حوار حول المخفي من الرسائل بين الأدباء

0

هذا الملف يعرض مقالات ثلاثة تلقي الضوء على جانب من الرسائل المخفية بين بعض الأدباء، وسوف تدرج هذه المقالات وفقاً لتسلسل نشرها من الأقدم حتى الأحدث:

واسيني الأعرج: السرّ الغائب في الرسائل العربية؟ 20/4/2021 (القدس العربي)

تزخر الآداب العالمية بالرسائل، بمختلف أشكالها وأغراضها، والجمهور الذي تستهدفه، لدرجة أن أصبحت اليوم فناً قائماً بذاته. قوة الرسائل أنها تكشف خفايا الإنسان وتعطشه للمعارف، بما في ذلك معرفة الذات في مختلف تحولاتها. لقد كتب مونتيسكيو «رسائل فارسية» الخيالية بين مسافرين فارسيين أزوبك وريكا. ونُشرت في 1721 في أمستردام، انتقد فيها المجتمع الفرنسي بحدة، بعيون المسافرين الشرقيين. كتب أبو العلاء المعري (973-1057) «رسالة الغفران» الوجودية ووجهها إلى ابن القارح، منتقداً فيها عقليات الغيب، مفككاً يقين الأشياء، واضعاً قارئه أمام حيرة وجودية حقيقية.
وكتب ابن حزم الأندلسي (994-1064) رسالته العظيمة في الحب: طوق الحمامة في الألفة والإيلاف، التي فككت الحب ووصفت أشكاله بدقة. وكتب إخوان الصفا رسائلهم السرية: رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء، التي بشروا فيها، في القرن العاشر، بنظم ثقافية وسياسية جديدة. كتب الشيخ النفزاوي، أبو عبد الله بن محمد (ق15) رسالته: الروض العاطر في نزهة الخاطر، بناء على طلب عبد العزيز الحفصي، حاكم تونس، وكان واحداً من أخطر الكتب ليس في الجنس كما يعتقد الكثيرون، ولكن في التربية الجنسية. أبو حيان التوحيدي (ق10) كتب رسالة من نوع آخر، رسالة الحرق أو اليأس، وأخبرنا فيها كيف أن حرفة الوراقة التي أدركته كانت قاسية عليه ومنعته من الحياة، فأحرق كل كتبه ثم اختلى ليكتب نصه العظيم «الإشارات الإلهية». رسالته هي صرخة يأس في عالم لم يحفل بالأدب والأدباء. كل هذا تزخر به آدابنا العربية لدرجة أن أصبح أدب الرسائل ظاهرة حقيقية تستحق التوقف والدراسة لمعرفة ما يتخفى وراءها.
القصد هنا، بالدرجة الأولى، الرسائل العاطفية الحميمية التي تؤنسن الكاتب الغارق عادة في يوميات الكتابة القاسية. نحن لا نعرف إلا جهده الأدبي والفني وننسى أن وراء ذلك تاريخاً حياً وإنساناً تألم كثيراً.
حتى السير الذاتية تكاد تنعدم، بينما الآداب العالمية تزخر بذلك. يمكننا أن نجد رسائل الكتاب العالميين فيما بينهم التي تكشف وجهاً خفياً غير معروف، وكثيراً ما تجمع وتنشر بعد وفاة الفاعلين الثقافيين. وتشترك في ذلك إرادات كثيرة تتعامل مع شخصية أصبحت ملكاً عاماً وليس فقط للعائلة. وقد يكون الأهل سنداً حقيقياً للباحثين في عمليات جمع المتفرقات، ولولا رسائل فرجينيا وولف مثلاً، ما تعرفنا حقيقة على الكاتبة في عز تناقضاتها، وحرفتها الكتابية، وانشغالاتها الإبداعية والآلام التي عانتها قبل انتحارها. بقراءة رسائلها مع أصدقائها، أو من أحبتهم، نتعرف بشكل عميق على المؤديات السرية والغامضة التي حكمت حياتها.
نكتشف من وراء الرسائل، المرأة المتميزة، والغيورة، والذئبة الشرسة المحبة لنفسها. ولنا أمثلة كثيرة في الآداب العالمية، مثل رسائل جورج صاند، مارغريت دوراس، هنري ميلر، وغيرهم كثيرون، حيث عبرت الكاتبة كما عبر الكاتب عن جوانبه السرية التي كثيراً ما يتعرف عليها القارئ بعد وفاة الكاتب. حتى السياسيين أيضاً لم ينفذوا من ذلك، مثال رسائل فرانسوا ميتران وعشيقه آن بانجو (1218 صفحة) التي شكلت حالة مميزة كتابياً وصف فيها تجربته الحميمية. يكاد هذا النوع العاطفي والإنساني ينتفي من ساحاتنا الثقافية، إذ يُنظر لموضوع كهذا من زاوية واحدة ووحيدة وهي الزاوية الأخلاقية. قد تعيش المرأة المبدعة أو الرجل، على حد سواء، تجربة حياتية تخترقها اللحظات الأكثر إنسانية، تشترك فيها «الخيانات الصغيرة» فلا حق لهما في الحديث عنها.
باسم الأخلاق، يعودان بها إلى قبر المنتهى. من منطلق الخوف ولكن أيضاً أن رسائل كهذه ليست ملكاً عاماً ولكنها من حيميات شخصين فقط، مع أن مثل هذه الرسائل تكشف عن رحلة الإنسان الوجودية في عالم شديد التعقيد وليس كما نراه، وتظهر ما يتخفى وراء الوجاهات الزائفة التي تلغي الإنسان من وجودها. وكلما حاول أحدهم اختراق هذا المنطق الزائف بالمعنى الثقافي، كانت مؤسسات القتل الاجتماعي في انتظاره حفاظاً على الأخلاق والأعراف والعائلة. الكرامة تنحصر في جزئية صغيرة من جسم الإنسان، وتغيب عندما يتعلق الأمر بحياة الإنسان في كليتها. ننسى أن الرسالة تعبر في النهاية عن فردية متحركة، ولا تعبر عن فعل عائلي إلا من خلال فضح آلياته المعطلة. ماذا لو قيض لمي زيادة أن تنشر رسائلها ضد جزء من العائلة التي امتهنت أحلامها وقتلتها بشكل غير مباشر؟ لنا أن نتذكر ما فعله فيها ابن عمها جوزيف زيادة. بقايا ليالي العصفورية، التي أحرقها جوزيف نفسه، وكما روتها في المستشفى لأمين الريحاني، تبين ذلك بوضوح. رسائلها للعقاد تحديداً بها الكثير من العشق والحب، وأعتقد أن عائلة العقاد رفضت؟ نشر ما «يسيء» إلى سمعته. ولم تنشر إلا رسائلها مع جبران، لأنها متباعدة ومتسمة بعذرية وهمية، لا جبران الذي كان يعيش وسط حديقة من النساء في أمريكا كان عذرياً، ولا مي زيادة في علاقتها بصديقها الإيطالي الذي لا أحد يتحدث عنه وكانت تسافر إليه باستمرار، ولا بالعقاد، كانت عذرية. ماذا لو جمعت كل رسائلها لكشفنا من وراء الشخصية عصراً بكل عقلياته المتحجرة والمتنورة، وصراعاته النفسية، حيث الأفراد فيه مقيدون بشرطيات الزمان والمكان، علماً أني لا أصنف رسائل جبران مع مي برسائل الحب، ولكنها أقرب على الإخوانيات التي تخترقها المحبة والاحترام والرغبة في التعرف أكثر على الآخر. ربما كانت اللحظة المتفردة تاريخياً هي ما قامت به غادة السمان عندما نشرت رسائل المناضل العظيم والكاتب الفذ غسان كنفاني (2009). لكن التجربة ولدت مبتورة، إذ لا نجد في الكتاب إلا رسائل غسان كنفاني الملتهبة عشقاً دون رسائل غادة. بمعنى، ماذا كانت تقول له بالمقابل حتى تفجر فيه ذلك البركان العشقي؟ اللغة خادعة، فهي تخفي بعض سرها للعامة، لكنها فاضحة. طبعاً، قامت القيامة يوم نشرت الرسائل، ربما لأن بعض الفاعلين في الرسائل ما يزالون أحياء، ومن بينهم زوجة كنفاني الدانماركية آني هوفر، التي كان يفترض، في زمن آخر وعقل آخر، أن تسلم رسائل غادة لغسان، وفق اتفاق مسبق مع العائلة، كما يحدث عادة.
من يعرف منا اليوم رسائل نجيب محفوظ الحميمية مثلاً لامرأة كان لها الدور الحاسم في حياته الأدبية؟ يظل هذا العالم مغلقاً بسبب المنع الأخلاقي المعمم. مثل السير الذاتية التي لا تقدم إلا فتوحات الكاتب وعظمته متفادية، وبحسابات أخلاقية مسبقة، كل ما يربك الصورة المثالية للفرد، وكأن الحب جريمة، مع أن سيرة بصدق «الخبز الحافي» لم تنقص من قيمة محمد شكري الكاتب والإنسان. متى نصل إلى الحالة التي تفتح فيها كل الأدراج المغلقة لمبدعاتنا ومبدعينا؟ كما حدث مع ماريا كازاريس، مع حبيبها ألبير كامو؟ تجربة عشق دامت اثنتي عشرة سنة. يوم وفاة ألبير كامو، وضعت ماريا رسائل كامو بين يدي ابنته كاترين، رسائله لها، وطلبت منها الحفاظ عليها أو نشرها بعد ربطها برسائلها له والموجودة لديه.
فكان كتاب من أبدع كتب الرسائل: مراسلات ألبير كامو وماريا كازاريس، التي كسرت شرنقة الفيلسوف ليخرج منها كامو الإنسان بكل جماله وعيوبه. نحتاج عربياً على زمن آخر يقاس بالسنوات الضوئية والكثير من الشجاعة، لكي نصل إلى تلك اللحظة المؤنسنة لنا قبل غيرنا.

غادة السمان: كيف أنشر ما ليس في حوزتي؟ 21/5/2021 (القدس العربي)

توقفت عند ما كتبه الأستاذ واسيني الأعرج حول نشري لرسائل غسان كنفاني قائلاً: ربما كانت اللحظة المتفردة تاريخياً هي ما قامت به غادة السمان عندما نشرت رسائل المناضل العظيم والكاتب الفذ غسان كنفاني (2009) لكن التجربة ولدت مبتورة؛ إذ لا نجد في الكتاب إلا رسائل غسان كنفاني الملتهبة عشقاً دون رسائل غادة السمان (القدس العربي 21ـ4ـ21). والأستاذ واسيني الأعرج محق في قوله إن التجربة «ولدت مبتورة»، لأنها لا تضم رسائلي الجوابية أيضاً إلى غسان. لكن لم يكن في وسعي نشر ما ليس في حوزتي.
فرسائلي عند غسان كما رسائله عندي، كما حال بقية المتراسلين، وقد وجهت أكثر من نداء قبل نشري لرسائل غسان معلنة أنني سأنشرها وطالبت الذين رسائلي في حوزتهم أن يرسلوا لي رسائلي إليه أو نسخة مصورة عنها، ولم يرد أحد على ندائي.

حاولت نشر رسائلنا معاً وفشلت!

قبل نشري لرسائل غسان كنفاني لي، وجهت النداء لمن في حوزتها/في حوزته رسائلي إليه، وقلت في ندائي المنشور للمرة الأولى بتاريخ 11ـ4ـ1989 في مجلة «الحوادث»: «أوجه النداء إلى من في حوزته (أو في حوزتها) رسائلي إلى غسان، وأرجوهم جعل نشر رسائلنا معاً ممكناً كي لا تصدر رسائل غسان وحدها ولم يرد عليّ أحد. وهكذا فأنا لست المسؤولة عن هذه «الخطوة الناقصة» بل الذين لا يرغبون في نشر رسائلي إليه، وهي رسائل تحترم وضعه العائلي، كما كتب الدكتور الكبير إحسان عباس: «تشهد رسائل غسان لغادة بأنها كانت حريصة على ألا تحطم البيت العائلي على رأس غسان، كما أنها كانت حريصة على أن تظل العلاقة علاقة حب نقي مؤبد بصلابة المرأة المتمنعة». د. إحسان عباس ـ مجلة الحصاد ـ قبرص 9ـ10ـ1992. وبالتالي يا عزيزي الأستاذ واسيني الأعرج، لقد فعلت كل ما في وسعي للحصول على رسائلي إلى غسان، ولست المسؤولة عن تلك الخطوة (التاريخية) الناقصة، كما ذكرت.

محمد شكري ونشري للرسائل

محمد شكري أحد كبار الأدباء العرب الذين قدروا خطوتي اللامسبوقة من (امرأة) كاتبة، وذلك في نشر رسائل غسان كنفاني لي، كتب يقول: «غادة كانت دائماً الأديبة الشجاعة الأولى في العالم العربي، هي رائدة الجريئات في حواراتها وإبداعاتها، صامدة ضد كل المغريات».
ورغم الهجوم عليّ لنشري رسائل غسان، قمت بنشر الرأي الآخر ضد إصداري للرسائل، أي أنني احتراماً لحرية الرأي التي أنادي بها، لم أكتف بنشر مقتطفات من المقالات المؤيدة لنشري للرسائل، بل ونشرت أيضاً مقتطفات مما نشر ضدي، وذلك في الطبعات كلها، كما الآخر رقم 12 التي صدرت عن تلك الرسائل.. وما فعلته ليس استخفافاً بالرأي الآخر بل احتراماً له، وقد أصدرت كتابي «محاكمة حب» توكيداً لذلك، فهو يضم المحاورات التي دارت معي على هامش «انفجار» نشري لرسائل غسان كنفاني لي. ونشرت في الكتاب ذاته نصين بخط الشهيد لم يتم طبعتهما في «الأعمال الكاملة» له، وهي -للأسف- ناقصة، ومؤسسة غسان كنفاني لم تنشر الكثير من أعماله المتناثرة في الصحف التي كتب فيها، كما في جريدة «الأنوار» (وكان مسؤولاً عن الملحق الأدبي)، وفي جريدة «المحرر» تحت عنوان (أوراق خاصة)، ومعظمها رسائل حب مبدعة ككل ما يكتبه غسان كنفاني.
وما زلت أتمنى جمع كتاباته كلها، بما في ذلك كتاباته في مجلة «الحوادث» تحت اسم «ربيع مطر»، ولم يكن وحده يكتب تلك الزاوية، ولعلي الوحيدة اليوم التي تستطيع أن تدلُّ عليها بعد وفاة سليم اللوزي ورياض شرارة والكثير من العاملين يومئذ في «الحوادث». ولكن بدلاً من الاهتمام بجمع تراث غسان كنفاني، كان الحرص على الهجوم عليّ أكبر، ثم إن غسان كان أيضاً رساماً تشكيلياً مبدعاً. وكنت قد احتفظت بلوحات غسان التي رسمها وأهداني إياها، وللأسف احترقت اللوحة التي رسمني فيها وكنت قد علقتها في غرفة مكتبي في قصر الداعوق حيث اختارت القذيفة أن تنفجر في الحرب الأهلية اللبنانية، وتلك حكاية أخرى تطول، وبقيت في حوزتي عدة لوحات من رسم غسان كنفاني كان قد أهداني إياها وكنت قد علقتها في غرفة أخرى ونجت من الحريق!

رسائل الرئيس ميتران إلى حبيبته

على العكس من الهياج الذي يمكن أن تسببه امرأة عربية نشرت رسائل حب لها، نجد الغرب يحتفي برسائل الحب، وأذكر كمثال أن رئيس جمهورية فرنسا ميتران، وكان عاشقاً لامرأة (وهو المتزوج والأب لعدة شبان)، وظلت علاقتهما سرية مع رئيس الجمهورية ميتران، لكنه حين أصيب بمرض السرطان واستفحل وأدرك أنه سيموت قريباً، اعترف بأبوته لشابة جميلة تحمل اسم مازارين بانجو، وقام بدعوتها للغداء في مطعم شهير في الحي اللاتيني الباريسي، كما حرص على أن يعرف بعض الصحافيين بذلك اللقاء، وهكذا نشرت صوره مع ابنته اللاشرعية أمام باب المطعم على الرصيف في جادة «سان جرمان». وحين رحل رئيس جمهورية فرنسا السابق ميتران، حضرت دفنه عشيقته، وابنته غير الشرعية احتضنتها زوجته! وبعدها، نشرت آن بانجو (عشيقته) رسائل حب ميتران لها! في الغرب يتم الاحتفاء بالحب ورسائل الحب، على العكس منا!

توهمت أنني أُشجعهُنّ… لكن!

يوم نشرت رسائل غسان كنفاني لي توهمت أن ذلك سيشجع النساء العربيات على فتح أفق جديد، وأنه سيفتح آفاقاً جديدة للأدب الشخصي الذي نفتقر إليه في العالم العربي، «فقد حان الوقت لنزع الأقنعة عن ازدواجية الروح فينا ليستقيم لنا العيش أخيراً، ونخرج من دهاليز الرياء وسراديب المواراة إلى فضاء النور والصراحة! كما كتب الدكتور عيسى بلاطة. وكتب ياسين رفاعية: «إذا كانت كل كاتبة عربية تملك جرأة غادة السمان في نشر ما كتب لهن من رسائل من كتاب وشعراء وفنانين، فإننا سوف نملك شاشة جديدة في أدبنا المعاصر ما زالت خفية. وإقدام غادة على نشر رسائل غسان خطوة رائدة». وللأسف، فإن إصداري لرسائل غسان وردّة الفعل النقدية العنيفة عليه والهجوم الذي طالني كان له فعل معاكس، ولم تنشر كاتبة بعدي رسائل حب كرسائل غسان كنفاني لي.
إنه «الإرهاب الفكري» الذي يجعل الخطوات كلها «مبتورة»، كما سماها بحق الأستاذ واسيني الأعرج!

واسيني الأعرج: مِعْطَفُ غَادَة السَمّان: كَبيرتُنا التي علَّمتْنا السِّحر 2/6/2021 (القدس العربي)

هل يشبه معطف غوغول، وهل نشبه أكاكي، بطل المعطف، حياً وشبحاً؟ لا أعتقد، معطف غادة السمان شفاف، يكشف كل الجراحات التي خلفها التاريخ في حربه ضد المرأة حينما حارب أنوثتها بإخفائها تحت الأطنان من عقد التاريخ وصخوره البركانية المحروقة. كتبت غادة كثيراً، وملأت الساحة العربية باستحقاق. منجزها الأدبي شاهد إلى اليوم على جهودها الإبداعية وعلى خياراتها القومية، على الرغم من انسحابها من ساحة ثقافية مرتبكة، في وقت مبكر. مكانها الذي تركته منذ أعمالها الأخيرة ظلّ شاغراً، لم يملأه آخر غيرها، على الرغم من الأجيال المتعاقبة. ثمة امرأة اسمها غادة السمان لم تكن عادية، كتبت «بيروت 75» (1974) بأفق مفتوح وحساسية ثقافية لامست الحرب الأهلية حتى قبل اندلاعها بسنة، وكتبت «كوابيس بيروت» (1976) ووضعت الجنون اللبناني في مرمى البصر العربي المغمض العينين والمخ، و»الرواية المستحيلة (فسيفساء دمشقية1)» (1997) و»يا دمشق وداعاً (فسيفساء دمشقية2)» (2015) لاسترجاع زمن مات، أو كاد، و»سهرة تنكرية للموتى» (2003) التي توقعت فيها انهياراً مدوياً لبيروت، وغيرها من النصوص السابقة، لا يمكن لامرأة مثلها أن تتوقف عند حافة انهار فيها كل ما يحبط بنا دون أن يتجدد التساؤل: هل كنا في وهم جميل، نتغنى بعالم عربي أعقد مما تصورناه؟ عالم يسبح في دائرة تخلف أصبحت جزءاً منه، بل تكاد تكون دينه الأرضي، في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بالمعتقدات الشعبية، بالمؤسسة الدينية التي أوقفت أي اجتهاد. وكأن غادة اختارت بعزلتها، بدل الدوران في طاحونة الفراغ، أن تدور في فلك سري وحدها تعرف معناه وجدواه وحدوده أيضاً، وربما مآلاته، في صمت وأناة كالساماراي الذي يتهيأ لطعنة الخصر القاتلة.
اللمسة العظيمة التي تركتها غادة السمان على الأدب العربي، والأدب النسوي (المفهوم غير دقيق) تحديداً، كانت عظيمة، وما زالت الكثيرات يدن لها بالكثير، وإن لم يصرِّحن بذلك. فقد عملت على شيء أعظم من تحرير المرأة من قيد اليومي الثقيل، بمنحها مساحات نصية لم تكن متاحة، لكنها حررت أو عملت على أداة التعبير الجريحة، اللغة العربية. جاهل من يقول إن اللغة العربية عاجزة عن المحمولات الإنسانية أو الحسية، وأن قرون الرمل التي كبرت فيها وتمرغت داخلها تمنعها من رؤية الماء والخضرة والجسد بمعناه الأكثر اتساعاً الذي يشمل جسد الأرض في جراحاتها المعلنة والسرية، والجسد الإنساني، والأنثوي تحديداً، لأنه الأكثر تعرضاً للاغتصاب الفعلي والرمزي. غادة السمان حررت اللغة بإعادتها إلى جوهرها الأنثوي الجميل والشعري الدافئ والمدهش. فقد منحت كاتبات وكتاب اللغة العربية لغة حية وشهية أيضاً، تشبههم في أحلامهم المؤجلة، في دواخلهم وفي يومياتهم، لغة قريبة من سحر الحياة، وبعيدة عن فتاوى القيامة وصكوك الجنة والغفران. وكسرت حجر الصوان الذي أثقل اللغة العربية ردحاً من الزمن. تكاد تكون غادة السمان هي الكاتبة الوحيدة التي جعلت من اللغة المادة الحيوية التي نكتب بها جميعاً، وحررتها من ثقل الرمال والأعشاب الضارة وشح الماء، والأصداء الثقيلة. ألا تستحق أن تكون الكبيرة التي علمتنا السحر كله؟
ما قالته غادة، من وراء ردها عن مقالتي «السر الغائب في الرسائل العربية» (القدس العربي 20 أبريل 2021) ينم عن حالة غبن مضمرة من وسط ثقافي شديد الصعوبة والقسوة واللاتسامح، وكثيراً ما يني آراءه الإقصائية على مسبقات تحتاج إلى بحث حقيقي قبل التسليم. أتذكر جيداً المعارك العاصفة التي قامت بعد صدور كتابها «رسائل غسان كنفاني» (1992) وكانت كبيرة واتخذت منحنين، المنحنى الأخلاقي الذي وضع غادة في دائرة الاتهام وحملها مسؤولية الإساءة لميت نشرت أسراره على الملأ حتى ولو بررت ذلك في مقدمة الكتاب أنه ليس أكثر من تنفيذ لوصية جمعتهما وأنه على الذي يستمر في الحياة أن ينشر هذه الرسائل. المنحنى الثاني يتعلق بشخصية أدبية وسياسية لها رمزيتها الكبيرة في العالم العربي، والفلسطيني تحديداً. وكأن غادة بنشر الرسائل يومها، مارست اعتداء ضد مقدس، وحوّلت الجنرال إلى جندي بسيط في عز المعركة المصيرية؟ بينما يتعلق الأمر أولاً وأخيراً بإنسان، يحب ويكره كما جميع البشر. وكأن الحب ينقص من قيمة البطل وسمعته؟
من الصعب عليّ ألا أتذكر ما حدث للشاعر الرواسي الأسطوري ماياكوفسكي، يوم انتحاره. فقد رفضت المؤسسة الرسمية هذا الانتحار. الأسطورة ليست إنساناً لكي تنتحر حبّاً وعشقاً. تذكُرُ فيرونيكا بولانسكايا، حبيبته الأخيرة، في مذكراتها التي صادرها أمن ستالين، لأنها كانت الشاهد الأخير على انتحار الشاعر. يوم نشرت المذكرات في ثمانينيات القرن الماضي، مع إصلاحات البيريسترويكا، في مجلتي سبوتنيك والآداب السوفييتية، اكتشف العالم شيئاً آخر، عندما حان وقت ذهابها إلى المسرح، ضمت بولانسكايا حبيبها ماياكوفسكي طويلاً، ثم اعتذرت منه لأن العرض الذي يخرجه زوجها، حان موعده. طلب منها أن تبقى ما دامت تحبه، لكنها رفضت، وأصرّت على الذهاب لتأدية عرضها المسرحي. فجأة، قام من مكانه وأغلق باب الغرفة، ثم وضع المفتاح في جيبه مثل طفل معاند.. «لن تذهبي» أصرت على الذهاب قبل أن تستسلم بحزن. قال لها: خذي المفتاح، اذهبي أنّى شئت، لكن بمجرد تخطيك العتبة سأنتحر، ثم أخرج مسدسه، وصوبه نحو قلبه. كررت على مسمعه: حبيبي، عندي عرض مسرحي يعني لي الكثير، زوجي هو من يخرجه، ولا أريد أن أخيِّبه، سامحني حبيبي. ظل صامتاً، عندما فتحت الباب، عند العتبة، سمعت طلقاً نارياً جافاً. رصاصة واحدة في القلب كانت كافية لتحويل عمر من الشعر والحب إلى كومة رماد. الحقيقة التي رفعت عالياً ماياكوفسكي لأن الشاعر لم يكن صخرة، واستسلم لحبه. الكتاب الذي نشرته فيرونيكا بولانسكايا أعاد الحقيقة إلى مسلكها الطبيعي.
عندما تحدثت عن غسان كنفاني وغادة، كان المقصد واضحاً، كنت كما ملايين من القراء العرب، أحب كتاباً تاماً وغير مبتور، لكن ما العمل؟ كيف ننشر ما لا نملك كما قالت غادة؟ هذه الحسرة ملأتني وأنا أقرأ وأترجم «رسائل البير كامو وماريا كاساريس» (2017) المذهلة (1465 ص). كيف وصلت إلينا تلك الرسائل غير منقوصة؟ اقتضى ذلك توفر فريق عمل حقيقي ترأسته زوجته فرانسين وابنته كاترين، بمساعدة أصدقائه، بمن في ذلك حبيبته ماريا كاساريس التي منحت رسائل كامو لصديق العائلة روني شار، الذي منحها بدوره لكاترين كامو، التي لم تكن تحب كثيراً ماريا لكنها كانت تحب والدها جداً. فكونت فريقاً مختصاً بدأ العمل على رسائل ماريا ورسائل كامو المتوفرة، فرتبت بشكل دقيق، فكان كتاب المراسلات المدهش الذي نقرأ فيه 12 سنة من الهزات الجميلة والخيبات، و865 رسالة. نكتشف الإنسان في كل تحولاته وضعفه أيضاً. حاولت بيأس تخيل ذلك المشهد المتكاتف بين محبي الكاتب أو الكاتبة، في العالم العربي، فلم أر إلا رماد الرسائل وبقايا ذاكرة اشتعلت بقوة، ثم خفتت إلى الأبد. ربما هذا بالضبط ما أدى برسائل غسان إلى المحو والغياب؟ هل نلوم غادة على نشر الكتاب مبتوراً من روح المراسلة التي تقتضي وجود شخصين، قبل أن تقدم على الفعل نفسه مع أنسي الحاج، لكنه حب العشرينيات من العمر (1963) من طرف واحد، كتب لها لكنها لم ترد عليه بأية رسالة؟ ليس موضوع هذه المقالة.