانياً و146 كاتباً سورياً، وكنت أحد الموقّعين، فاعتقل النظام السوري عدداً من الموقعين وسّرح عدداً من وظائفهم، واستدعى عدداً للتحقيق معهم، وصرتُ أنا مطلوباً، فقررت أن لا أعود إلى سوريا.

س 36- صف لنا بداية وجودك في السويد، وما إذا كان هناك فرق أو اختلاف عن حياتك في سوريا؟

ج 36- طلبتْ مني الشاعرة اللبنانية جمانة حداد أن أكتب لزاويتها الصحفية في جريدة النهار اللبنانية ملخَّص يوم من حياتي في السويد. نعم يحتاج سؤالك لمقالة مستقلة، وربما لكتاب. ولكن باختصار. إن أهم ما رأيتُه في السويد، كنت أرى عكسه أو نقيضه في سوريا. يمكنني أن أقيم أنساقاً وقوائم طويلة من المتناقضات من قَبيل: حياة موت- حرية سجن- اطمئنان قلق- خصب قحط- غابات صحارى، وباختصار أكبر: قوة القانون هنا وقانون القوة هناك.

س 37- متى قررت البقاء في السويد؟

ج 37- في شهر أيار 2006 اعتقل النظام السوري عدداً من أصدقائي الكتّاب ممن وقّعوا على “إعلان بيروت دمشق- دمشق بيروت”، وطلب مني بعض الأصدقاء أن أبقى في ستوكهولم, قلت بل سأعود حتى لو اعتقلني النظام. قالوا لي أن النظام على الأرجح لن يعتقلني، ولكن يمكن أن يدبّر لي حادثة سير تنهي حياتي، وبعدها يقوم أحد المسؤولين بتعزية أهلي بوصفي شاعراً وطنياً محترماً. هذه الأمور ترافقت مع تقارير طبية تقول أن لدى ابني، الذي كان عمره قرابة 27 شهراً، نوعاً من التوحُّد. لا يوجد في سوريا خبراء ومراكز متخصصة بالتوحُّد، وفكّرتُ أني لو عدت إلى سوريا وكان مصيري السجن، فما الذي سيحلّ بصغيري. خفتُ أن أعرِّضه لتجربة مشابهة لتجربة أخته التي كان عمرها ثلاث سنوات ونصف حين اعتقلوني، وحين أفرجوا عني بعد 14 عاماً كانت ابنتي على مشارف الجامعة. كان يمكن لي أن أغامر بنفسي، ولكني لا يمكن أن أغامر بابني وأنا أستطيع إنقاذه عبر قرار أن أبقى في السويد.

س 38- أنت تعيش في ستوكهوم الآن ، كيف انتهي بك الأمر هناك؟ وهل لديك أي تواصل مع المشهد الأدبي هناك؟

ج 38- لسوء الحظ أني جئت إلى السويد وعمري 54 عاماً، ولدي هموم ومسؤوليات كثيرة. في أول سنتين كانت خططي متعلقة باحتمالات العودة إلى سوريا، لذلك لم أكن مهتماً بتعلُّم اللغة السويدية ما دامت لغتي الإنكليزية تساعدني على تدبّر شؤوني الحياتية. ولكن حين قررت البقاء في السويد اتضح لي أنه يتوجب علي الذهاب إلى مدرسة تعليم اللغة للأجانب. كان مطلوباً مني 4 ساعات دوام في المدرسة، وأربع ساعات تدريب عملي، هذا بالإضافة إلى ساعة ذهاباً وساعة إياباً. بعد 10 ساعات لا أعود قادراً على الكتابة. سألتُ مديرة المدرسة ماذا يترتب عليّ لو رفضت المجيء إلى المدرسة، فقالت: في هذه الحالة لن تحصل على المساعدة المالية بوصفك طالباً. وهكذا قررت أن لا أذهب إلى المدرسة. علاقاتي ببعض الكتاب السويديين في ستوكهولم وأوبسالا كانت جيدة، فجميعنا يتحدث الإنكليزية. ما خسرته هو أني لم أستطع قراءتهم بلغتهم الأم، ولكنّ شاعراً كتوماس ترانسترومر مترجم كاملاً إلى العربية، وكذلك معظم كتابات برونو كو أوير، وبعض كتب ماغنوس ويليم أولسون وماري سيلكباري وينّي توندال وإيليزابت كورندال وآخرين.

س 39- متى تكتب خلال اليوم، وكيف تكتب (بالقلم أو الكمبيوتر)؟

ج 39- في حياتي في سوريا لم يكن لي مكان خاص أستطيع أن أنفرد فيه وحدي من أجل الكتابة، ولهذا اعتدت أن أكتب حين يكون جميع من هم حولي أو بقربي نياماً، وهكذا صرت مع الزمن كائناً ليلياً. الأمر ليس غريباً في بلدان الشرق. أشهر أغاني الشرق تتغزّل بالليل. وأهم الشعراء العرب القدماء قبل 2000 عام، أعني الشاعر امرأ القيس، كرّس جزءاً من أشهر قصائده للحديث عن الليل. قبل خروجي من السجن لم أكن أعرف الكومبيوتر، ولهذا كان معي دفتري وقلمي باستمرار. أول مرة وجدت نفسي مضطراً للتعاطي مع الكومبيوتر كانت في هولندا عام 2003. كان عليّ تدريس مادة الشعر العربي القديم، ومراسلة الطلبة وإرسال بعض الوظائف واستقبالها عبر الإيميلات. أنشأت إيميلاً وتدرّبت على التعاطي معه على مضض، فأنا ابن شرعي للقلم والورقة. مع الزمن اقتنعت أنني يمكن أن أكتب المقالة على الكومبيوتر مباشرة. لاحقاً صرت أكتب القصيدة على الكومبيوتر كما على الورقة تماماً، ولكن رغم ذلك ما زلت بين حين وآخر أجلس مع قلمي وأوراقي في خلوات سرية تشبه خلوات الصوفيين.

س 40- هل لديك مكان عمل؟

ج 40- نعم. المطبخ بالنسبة لي هو مكان العمل المناسب. منذ أعوام لم أجلس في الصالون مثلاً.

س 41- هل لديك طقوس معيَّنة تمارسها قبل الكتابة أو أثناءها؟

ج 41- لا شيء سوى أن آخذ قسطاً وافراً من النوم. منذ طفولتي وأنا أحتاج ل 8 أو 9 ساعات نوم على الأقل.

س 42- كيف تأتيك الكلمات والأفكار؟ كيف تعمل على قصائدك؟ هل هي تنبثق من تلقاء نفسها، أم أنها تستغرق شهورًا من العمل؟

ج 42- هناك قصائد لا تستغرق معي سوى وقت كتابتها، وهناك قصائد استغرقت معي 3 سنوات. ولكن بشكل عام تنبع القصيدة في داخلي بسهولة، غير أني أشعر بالخوف من اتخاذ قرار بنشرها إلا بعد زمن يبلغ أحياناً سنوات من التردد والتدقيق والتنقيح.

س 43- ما نوع الموضوعات التي تعمل عليها الآن؟

ج 43- أشتغل في الوقت الحالي على كتابة ومعالجة البداهات الغامضة أو المهملة في قيعان اللاوعي أو تلك التي يتجاهلها من يعصبون عيونهم بعصابات سميكة من الآيديولوجيا والأصوليات بأنواعها الدينية والقومية والأممية.

س 44- متى من المخطَّط أن تنشر كتابك القادم، وهل يمكنك إخبارنا بأي شيء عنه؟

ج 44- منذ سبع سنوات لم أنشر أي كتاب، ولكن في عام 2020 نشرت ثلاثة، وفي عام 2021 قد أنشر كتابين، أحدهما شعر أحاول الآن وضع اللمسات الأخيرة عليه. أستطيع تسمبة هذا الكتاب مغامرة شعرية، فأنا شاعر يتقن الأصول قبل وبعد دراستي الجامعية في قسم اللغة العربية في جامعة دمشق، ولكني الآن أتحرر من كلّ ما تعلّمته في حياتي عن الشعر وعن غيره. بدقة أكثر، أشعر أن من كتب قصائد هذا الكتاب هو شخص آخر يسكنني، وأعترف أن هذا الشخص أشعر مني.

*مجلة الكاتب التي يصدرها اتحاد الكتاب في السويد/ العدد الأول